الثلاثاء، 3 مارس 2015

جزء أول من ص69/1

عنوان الكتاب:
السيرة النبوية لابن هشام – الجزء الأول
تأليف:
أبي محمد بن عبد الملك بن هشام المعافري
ص -3-           بسم الله الرحمن الرحيم{وَبِهِ نَسْتَعِين}
الحمد للّه رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين
ذكر سرد النسب الزكي
من محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى آدم عليه السلام
قال أبو محمد عبدُ الملك بنُ هشام: هذا كتابُ سيرة رسول اللّه -صلى اللّه عليه وآله وسلم -محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب. واسم عبد المطلب: شَيْبَة1 بن هاشم. واسم هاشم: عمرو2 بن عبد مناف، واسم عبد مناف: المغيرة3 بن قصي4، بن كلاب5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا ذكر ابن إسحاق: أن اسمه شيبة -وهو الصحيح- وسمي بذلك لأنه ولد في رأسه شيبة. وأما غيره من العرب ممن اسمه شيبة، فإنما قصد في تسميتهم بهذا الاسم التفاؤل لهم ببلوغ سن الحنكة والرأي، كما سموا بهرم وكبير.
وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة وكان لدى عبيد بن الأبرص الشاعر المشهور.
ويقال: إنه أول من خضب بالسواد. وقد ذكر أن اسمه عامر، "انظر الروض الأنف بتحقيقنا طبعة عباس شقرون ص7 ج1".
2 عمرو: وهو اسم منقول من أحد أربعة أشياء: من العَمر الذي هو العُمر. أو العَمر: الذي هو من عمور الأسنان. أو العُمر الذي هو طرف الكم. أو العَمر الذي هو القُرط.
3 المغيرة: وهو منقول من الوصف، والهاء فيه للمبالغة، أي أنه مُغير على الأعداء، أو مغير من: أغار الحبل إذا أحكمه.
4 قُصى واسمه زيد، وهو تصغير قَصيّ أي بعيد؛ لأنه بعد عن عشيرته في بلاد قُضاعة، حين احتملته أمه فاطمة مع ربيعة بن حرام.
5 كلاب: وهو منقول إما من المصدر الذى هو معنى المكالبة، وإما من الكلاب جمع كلب؛ لأنهم يريدون الكثرة وقد قيل لأبي الرقيش الأعرابى: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو: كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء نحو: مرزوق ورباح، فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا: يريد أن الأبناء عدة الأعداء وسهام في نحورهم؛ فاختاروا لهم هذه الأسماء.

ص -4-           ابن مرة1، بن كعب2 بن لؤي3، بن غالب، بن فهر4، بن النضر بن كنانة، بن خزيمة5، بن مدركة، واسم مدركة: عامر، بن الياس6، بن مضر7،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرة: منقول من وصف الحنظلة والعلقمة، ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة، فيكون منقولًا من وصف الرجل بالمرارة. أو قد يكون من المسمين بالنبات فقد ذكر: أن المرة بقلة تقع فتؤكل بالخل والزيت.
2 كعب: وهو منقول من الكعب الذي هو قطعة من السمن، أو من كعب القدم، يقولون: ثبت ثبوت الكعب، وكعب هو أول من جمع يوم العروبة، ولم تسم العروبة إلا مذ جاء الإسلام وقيل: هو أول من سماه الجمعة؛ فكان يجمع قريش في هذا اليوم ويذكرهم بمبعث النبي –صلى الله عليه وسلم– ويعلمهم أنه ولده، ويأمرهم باتباعه.
3 لؤي: هو تصغير اللأى، وهو الثور الوحشي كما ذكر ابن الأنباري.
4 فهر: قيل: إنه لقب، والفهر من الحجارة الطويل، واسمه قريش وقيل: بل اسمه فهر، وقريش لقب له.
5 خزيمة: تصغير خزمة، وهي المرة الواحدة من الخزم، وهو شد الشيء وإصلاحه.
6 الياس. قال فيه ابن الأنباري: إلياس بكسر الهمزة وجعله موافقًا لاسم إلياس النبي، وقيل في اشتقاقه: إنه إفعال، من قولهم: رجل أليْس وهو الشجاع الذي لا يفر. قال العجاج:
أليْس عن حوبائه سخى
أما غير ابن الأنباري فقال: إنه إلياس، سمي بضد الرجاء، واللام فيه للتعريف والهمزة همزة وصل.
7 مضر: قال فيه القتبى. هو من المضيرة وهي شيء يصنع من اللبن فسمي مضر لبياضه، فقيل: مضر الحمراء؛ لأن العرب تسمي الأبيض أحمر.

ص -5-           ابن نزار1، بن مَعَد2 بن عدنان3، بن أدّ4.
ويقال أدَد، بن مُقَوِّم، بن ناحور، بن تَيْرَح، بن يَعْرُب، بن يَشْجُب5، بن نابت، بن إسماعيل6، بن إبراهيم7 -خليل الرحمن- ابن تارح -وهو آزر8- بن ناحور، بن ساروغ، بن داعو، بن فالخ9، بن عَيْبر10، بن شالخ11، بن أرْفَخْشَذ12، بن سام، ابن نوح13، بن لمك، بن متوشلخ14، بن أخنوخ وهو إدريس النبي -فيما يزعمون- والله أعلم. وكان أول بني آدم أعطي النبوة، وخط بالقلم -ابن يرد15 بن مهليل16،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نزار: واشتقاقه من النزر وهو القليل، وكان أبوه حين ولد له ونظر إلى النور بين عينيه وهو نور النبوة نحر وأطعم وقال: إن هذا كله نزر لحق هذا المولود.
2 معد: أخذ من المعد وهو القوة.
3 عدنان: فعلان من عدن إذا أقام.
4 أد: ويقال: أدد. قال ابن السراج: هو من الود وانصرف.
5 ناحور: من النحر، وتبرح: من الترحة. ويشجب: من الشجب.
6 إسماعيل: تفسيره: مطيع الله.
7 إبراهيم: معناه: أب راحم.
8 قيل معناه: يا أعوج.
9 ويقال فيه: فالغ.
10 عيبر: ويقال فيه عابر، وذكر الطبري: أن بين فالغ وعابر أبا اسمه قينن أسقط اسمه من التوراة؛ لأنه كان ساحرًا.
11 شالخ: معناه الرسول أو الوكيل.
12 أرفخشذ: تفسيره المصباح مضيء.
13 نوح: واسمه عبد الغفار ويقال: إنه سمي "نوحا" لنوحه على ذنبه.
14 متوشلخ: وتفسيره مات الرسول؛ لأن أباه كان رسولًا ومات، ومتوشلخ في بطن أمه.
15 يرد: وتفسيره الضابط.
16 مهليل: وقيل مهلائيل: وتفسيره: الممدح.

ص -6-           ابن قينن1، بن يانش2، بن شيث3، بن آدم4، صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدثنا زياد بن عبد اللّه البَكَّائى5، عن محمد بن إسحاق المطلبي6، بهذا الذي ذكرت من نسب محمد رسول اللّه -صلى اللّه عليه وآله وسلم- إلى آدم عليه السلام، وما فيه من حديث إدريس وغيره. قال ابن هشام: وحدثني خلاد بن قُرَّة بن خالد السَّدومي، عن شَيْبان ابن زُهَيْر بن شقيق بن ثَوْر، عن قتَادة بن دِعامة، أنه قال:
إسماعيل بن إبراهيم -خليل الرحمن- ابن تارِح -وهو آزر- ابن ناحور بن أسرغ بن أرغو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرْفَخْشَذ بن سام بن نوح بن لَمْك بن متُّوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قَاين ابن أنُوش بن شيث بن آدم -صلى الله عليه وسلم.
منهج ابن هشام في عرضه للسيرة: قال ابن هشام: وأنا -إن شاء اللّه- مبتدئٌ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ومن وَلد رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- من ولدِه، وأولادِهم لأصلابهم، الأولَ فالأولَ، من إسماعيل إلى رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- وما يَعْرِض من حديثهم، وتاركٌ ذكْرَ غيرهم مِن ولد إسماعيل على هذه الجهة، للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله -صلى اللّه عليه وسلم- وتاركٌ بعضَ ما ذكره ابنُ إسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- فيه ذكر. ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرًا له، ولا شاهدًا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارًا ذكرها لم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضُها يَشْنُعُ الحديث به، وبعض يسوء بعضَ الناس ذِكْره، وبعض لم يُقرّ لنا البَكَّائى بروايته، ومستقصٍ -إن شاء اللّه تعالى- ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قينن: وقيل: قينان، وتفسيره المستوى.
2 يانش: وقيل: أنوش، وتفسيره الصادق.
3 شيث: وهو بالسريانية: شاث، وتفسيره: عطية الله.
4 آدم: وفيه ثلاثة أقوال: أنه اسم سرياني، أو هو أفعل من الأدمة وهي السمرة، أو أخذ من لفظ الأديم؛ لأنه خلق من أديم الأرض.
5 هو: أبو محمد زياد بن عبد الله البكائي الكوفي وهو محدث مشهور.
6 هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار من المحدثين خاصة في المغازى والسير، توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة هجرية. انظر تاريخه مفصلًا هو وابن هشام في مقدمة الكتاب.

ص -7-           سياقة النسب من ولد إسماعيل عليه السلام
أولاد إسماعيل عليه السلام: قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبد اللّه البَكَّائى، عن محمد بن إسحاق المُطَّلِبي قال:
ولدَ إسماعيلُ بنُ إبراهيم -عليهما السلام- اثني عشر رجلًا: نابتا -وكان أكبرهم- وقيْذَر وأذْبُل، ومنْشا ومِسْمَعًا، وماشى، ودمَّا، وأذر، وطيما، ويَطُورا، ونَبِش، وقَيْذُما، وأمهم: بنت مُضاض بن عَمر الجُرْهُمي. قال ابن هشام: ويقال: مضاض، وجُرهم بن قحطان –وقحطان أبو اليمن كلها، وإليه يجتمع نسبها- ابن عامر بن شالخ بن أرْفَخْشَذ بن سام بن نوح.
قال ابن إسحاق: جُرْهُم بن يَقْطن بن شالخ، ويَقْطن هو: قحطان ابن عَيْبر بن شالخ.
عمر إسماعيل وموطن أمه ووفاته: قال ابن إسحاق: وكان عمر إسماعيل -فيما يذكرون- مائة سنة وثلاثين سنة، ثم مات -رحمة اللّه وبركاته عليه- ودفن في الحِجْر1 مع أمه هاجر -رحمهما اللّه تعالى.
قال ابن هشام: تقول العرب: هاجر وآجر، فيبدلون الألف من الهاء، كما قالوا: هراق الماء، وأراق الماء، وغيره. وهاجر من أهل مصر.
حديث الوصاة بأهل مصر وسببها: قال ابن هشام: حدثنا عبد اللّه بن وهب عن عبد اللّه بن لَهيعَة، عن عُمر مولى غَفْرَة2 أن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- قال:
"اللّه اللّه في أهل الذمة. أهل المدَرَة السوداء، السُّحْم الجِعاد3، فإن لهم نسبًا وصهرًا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحجر: هو حجر الكعبة وهو ما تركت قريش في بنائها من أساس إبراهيم عليه السلام حينما ضافت بهم النفقة وحجرت على الموضع ليعرف أنه من الكعبة.
2 غفرة: أخت أو بنت بلال رضي الله عنه.
3 المدرة: البلدة. والسحم: السود. والجعاد: يقال فلان جعد الشعر إذا كان فيه تكسير.

ص -8-           قال عمر مولى غُفْرَة: نسبُهم: أن أمَّ إسماعيل النبي -صلى اللّه عليه وسلم-منهم. وصهرُهم أن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- تسرَّر فيهم1.
قال ابن لَهِيعَة: أم إسماعيل: هاجر، من: "أم العَرَب" قرية كانت أمام الفَرَما2 من مصر.
وأم إبراهيم3: مارية4 سُرِّيَّة النبى -صلى اللّه عليه وسلم- التي أهداها له المقوقس من حفن5، من كورة أنصِنا6.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عُبَيْد اللّه بن شهاب الزهري: أن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك الأنصاري، ثم السُّلَمي، حدثه: أن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- قال:
"إذا فتحتم مصر، فاستوصُوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذِمة ورحِمًا". فقلت لمحمد بن مسلم الزهري: ما الرحم التي ذَكر رسول الله -صلى اللّه عليه وسلم- لهم؟ فقال: كانت هاجَر أم إسماعيل منهم.
أصل العرب: قال ابن هشام: فالعرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان، وبعض أهل اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، ويقول: إسماعيل أبو العرب كلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تسرر الرجل: اتخذ أمة لفراشه.
2 الفرما: مدينة شرق مصر كانت ميناء كبيرًا، وتعرف الآن بتل الفرما.
3 هو إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 مارية ومعناها: البقرة الفتية إذا كان اللفظ مخففًا، والملساء إذا كان اللفظ مشددًا وهي التي أهداها إلى النبي -صلى اللّه عليه وسلم المقوقس- واسمه جُرَيج بن ميناء. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أرسل إليه حاطب بن أبي بلتعة وجبرًا مولى أبي رُهْم الغفاري، فقارب الإسلام وأهدى معهما أيضًا بغلته التي يقال لها: دلدل -القنفذ العظيم- وأهدى إليه قدحًا من قوارير كان يشرب فيها. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص17".
5 حفن: قرية بصعيد مصر وهي التي رفع عنها معاوية الخراج بوساطة الحسن بن علي -رضي الله عنه- حفظًا لوصية رسول الله ورعاية لحرمة صهره صلى الله عليه وسلم.
6 أنصنا: قرية بصعيد مصر، يقال: إنها كانت مدينة السحرة وشهرتها قائمة على وجود شجر اللبخ بها.

ص -9-           قال ابن إسحاق: عاد بن عَوْص بن إرَم بن سام بن نوح، وثمود وجَديس ابنا عابر بن إرم بن سام بن نوح، وطَسْم وعِمْلاق وأمَيم بنو لاوِذ بن سام بنِ نوح. عربٌ كلُّهم. فولد نابتُ بنُ إسماعيلَ: يشْجُبَ بن نابت، فولَدَ يشجبُ: يعرُبَ بن يشجب: فولدَ يعرب: تَيْرح بن يعرب، فولد تيرحُ: ناحورَ بن تيرح، فولَدَ ناحور: مُقَوّم بن ناحور، فولد مقوم: أدَدَ بنَ مقوم، فولد أددُ: عدنانَ بن اُدَد.
قال ابنُ هشامٍ: ويقالُ: عدنانُ بن أدّ.
قال ابن إسحاق: فمن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- فولد عدنان رجلين: معدّ بن عدنان، وعَكّ بن عدنان.
قال ابن هشام: فصارت عكّ في دار اليمن، وذلك أن عكا تزوج في الأشعريين، فأقام فيهم؛ فصارت الدار واللغة واحدة. والأشعريون: بنو أشعر بن نَبْت بن أدَد بن زيد بن هَمَيْسع بن عمرو بن عريب بن يَشْجُب بن زَيْد بن كَهْلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرب بن قحطان ويقال: أشعرُ: نَبْت بن أدَد. ويقال: أشعر: ابنُ مالك، ومالك: مَذْحج بن أدَد بن زيد بن هَمَيْسع. ويقال: أشعر: ابن سبأ بن يشجُب.
وأنشدنى أبو مُحْرِز خَلف الأحمر، وأبو عُبَيْدة، لعباس بن مِرْداس، أحد بني سُلَيْم بن منصور بن عِكْرِمة بن خَصَفة بن قيس بن عَيْلان بن مُضَر بن نزار بن معد بن عدنان، يفخر بعك:
وعك بن عدنان الذين تلقَّبوا                   بغسان حتى طُرِّدوا كلَّ مَطْرِد
ِ وهذا البيت في قصيدة له: وغسان: ماء بسد مأرب باليمن، كان شِرْبًا لولد مازن بن الأسْد1 بن الغَوْث، فسُموا به. ويقال: غسان2: ماء بالمُشَلَّل قريب من الجُحْفَة، والذين شربوا منه تحزبوا فسُموا به قبائل من ولد مازن بن الأسد، بن الغَوْث، بن نَبْت، بن مالك، بن زَيْد، بن كَهْلان، بن سبأ، بن يَشْجُب، بن يَعْرُب، بن قَحْطان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويقال فيه الأزد أيضًا.
2 واشتقاق غسان -اسم ذلك الماء- من الغس والضعيف وبعد هذا البيت:
يا أخت آل فراس إنني رجل
من معشر لهم في المجد بنيان

ص -10-         قال حسانُ بن ثابت الأنصاري، والأنصار بنو الأوس والخزرج، ابنَىْ حارثة، بن ثَعْلبة، بن عمرو، بن عامر، بن حارثة، بن امرئ القيس، بن ثعلبة، بن مازن، بن الأسْد، بن الغوث:
إمَّا سألْتِ فإنا مَعْشرٌ نُجُبٌ                     الأسْدُ نسبتُنا والماُء غسانُ
وهذا البيت في أبيات له.
فقالت اليمن، وبعض عك، وهم الذين بخراسان منهم: عك بن عدنان بن عبد اللّه بن الأسد بن الغوث. ويقال: عُدْنان بن الديث بن عبد الله بن الأسْد بن الغوْث.
قال ابنُ إسحاق: فوَلَدَ معدُّ بن عدنان أربعةَ نفر: نزار بن معد، وقضاعة، بن معد، وكان قضاعة بِكْر معد الذي به يُكْنَى -فيما يزعمون- وقُنُص بن معد، وإياد بن معد.
فأما قُضاعة فتيامنت إلى حِمْير بن سبأ -وكان اسم سبأ: عبد شمس، وإنما سُمِّيَ سبأ؛ لأنه أول من سَبَى في العرب– ابن يشجب بن يَعْرُب بن قحطان.
قال ابن هشام: فقالت اليمن وقضاعة: قضاعة بن مالك بن حِمْير. وقال عمرو بن مرة الجهنى1، وجُهَينة بن زيد، بن لَيْث، بن سَوْد، بن أسلم، بن الحاف، بن قُضاعة:
نحن بنو الشيخ الهِجان الأزْهَر               قضاعة بن مالك بن حِمْيَرِ
النسب المعروف غير المنْكَـر                 في الحَجَرالمنقوش تحتَ المِنْبرِ2
قنص بن معد ونسب النعمان بن المنذر: قال ابنُ إسحاق: وأما قُنُص بن معد فهلكت بقيتهم -فيما يزعمُ نُسَّاب معد- وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة. قال ابن إسحاق:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
له حديثان أحدهما في أعلام النبوة، والآخر: "من ولي أمر الناس، فسد بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، سد الله بابه دون حاجته وخلته ومسكنته يوم القيامة". انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص23".
2 الهجان الكريم. الأزهر: المشهور، ويقال: إن هذا الشعر لأفلح بن اليعبوب كما ذكر ذلك ذو الحسبين عن الزبير. ويقال أول هذا الرجز قوله:
يا أيها الداعي أدعنا وأبشر            وكن قضاعيًّا ولا تنزر

ص -11-         قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عُبَيد اللّه بن شهاب الزُّهْري: أن النعمان بن المنذر كان من ولد قُنُص بن معد. قال ابن هشام: ويُقال: قَنَص.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عُتْبة بن المغيرة بن الأخْنَس، عن شيخ من الأنصار من بني زُرَيْق أنه حدثه: أن عمر بن الخطاب -رضي اللّه عنه- حين أتى بسيف النعمان بن المنذر1، دعا جُبَيْر بن مُطْعِم بن عَدِي بن نَوْفَل بن عبد مناف بن قُصَى -وكان جُبَيْر من أنسب قريش لقريش، وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسبَ من أبى بكر الصديق رضي اللّه عنه وكان أبو بكر الصديق أنسب العرب- فسلحه إياه، ثم قال: ممن كان، يا جُبَيْر النعمان بن المنذر؟ فقال: كان من أشلاء قُنُص بن معدّ.
قال ابن إسحاق: فأما سائر العرب فيزعمون أنه كان رجلا من لَخْم، من ولد ربيعة بن نصر، فاللّه أعلم أي ذلك كان.
لخم بن عدي: قال ابنُ هشام: لَخْم: ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن هَمَيْسَع بن عمرو بن عَرِيب بن يَشْجُب بن زيد بن كهلان بن سبأ. ويقال: لَخْم: ابن عدي بن عمرو بن سبأ. ويقال: ربيعة بن نصر2 بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر، وكان تخلف باليمن بعد خروج عمرو بن عامر من اليمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما أتى بهذا السيف حين افتتحت المدائن، وكانت بها خرائب كسرى وذخائره فأخذت نفائسه ومن جملتها خمسة أسياف. أحدها: سيف كسرى أبرويز، والثاني سيف كسرى أنوشروان وثالثها: سيف النعمان بن المنذر كان استلبه منه حين غضب عليه وقتله، ورابعها: سيف خاقان ملك الترك، وخامسها: سيف هرقل وكان تصير إلى كسرى أيام غلبته على الروم.
2 ويقال فيه: نصر بن ربيعة: وهو في قول نساب اليمن ربيعة بن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم، وقال الزبير: نصر بن مالك بن شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم.

ص -12-         أمر عمرو بن عامر في خروجه من اليمن: وقصة سد مارب
وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن، فيما حدثني أبو زَيْد الأنصاري، أنه رأى جُرَذًا يحفر في سد مأرِب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاءَ للسد على ذلك، فاعتزم على النُّقْلة من اليمن، فكاد قومه، فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه، أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغرُ ولدي، وعرض أموالَه، فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبةَ عَمرو، فاشتروا منه أمواله، وانتقل في ولده وولد ولده. وقال الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالَهم، وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان. فحاربتهم عَك، فكانت حربهم سِجالًا، ففي ذلك قال عباس بن مرداس البيت الذي كتبنا1. ثم ارتحلوا عنهم، فتفرقوا في البلدان، فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر: الشامَ، ونزلت الأوس والخزرج: يثرب، ونزلت خزاعة: مَرًّا، ونزلت أزدُ السراةَ: السراة. ونزلت أزدُ عُمان: عمان. ثم أرسل اللهّ تعالى على السدِّ السيلَ فهدمه، ففيه أنزل اللّه -تبارك وتعالى- على رسوله محمد -صلى اللّه عليه وسلم:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}.[سبأ: 15].
والعَرِم: السد، واحدته: عَرِمَة، فيما حدثنى أبو عُبَيْدة.
قال الأعشى: أعشى بني قيس، ابن ثعلبة، بن عُكابة، بن صَعْب، بن على، بن بكر، بن وائل بن هِنْب، بن أفْصَي، بن جَديلة، بن أسَد، بن ربيعة، بن نِزار، بن مَعَدّ.
قال ابن هشام: ويقال: أفصى بن دُعْمِيّ بن جديلة، واسم الأعشى: ميمون بن قَيْس، بن جندل، بن شراحيل، بن عوف، بن سعد، بن ضُبَيْعة، بن قيس، بن ثعلبة:
وفى ذاك للمؤتسى أسوة    ومأربُ عفَّى عليها العَرِمْ
رُخام بنته لهم حمير           إذا جاء مَوَّارُه لم يَرِمْ
فأروى الزروعَ وأعنابَها           على سَعةٍ ماؤهم إذ قُسِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قوله:
وعك بن عدنان الذين تلقبوا
بغسان حتى طردوا كل مطرد

ص -13-               فصاروا أيادى ما يقدرو        ن منه على شرب طفل فطم
وهذه الأبيات في قصيدة له.
وقال أميةُ بنُ أبي الصلت الثَّقَفي -واسم ثَقيف: قَسِيُّ بنُ مُنَبِّه، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عِكرمة، بن خَصَفة، بن قيس، بن عَيْلان، بن مُضَر، بن نِزَار، بن مَعَدّ، بن عدنان:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ                     يبنون من دون سيله العرما
وهذا البيت في قصيدة له، وتروى للنابغة الجَعْدي، واسمه: قيس بن عبد اللّه، أحد بنى جَعْدة، بن كعب، بن ربيعة، بن عامر، بن صَعْصَعة، بن معاوية، بن بكر، بن هَوَازن.
وهو حديث طويل، منعنى من استقصائه ما ذكرت من الاختصار.
حديث ربيعة بن نصر ورؤياه
رؤيا ربيعة: قال ابنُ إسحاق: وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضْعَاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هالته، وفظع بها، فلم يَدَعْ كاهنًا، ولا ساحرًا، ولا عائفًا1، ولا منجِّما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفَظِعْت بها؛ فأخْبروني بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرْك بتأويلها، قال: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبرِكم عن تأويلها، فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سَطيحٍ2 وشِقٍّ3، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العائف: من يزجر الطير.
2 وسمي سطيحا: لأنه كان جسما ملقى لا جوارح له ولا يقدر على الجلوس، إلا إذا غضب انتفح فجلس. ويذكر أن وجهه في صدره ولم يكن له رأس ولا عنق ويذكر عن وهب ابن منبه أنه قال: قيل لسطيح: أنى لك هذا العلم؟ فقال: لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله تعالى موسى -عليه السلام- فهو يؤدى إلي من ذلك ما يؤديه.
3 وسمي بذلك؛ لأنه كان نصف إنسان، له يد واحدة؟ ورجل واحدة، وعين واحدة. وولد شق وسطيح في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة وهي بنت الخير الحميرية امرأة عمر بن عامر فدعت بشق وسطيح قبل أن تموت فتفلت في فيهما وأخبرت أنهما سيخلفانها في كهانتها.

ص -14-         واسم سطيح: ربيع بن ربيعة، بن مسعود، بن مازن، بن ذئب، بن عدي، بن مازن غسان، وشق: بن صَعْب، بن يَشْكُر، بن رُهْم، بن أفْرَك، بن قَسْر، بن عَقْبَر، بن أنمار، بن نزار: وأنمار أبو بجيلة وخثعم.
نسب بجيلة: قال ابن هشام: وقالت اليمن: وبجيلة بنو أنمار، بن إراش بن لَحْيان، بن عمرو، بن الغَوْث، بن نَبْت، بن مالك، بن زيد، بن كهلان، بن سبأ: ويقال: إراش بن عمرو، بن لحْيان، بن الغَوْث. ودار بجيلة وخثعم يمانية.
قال ابن إسحاق: فبعث إليهما، فقدم عليه سَطيح قبلَ شِقٍّ، فقال له: إني رأيت رؤيا هالتنى، وفظِعْت بها، فأخبرْنى بها، فإنك إن أصبتَها أصبتَ تأويلَها.
قال: أفعلُ. "رأيتَ حُمَمَة، خرجت من ظُلُمة، فوقعت بأرض تَهَمة، فأكلت منها كلُّ ذاتِ جُمْجُمة"1.
فقال له الملك: ما أخطأتَ منها شيئا يا سطيحُ؛ فما عندَك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحَرَّتَيْن من حَنَش، ليهبِطنَّ أرضَكم الحبش، فليملكن ما بين أبيَن إلى جُرَش2، فقال له الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن، أفي زماني هذا؛ أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يُقتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلي ذلك من قتْلِهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرَمُ ذي يَزن3، يخرج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحممة: الفحمة المحرقة، والظلمة: الظلام يريد خروج عسكر الحبشة من أرض السودان. وأرض تهمة أي منخفضة وقوله: أكلت منها كل ذات جمجمة" ولم يقل: كل ذي جمجمة لأن القصد إلى النفس والنسمة فهو أعم، ويدخل فيه جميع ذوات الأرواح.
2 بنو حبش بن حام بن نوح وبه سميت الحبشة، وأبين هكذا رويت بفتح الهمزة وذكرها سيبويه بكسر الهمزة على مثل إصبع. وقال ابن ماكولا هو أبين بن زهير بن أيمن بن الهميسع من حمير، أو من ابن حمير سميت به البلدة، وذكر الطبري: أن أبين وعدن ابنا عدنان سميت بهما البلدتان، وجرش: مدينة باليمن.
3 المعروف أن اسمه: سيف بن ذي يزن، ولكن جعل إرما، إما لأن الإرم هو العلم فمدحه بذلك، وإما شبهه بعاد إرم في عظم الخلقة، قال الله تبارك وتعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}.

ص -15-         عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن.
قال: أفيدوم ذلك من سلطانه، أم يقطع؟
قال: لا، بل ينقطع.
قال: ومن يقطعه؟
قال: نبيّ زكي، يأتيه الوحي، من قِبَلِ العلي. قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهْر بن مالك بن النَّضْر، يكون المُلك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يومٌ يُجْمَع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم. والشَّفق والغَسق، والفَلَق إذا اتَّسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شِق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان. فقال: نعم، رأيت حُمُمة، خرجت من ظُلُمة، فوقعت بين رَوْضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
قال: فلما قال له ذلك، عرف أنهما قد اتفقا، وأن قولهما واحد.
إلا أن سطيحًا قال: "وقعت بأرض تَهَمة، فأكلت منها كل ذات جُمْجُمة".
وقال شِق: "وقعت بينَ روضة وأكمة، فأكلتْ منها كلُّ ذات نسمة".
فقال له الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئًا، فما عندك في تأويلها؟
قال: أحلف بما بين الحَرَّتين من إنسان، لينزلن أرضَكم السودان، فليغلبن على كل طَفْلة1 البنان، وليملكُن ما بين أبيَن إلى نَجْران.
فقال له الملك: وأبيك يا شِقُّ، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني، أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان.
قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ قال: غلام، ليس بدَنِيّ، ولا مُدَنّ2، يخرج عليهم من بيت ذي يَزَن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطفلة: الناعمة الرخصة. والبنان. الأصبع.
2 المدن: الذي جمع الضعف مع الدناءة.

ص -16-         قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مُرْسَل يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل؟ قال: وما يوم الفصل؟ قال: يومٌ تُجْزَى فيه الولاةُ ويُدْعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويُجمع فيه بين الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوزُ والخيرات.
قال: أحق ما تقول؟ قال: إي وربِّ السماء والأرض، وما بينهما من رَفْعٍ وخَفض، إن ما أنبأتك به لحق، ما فيه أمض.
قال ابن هشام: أمض. يعني شكًّا: هذا بلغة حمير: وقال أبو عمرو. أمض أي: باطل. فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه، وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له: سابور بن خرَّزاد فأسكنهم الحيرة.
رأي آخر في نسب النعمان بن المنذر: فمن بقية ولد ربيعة بن نصر: النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن وعِلْمِهم: النعمانُ بنُ المنذر بن عَمرو بن عَدِي بن ربيعة بن نَصْر، ذلك الملك. قال ابن هشام: النعمان بن المنذر، بن المنذر، فيما أخبرني خلف الأحمر.
قال ابن إسحاق: فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع مُلك اليمن كلِّه إلى حسان بن تُبان أسعد1 أبى كرب -وتُبان أسعد هو: تُبَّع الآخر، ابن كَلْكى كرَب بن زيد، وزيد هو تُبَّع الأول بن عمرو ذي الأذعار2 ابن أبرهة ذي المنار3 ابن الرّيْش -قال ابن هشام: ويقال: الرائش. قال ابن إسحاق: ابن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر، بن كَعْب، كَهْف الظُّلم، ابن زَيْد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسمان جعلا اسما واحدا، ويصح جعل الإعراب في الجزء الأول من الاسم وإضافة الاسم الثاني إليه ويجوز الإعراب في الجزء الثاني من الاسم. وتبان: من التبانة وهي الذكاء والفطنة. يقال. رجل تبن وطبن.
2 وسمي ذا الأذعار؛ لأنه أوغر في ديار المغرب وسبا أمة ذات شكل غريب؛ فذعر الناس منهم فسمي بذلك.
3 وسمي بذلك؛ لأنه رفع نيرانًا في جبال ليهتدى بها في إحدى غزواته.

ص -17-         ابن سَهْل، بن عَمرو، بن قَيْس، بن معاوية، بن جُشَم، بن عبد شمس، بن وائل، بن الغَوْث، بن قَطَن، بن عَرِيب، بن زهير، بن أيمن، بن الهَمَيْسَع، بن العَرَنْجَج. والعَرَنْجَج: حِمْيَر بن سبأ الأكبر بن يَعْرُب، بن يَشْجُب، بن قحطان.
قال ابن هشام: يَشْجُب: بن يَعْرُب بن قَحْطان.
قال ابن إسحاق: وتُبان أسعد: أبو كَرِب الذي قدم المدينة، وساق الحَبْرَيْن من يهود المدينة إلى اليمن، وعثر البيت الحرام وكساه، وكان مُلكه قبل مُلك ربيعة بن نصر.
قال ابن هشام: وهو الذي يُقال له:
ليت حظي من أبى كَرِب           أن يسدّ خيرُه خبلَهْ1
تبان يغضب على أهل المدينة: قال ابن إسحاق: وكان قد جعل طريقه -حين أقبل من المشرق- على المدينة، وكان قد مَرَّ بها فى بدأته، فلم يهج أهلَها، وخلف بين أظهرهم ابنًا له، فقُتل غِيلةً، فقدمها، وهو مُجمع لإخرابها، واستئصال أهلها، وقطع نخلها2، فجمع له هذا الحيُّ من الأنصار، ورئيسهم عمرو بن طَلَّة أخو بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول، واسم مبذول: عامر، بن مالك بن النجار، واسم النجار: تيم اللّه بن ثعلبة، بن عمرو، بن الخزرج، بن حارثة، بن ثعلبة، بن عمرو، بن عامر.
عمرو بن طلة ونسبه: قال ابن هشام: عمرو بن طَلَّة: عمرو بن معاوية، بن عمرو بن عامر، بن مالك بن النجار، وطَلَّة: أمه: وهىِ بنت عامر بن زُرَيق، بن عامر بن زُرَيق، بن عبد حارثة بن مالك، بن غضْب، بن جُشَم، بن الخزرج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخيل: الفساد. وقد نسب هذا البيت إلى الأعشى ولكن البرقى نسبه إلى عجوز من بني سالم، قالته حين جاء مالك بن العجلان بخبر تتبع. فدخل سرا، فقال لقومه: قد جاء تبع فقالت العجوز البيت.
2 يذكر القتبى أنه لم يقصد غزوها، وإنما قصد قتل اليهود الذين كانوا فيها، وذلك أن الأوس والخزرج كانوا نزولها معهم، حين خرجوا من اليمن على شروط وعهود كانت بينهم فلم يفِ بذلك يهود واستضاموهم، فاستغاثوا بتبع، فعند ذلك قدمها.

ص -18-         قصة مقاتلة تبان لأهل المدينة: قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له: أحمر، عدا على رجال من أصحاب تُبَّع في نزل بهم فقتله. وذلك أنه وجده في عَذْق له يَجُدُّه1 فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التمر لمن أبره2، فزاد ذلك تُبعًا حنقا عليهم، قال: فاقتتلوا، فتزعُم الأنْصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك منهم، ويقول: واللّه إن قومَنا لكرام!!.
فبينا تُبع على ذلك من قتالهم؛ إذا جاءه حَبران من أحبار اليهود، من بني قُرَيظة، وقريظة والنضير والنَّحَّام وعمرو -وهو هَدَل3- بنو الخزرج بن الصريح بن التَّوْمان4، بن السِّبط بن اليسع، بن سعد، بن لاوي، بن خير، بن النحام، بن تنحوم، بن عازر، عِزرى، بن هارون بن عمران، بن يصهر، بن قاهث، بن لَاويّ بن يعقوب: وهو إسرائيل -ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن -صلى اللّه عليهم- عالمان راسخان في العلم، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجلَ العقوبة، فقال لهما: ولم ذلك؟ فقالا: هي مهاجَر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون دارَه وقرارَه، فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علمًا، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة، واتبعهما على دينهما، فقال خالد بن عبد العُزَّى بن غَزِيَّة بن عمرو بن عبد بن عوف بن غُنْم بن مالك بن النجار يفخر بعمرو بن طَلَّة:
أصحا أم قد نهى ذُكَرَهْ       أم قضى من لذةٍ وسرهْ5

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العذق: النخل، ويجده: يقطعه.
2 أبر النخل: لقحه وأصلحه.
3 هدل: بفتح الدال والهاء، كأنه مصدر: هدل هدلا إذا استرخت شفته، وذكره الأمير بن ماكولا عن أبي عبدة النسابة فقال فيه: هدل بسكون الدال.
4 التومان: على وزن فعلان. كأنه من لفظ التوم، وهو الدر.
5 الذكر: جمع ذكره. والمستعمل في هذا المعنى ذكرى بالألف وقلما يجمع فعلى على فُعَل وإنما يجمع على فعال، فإن كان أراد في هذا البيت جمع ذكرى، وشبه ألف التأنيث بهاء التأنيث، فله وجه: قد يحملون على الشيء إذا كان في معناه.

ص -19-                        أم تذكرْتَ الشبابَ، وما         ذِكرُك الشباب أو عُصُرَهْ1
إنها حرب رباعِيةٌ                  مثلُها آتي الفتى عِبَره2
فاسألا عمرانَ أو أسدا           إذ أتت عَدْوًا مع الزُّهَرَة3
فَيْلَقٌ فيها أبو كَرِبٍ               سُبَّغ أبدانُها ذَفِرَهْ4
ثم قالوا: من نؤم بها             أبنى عوف، أم النجرَه؟5
بل بني النجار إنَّ لنا             فيهم قتلى، وإنَّ تِرَهْ6
فتلقَّتهم مُسايفة                 مَدُّها كالغيبةِ النَّثِرهْ7
فيهم عَمْرُو بنُ طَلَّةَ مَلّى       الإلهُ قومه عُمُرَهْ8

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أو عصره، أراد أو عصره وهما لغتان كما قال ابن جني ليس شيء على وزن فَعْل يمتنع فيه فُعَل. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص37".
2 حرب رباعية: مثل: أي ليست بصغيرة ولا جذعة، بل هي فوق ذلك، وضرب سن الرباعية مثلا، كما يقال: حرب عوان؛ لأن العوان أقوى من الفتية وأدرب.
3 يريد صبحهم بغلس: وهي ظلمة آخر الليل قبل مغيب الزهرة: وهي نجم معروف شديد اللمعان.
4 سبغ: كاملة. والأبدان: الدروع. وذفرة من الذفر وهي سطوع الرائحة طيبة كانت أو كريهة، وأما الدفر، فإنه فيما كره من الروائح، ومنه قيل للدنيا أم دفر.
5 النجرة جمع ناجر، والناجر والنجار: بمعنى واحد، وهذا كما قيل المناذرة في بني المنذر، والنجار، وهم: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، وسمي النجار؛ لأنه نجر وجه رجل بقدوم فيما ذكر بعض أهل النسب.
6 فيهم قتلى وإنَّ تره: أظهر إن بعد الواو. أراد: إن لها قتلى وترة، والترة: الوتر. انظر تفصيل ذلك في: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص38".
7 مسايفة: أي كتيبة مسايفة. والغيبة: الدفعة من المطر. والنثرة: المنتثرة، وهي التي لا تمسك الماء.
8 ملى. من قولهم: تمليته حينا. أي عشت معه حينًا وهو مأخوذ من الملاوة والملوين وفي القاموس. ملاك الله حبيبك تملية: متعك به، وتملى عمره. استمتع فيه، والملأ: الصحراء والملوان: الليل والنهار.
ص -20-                         سَيْد سام الملوكَ ومن       رام عَمرًا لا يكنْ قَدَرَهْ
وهذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تُبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم، وإنما أراد هلاكهم، فمنعوهم منه، حتى انصرف عنهم، ولذلك قال في شعره:
حَنقًا على سِبْطين حلَّا يثربا                   أوْلى لهم بعقاب يوم مفسد
قال ابن هشام: الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع، فذلك الذي منعنا من إثباته1.
تبَّع يذهب إلى مكة ويطوف بالكعبة: قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكّة، وهي طريقهُ إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسْفان، وأمَج أتاه نفر من هُذيل بن مُدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد؛ فقالوا له: أيها الملك ألا ندلك على بيت مال دائر، أغفلته الملوك قَبْلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قال: بلى قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده. وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغَى عنده. فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكَك وهلاك جندك. ما نعلم بيتًا للّه اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه، لتهلكن وليهلكن من معك جميعًا، قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت إليه قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله: تطوف به وتعظمه وتكرِّمه، وتحلق رأسك عنده وتذِل له، حتى تخرج من عنده، قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك، قالا: أما واللّه إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حولَه، وبالدماء التي يُهْرقون عنده، وهم نَجِس أهلُ شرك –أو كما قالا له– فعرف نصحَهما وصدق حديثهما فقرب النفر من هُذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام –فيما يذكرون– ينحر بها للناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على الرغم من زعم ابن هشام أن هذا البيت مصنوع فقد ذكره ضمن قصيد مطول في كتاب التيجان. أوله:
ما بال عينك لا تنام، كأنما
كحلت مآقيها بسم الأسود

ص -21-         ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل، وأرِيَ فى المنام أن يكسو البيت، فكساه الخَصَف1 ثم أرِيَ أن يكسوه أحسنَ من ذلك فكساه المَعافرَ2، ثم أري أن يكسوه أحسنَ من ذلك فكساه المُلاء والوصائل3، فكان تُبع -فيما يزعُمون-أول من كسا البيت4، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره وألا يقربوه دما، ولا ميتة، ولا مئلاتا -وهى المحايض5- وجعل له بابًا ومفتاحًا، وقالت سُبَيْعة بنت الأحَبِّ، بن زَبينة، بن جذيمة، بن عوف، بن معاوية، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عِكرمة، بن خَصَفة، بن قيس، بن عيلان، وكانت عند عبد مناف بن كعب، بن سعد، بن تَيْم، بن مُرة، بن كعب، بن لُؤَي، بن غالب، بن فِهْر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة، لابن لها منه يقال له: خالد: تعظِّم عليه حرمة مكة، تنهاه عن البغي فيها، وتذكر تُبَّعا وتُذَلِّلُهُ له، وما صنع بها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخصف: جمع خصفة وهي شيء ينسج من الخوص والليف، والخصف أيضًا: الثياب الغليظة.
2 المعافر: ثياب يمنية.
3 الملاء: جميع ملاءة، وهي الملحفة. والوصائل: ثياب موصلة من ثياب اليمن.
ويروى أن تبعًا لَمّا كسا البيت المسوح والأنطاع انتفض البيت فزال ذلك عنه، وفعل ذلك حين كساه الخصف، فلما كساه الملاء والوصائل قبلها.
4 قال ابن إسحاق: أو من كسا الكعبة الديباج: الحجاج، وذكر الدارقطنى: أنها نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب، كانت قد أضلت العباس صغيرًا. فنذرت: إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج ففعلت ذلك حين وجدته. وقال الزبير النسابة: بل أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير.
5 لم يرد النساء الحيض: لأن حائضا لا يجمع على محائض: وإنما هي جمع محيضة، وهي خرقة المحيض. ويقال للخرقة أيضًا: مثلاة؛ وجمعها: المآلي.
6 وقال أبو عبيدة: بنت الأجب -بالجيم- وقد قالت هذا الشعر في حرب كانت بين بني السبقا بن عبد الدار، وبين بني علي بن سعد بن تميم حتى تفانوا.

ص -22-                     أبنيَّ: لاتَظْلم بمكـ     ـة لا الصغيرَ ولا الكبيرْ
واحفظْ محارمَها بنيَّ          ولا يغرَّنْك الغَرورْ
أبُنَيَّ: من يَظلم بمكـ          ـةَ يُلقَ أطرافَ الشرورْ
أبنَىَّ: يُضْرب وجهُه             وَيلُحْ بخديْه السعيرْ
أبنى: قد جربتُها                فوجدتُ ظالمها يبورْ1
اللّه أمَّنها، وما                  بُنيت بعرْصَتها قصورْ
واللّه آمنَ طيرَها                والعُصْم تأمن فى ثَبيرْ2
ولقد غزاها تُبعٌ                  فكسا بنيتَها الحبيرْ3
وأذلَّ ربي مُلكَهُ                 فيها فأوفى بالنُّذورْ
يمشى إليها حافيًا             بفنائِها ألفَا بعير
ويظل يُطْعِمُ أهلَها              لحمَ المهاري والجَزُور4
يسقيهم العسلَ المصفّـ      ـى والرَّحيضَ من الشعير5
والفيلُ أهلك جيشُه           يرمون فيها بالصخورْ
والملْكُ في أقصى البلاد      وفى الأعاجِم والخَزِير6
فاسمعْ إذا حُدِّثت، وافهمْ     كيف عاقبةُ الأمورْ
قال ابن هشام: يوقف على قوافيها لا تعرب.
أصل اليهودية باليمن: ثم خرج منها متوجهًا إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحَبْرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبَوْا عليه، حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يبور: يهلك.
2 العصم: الوعول تعتصم في الجبال. وثبير: جبل بمكة.
3 بنيتها: الكعبة. والحبير: نوع موشى من ثياب اليمن.
4 المهارى: الإبل النجيبة.
5 الرحيض: المنقى والمصفى.
6 الخزير: يريد الخزر وهم أمة من العجم.

ص -23-         قال ابن إسحاق: حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القُرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللّه يحدث: أن تُبعًا لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حِمْيَر بينه وبين ذلك وقالوا: لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه وقال: "إنه خير من دينكم"، فقالوا: فحاكمنا إلى النار قال: نعم. قال: وكانت باليمن -فيما يزعم أهل اليمن- نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقرَّبون به في دينهم، وخرج الحَبْران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذَمَرهم1 من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما تعرق جباههما لم تضرّهما، فأصفقَتْ عند ذلك حمير على دينه، فمن هنالك، وعن ذلك، كان أصل اليهودية باليمن.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني محدِّث أن الحَبْرين، ومن خرج من حمير، إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجال من حِمْير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص عنهما، حتى ردَّاها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأصفَقَتْ2 عند ذلك حمير على دينهما. واللهّ أعلم أي ذلك كان.
هدم البيت المسمى رئام3: قال ابن إسحاق: وكان رئام بيتًا لهم يعظمونه، وينحرون عنده، ويُكَلَّمون منه، إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتُبع: إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخلِّ بيننا وبينه، فاستخرجا منه -فيما يزعم أهل اليمن- كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم -كما ذكر لي- بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذمرهم: شجعهم وحصنهم ليجدوا.
2 أصفقت: اجتمعت.
3 رئام: فعال من رئمت الأنثى ولدها ترأمه رئما ورئامًا إذا عطفت عليه ورحمته، فاشتقوا لهذا البيت اسما لموضع الرحمة التي كانوا يلتمسون في عبادته.

ص -24-         مُلك حسان بن تبان وقتله على يد أخيه عمرو
فلما ملك ابنه حسان بن تُبان أسعد أبى كَرِب، سار بأهل اليمن، يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق -قال ابن هشام: بالبحرين، فيما ذكر لي بعض أهل العلم- كرهت حِمْير وقبائل اليمن المسير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم، فكلموا أخًا له يقال له عمرو، وكان معه في جيشه، فقالوا له: اقتل أخاك حسان، ونُملِّكْكَ علينا، وترجعْ بنا إلى بلادنا، فأجابهم، فاجتمعوا على ذلك إلا ذا رُعَيْن الحِمْيري فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه. فقال ذو رعَيْن1:
ألا من يشتري سهرًا بنوم    سعيدٌ من يبيتُ قريرَ عينِ2
فإما حِمْير غدرتْ، وخانت     فمعذرةُ الِإله لذي رُعَيْن
ثم كتبهما في رقعة، وختم عليها، ثم أتى بها عَمرًا، فقال له: ضع لي هذا الكتاب عندك ففعل ثم قَتل عمرو أخاه حسان، ورجع بمن معه إلى اليمن. فقال رجل من حِمْير:
لاهِ عينا الذي رأى مثلي                حسان قتيلًا في سالف الأحقابِ3
قتلته مقاول خشيةَ الحبس غداةَ قالوا: لَبَاب لَبابِ4
ميتُكم خيرُنا وحيُّكم ربٌّ علينا، وكلُّكم أربابي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذو رعين: تصغير رعمن، والرعن: أنف الجبل، ورعين: جبل باليمن وإليه ينسب ذو رعين.
2 معناه: أمن يشتري، وحسن حذف ألف الاستفهام لتقديم همزة ألا. وفي البيت حذف تقديره: بل من يبيت قرير عين هو السعيد، فحذف الخبر لدلالة أول الكلام عليه.
3 لاه: أراد الله وحذف لام الجر واللام الأخرى مع ألف الوصل، وهذا حذف كثير. ولكنه جاز في هذا الاسم خاصة لكثرة دوره على الألسنة. مثل قول الفراء:
لهنك من برق على كريم
أراد: والله إنك. انظر هذا الموضوع مفصلا في: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص43".
4 المقاول: يريد الأقيال، وهم الذين دون التبابعة واحدهم قيل وأصله قيل مثل سيد واستعمل بالياء في إفراده وجمعه، وإن كان أصله الواو؛ لأن معناه: الذي يقول ويسمع قوله.

ص -25-         قال ابن إسحاق: وقوله: لَبَابِ لَبَابِ: لا بأس لا بأس بلغة حِمْير. قال ابن هشام: ويروى: لِبابِ لِباب.
هلاك عمرو وتفرق حِمير:
قال ابن إسحاق: فلما نزل عمرو ابن تُبان اليمن مُنع منه النوم، وسُلط عليه السهر، فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحُزاة من الكهان والعرافين عما به فقال له قائل منهم: إنه ما قتل رجل قط أخاه، أو ذا رَحمه بغيًا على مثل ما قَتلت أخاك عليه، إلا ذهب نومه، وسُلط عليه السهر، فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن، حتى خلص إلى ذي رُعَيْن، فقال له ذو رُعَيْن: إن لي عندك براءة، فقال وما هي؟ قال: الكتاب الذي دفعتُ إليك، فأخرجه فإذا البيتان، فتركه، ورأى أنه قد نصحه وهلك عمرو، فمرج2 أمْر حمير عند ذلك وتفرقوا.
خبر لَخنيعة وذي نواس:
فوثب عليهم رجل من حِمْير لم يكن من بيوت المملكة، يقال له: لَخْنيعة3 ينوف ذو شَنَاتر4، فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير للَخْنيعة:
تُقَتِّل أبنَاها وتنفى سَراتَها                     وتبني بأيديها لها الذلّ حميرُ
تُدَمِّر دنياها بطيشِ حلومِها                    وما ضَيَّعَتْ من دينها فَهْوَ أكثرُ
كذاك القرونُ قبلَ ذاك بظلمِها                  وإسرافِها تأتي الشرورَ فتخسَرُ
فسوق لخنيعة: وكان لَخْنيعة امرءًا فاسقًا يعمل عمل قوم لوط، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك، فيقع عليه في مَشْرَبة له قد صنعها لذلك، لئلا يُمَلَّك بعدَ ذلك، ثم يَطْلُع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، قد أخذ مِسواكًا، فجعله في فيه، أي: فيعلمهم أنه قد فرغ منه، حتى بعث إلى زُرْعة ذي نُواس بن تُبان أسعد أخي حسان، وكان صبيًّا صغيرًا حين قُتل حسان، ثم شب غلامًا جميلًا وسيمًا ذا هيئة وعقل، فلما أتاه رسوله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحزاة: المنجمون.
2 مرج: اختلط.
3 قال ابن دريد: هو اللخع، وهو استرخاء الجسم.
4 الشناتر، الأصابع واحدها شُنتر.

ص -26-         عرف ما يريد منه، فأخذ سكينًا جديدًا لطيفًا، فخبأه بين قدمه ونعله، ثم أتاه، فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نُواس، فوجأه1 حتى قتله، ثم حزَّ رأسه، فوضعه في الكُوَّة التي كان يُشرف منها، ووضع مسواكه في فيه، ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذا نواس أرطْب أم يَباس فقال: "سَلْ نَحْماس اسْترطُبان ذو نواس اسْترطُبان لا باس".
قال ابن هشام: هذا كلام حمير. ونحماس: الرأس. فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع، فخرجوا في إثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا: ما ينبغي أن يملكنا غيرك، إذ أرحتنا من هذا الخبيث.
ملك ذي نواس: فملَّكوه، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير، وهو صاحب الأخدود، وتسمى: يوسف، فأقام في ملكه زمانًا.
سبب وجود النصرانية بنجران: وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام على الإنجيل. أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له: عبد الله بن الثامر.
وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها، وذلك أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له: فَيْمِيون، وقع بين أظهرهم، فحملهم عليه، فدانوا به.
حديث فَيْمِيون2: قال ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس، عن وهب بن مُنَبِّه اليماني أنه حدثهم: أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل ديِن عيسى ابن مريم يقال له فَيْمِيون، وكان رجلًا صالِحًا مجتهدًا زاهدًا في الدنيا، مُجاب الدعوة، وكان سائحًا ينزل بين القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يُعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه، وكان بنَّاء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئًا. وخرج إلى فلاة من الأرض يصلي بها حتى يمسي. قال: وكان في قرية من قرى الشام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وجأه: ضربه.
2 فيميون. وقال عنه السهيلي في الروض الأنف فيمثون. وذكر أن النقاش قال: إن اسمه يحيى، وكان أبوه ملكًا فتوفي، وأراد قومه أن يملكوه بعد أبيه، فنفر من الملك ولزم السياحة.

ص -27-         يعمل عمله ذلك مستخفيًا، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له: صالح، فأحبه صالح حُبًّا لم يحبه شيئًا كان قبله. فكان يتبعه حيث ذهب، ولا يفطن له فَيْميون، حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض -كما كان يصنع-وقد أتبعه صالح، وفَيْمِيون لا يدري؛ فجلس صالح منه منظرَ العين مستخفيًا منه، لا يحب أن يُعلم بمكانه، وقام فيميون يصلي فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين –الحية ذات الرءوس السبعة1– فلما رآها فَيْمِيون دعا عليها فماتت، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها، فخافها عليه، فَعِيل عَوْلَه فصرخ: يا فَيْمِيون! التنين قد أقبل نحوك، فلم يلتفت إليه، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها، وأمسى، فانصرف، وعرف أنه قد عُرف، وعَرف صالح أنه قد رأى مكانه، فقال له: يا فَيْمِيون! تعلم والله ما أحببت شيئًا قطُّ حبَّك وقد أردت صحبتك، والكينونة معك حيث كنت، فقال: ما شئتُ، أمري كما ترى، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا فاجأه العبد به الضرُّ دعا له فشفي، وإذا دُعي إلى أحد به ضر لم يأته، وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير، فسأل عن شأن فَيْمِيون، فقيل له: إنه لا يأتى أحدًا دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجْر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك، فوضعه في حجرته، وألقى عليه ثوبًا ثم جاءه فقال له: يا فيميون، إنى قد أردت أن أعمل في بيتي عملًا، فانطلق معي إليه حتى تنظر إليه فأشارطك عليه، فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قال له: ما تريد أن تعمل في بيتك هذا؟ قال: كذا وكذا، ثم انتشط الرجلُ الثوبَ عن الصبى2، ثم قال له: يا فَيْمِيون، عبد من عباد الله أصابه ما ترى، فادعُ الله له؟ فدعا له فَيْمِيون؛ فقام الصبي ليس به بأس.
وعَرف فيميون أنه قد عُرِف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل، فقال: يا فَيْمِيون! قال نعم. قال: ما زلت أنظرك، وأقول: متى هو جاء؟ حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو، لا تبرحْ حتى تقوم عليَّ فإني ميت الآن. قال: فمات، وقام عليه حتى واراه، ثم انصرف، وتبعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدُوا عليهما، فاختطفتهما سَيَّارةٌ من بعض العرب، فخرجوا بهما، حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي القرون السبعة.
2 انتشط الثوب: رفعه بسرعة.

ص -28-         باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على دين العرب، يعبدون نخلةً طويلة بين أظهرِهم لها عيد في كل سنة، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحُليّ النساء، ثم خرجوا إليها، فعكفوا عليها يومًا.
فابتاع فَيْمِيونَ رجلٌ من أشرافهم، وابتاع صالحًا آخرُ، فكان فيمِيون إذا قام من الليل -يتهجد في بيت له أسكنه إياه سيده- يصلي، استسرج له البيتُ نورًا حتى يصبح من غير مصباح، فرأى ذلك سيده، فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتم في باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده، لأهلكها وهو الله وحده لا شريك له، قال: فقال له سيده: فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما نحن عليه. قال فقام فَيْمِيون، فتطهر وصلى ركعتين، ثم دعا الله عليها، فأرسل الله عليها ريحًا فَجَعَفَتْها1 من أصلها فألقتها، فاتَّبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب.
قال ابن إسحاق: فهذا حديث وهب بن مُنَبِّه عن أهل نجران.
خبر عبد الله بن الثامر
عبد الله بن الثامر والاسم الأعظم: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي، وحدثني أيضًا بعض أهل نجران عن أهلها: أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبًا من نجران -ونجران: القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد- ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فَيْمِيون -ولم يسموه لي باسمه الذي سماه به وهب بن منبه، قالوا: رجل نزلها- ابتنى خيمة بين نجران، وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر، يعلمهم السحر، فبعث إليه الثامرُ ابنَه عبدَ الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى منه من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه، ويسمع منه حتى أسلم فوحَّد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جعفتها: أسقطتها.

ص -29-         الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه، جعل يسأله عن الاسم الأعظم -وكان يعْلمُه- فكتمه إياه وقال له: يابن أخي! إنك لن تحملَه، أخشى عليك ضعفَك عنه. والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنَه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمانُ، فلما رأى عبدُ الله أن صاحبَه قد ضَنَّ به عنه، وتخوَّف ضَعْفَه فيه، عمد إلى قِداح1 فجمعها، ثم لم يُبق للّه اسمًا يعلمه إلا كتبه في قِدْح، لكلِّ اسم قِدْح، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارًا، ثم جعل يقذفها فيها قِدْحًا قِدْحًا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدْحه، فوثب القِدْح حتى خرج منها لم تضره شيئًا، فأخذه ثم أتى صاحبه، فأخبره بأنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، قال: أي ابنَ أخي! قد أصبته فأمسكْ على نفسِك، وما أظنُّ أن تفعلَ.
عبد الله بن الثامر يدعو إلى التوحيد: فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدًا به ضر إلا قال: يا عبد الله، أتوحِّدُ الله، وتدخل في ديني، وأدعو الله، فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويُسْلم، ويدعو له فيُشْفَى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضُر إلا أتاه فاتَّبعه على أمره، ودعا له فعوفِيَ، حتى رفع شأنه إلى مَلك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت عليَّ أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلنَّ بك. قال: لا تقدر على ذلك. قال: فجعل يُرسل به إلى الجبل الطويل، فيُطرَح على رأسه، فيقع إلى الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحورٍ لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيُلْقَى فيها، فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال له عبد الله بن الثامر: إنك والله لن تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنتُ به، فإنك إن فعلت ذلك، سُلِّطْتَ عليَّ فقتلتنى، قال: فوحَّد الله تعالى ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده، فشجه شجة غير كبيرة، فقتله ثم هلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم من الإنجيل وحُكمه، ثم أصابهم مثل ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران -والله أعلم بذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القداح: السهام.

ص -30-         قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القُرَظيّ، وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر -والله أعلم أي ذلك كان.
ذو نواس يدعو أهل نجران إلى اليهودية: فسار إليهم ذو نواس بجنوده، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك والقتل، فاختاروا القتل، فخدَّ لهم الأخدود1، فحرق من حرق بالنار، وقتل من قتل بالسيف، ومثَّل بهم، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفًا، ففي ذي نُواس وجنده تلك أنزل الله تعالى على رسوله سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم:
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}. [البروج: 4-8]
تفسير الأخدود: قال ابن هشام: الأخدود: الحَفْر المستطيل في الأرض، كالخندق والجدول ونحوه، وجمعه: أخاديد. قال ذو الرمة -واسمه: غَيْلان بن عُقبة، أحد بنى عَدِيِّ بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مُضر:
من العراقِيَّةِ اللاتي يُحيلُ لها                    بين الفَلَاةِ وبينَ النخلِ أخدودُ
يعنى: جدولا. وهذا البيت في قصيدة له. قال: ويقال لأثر السيف والسكين في الجلد، وأثر السوط ونحوه: أخدود، وجمعه أخاديد.
نهاية عبد الله بن الثامر: قال ابن إسحاق: ويقال: كان فيمن قَتَلَ ذو نواس، عبدَ الله بن الثامر رأسهم وإمامهم.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم أنه حُدث: أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حفرَ خَرِبة من خَرِب نجران لبعض حاجته، فوجدوا عبدَ الله بن الثامر تحت دَفْنٍ منها قاعدًا، واضعًا يده على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى ابن سنجر عن جبير بن نفير قال: الذين خددوا الأخدود ثلاثة: تبع صاحب اليمن، وقسطنطين بن هلانى -وهي أمه- حين صرف النصارى عن التوحيد ودين المسيح إلى عبادة الصليب، وبختنصر من أهل بابل حين أمر الناس أن يسجدوا له، فامتنع دانيال وأصحابه، فألقاهم في النار، فكانت بردًا وسلامًا عليهم.

ص -31-         ضربة في رأسه، مُمسكا عليها بيده، فإن أخِّرت يدَه عنها تنبعث دما، وإذا أرسلت يده ردَّها عليها، فأمسكت دمَها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: "ربي الله" فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبر بأمره فكتب إليهم عمرُ رضي الله عنه: أن أقروه على حاله وردوا عليه الدَّفْن الذي كان عليه، ففعلوا1.
فرار دوس ذي ثعلبان من ذي نواس واستنجاده بقيصر:
قال ابن إسحاق: وأفلت منهم رجل من سبأ. يقال له دَوْس ذو ثَعْلبان على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك، حتى أتى قيصر ملك الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له: بعدت بلادك منا، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك، وكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.
النجاشي ينصر دوسًا: فقدم دوسٌ على النجاشي بكتاب قيصر، فبعث معه سبعين ألفًا من الحبشة وأمَّر عليهم رجلًا منهم يقال له: أرياط -ومعه في جنده أبرهة الأشرم- فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن، ومعه دَوْس ذو ثَعْلبان.
نهاية ذي نواس: وسار إليه ذو نُواس في حِمْير، ومن أطاعه من قبائل اليمن، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه، وجه فرسه في البحر، ثم ضربه، فدخل به فخاض به ضَحْضَاح2 البحر، حتى أفضى به إلى غَمْرِه3، فأدخله فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يصدق ذلك قوله تعالى:
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ...} وما وجد من شهداء أحد وغيرهم على هذه الصورة لم يتغيروا بعد الدهور الطويلة، كحمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فإنه وجد حين حفر معاوية العين صحيحًا لم يتغير وأصابت الفأس أصبعه، فدميت. وكذلك أبو جابر عبد الله بن حرام، وعمرو بن الجموح. وطلحة بن عبيد الله، استخرجته بنته عائشة من قبره حين أمرها في المنام بنقله فاستخرجته من موضعه بعد ثلاثين سنة لم يتغير. وحدثني من لا أشك في قوله أنه رأى كثيرًا من الشهداء في حرب فلسطين لم يتغيروا بعد السنين الطويلة.
2 الضحضاح من الماء: الذي يظهر قعره.
3 الغمر: الماء الكثير.

ص -33-         وكان آخر العهد به. ودخل أرياط اليمن، فملكها1.
فقال رجل من أهل اليمن -وهو يذكر ما ساق إليهم دوس من أمر الحبشة:
"لا كَدَوْس ولا كأعلاقَ رَحْله"2.
فهي مثل باليمن إلى هذا اليوم.
قول ذي جدن الحميري في هذه القصة: وقال ذو جدن الحميري:
هونكِ3 ليس يردُّ الدمعَ ما فاتا               لا تهلكي أسفًا في إثْر من ماتَا
أبعدَ بَيْنون لا عين ولا أثرٌ    وبعدَ سَلْحِين يبني الناسُ أبياتَا؟!
بينون وسلحين وغمدان: من حصون اليمن التي هدمها أرياط، ولم يكن في الناس مثلُها. وقال ذو جدن أيضًا:
دعينى-لا أبا لكِ -لن تطيقي4                 لحاكِ الله! قد أنزفْتِ ريقي5
لَدَى عَزفِ القيانِ إذ انتشينا                    وإذْ نُسقى من الخمرِ الرحيق6

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ما ذكره ابن إسحاق وهناك رواية أخرى: أن ذا نواس أدخل الحبشة: صنعاء اليمن، حين رأى أن لا قبل له بهم، بعد أن استنفر جميع المقاول ليكونوا معه يدا واحدة عليهم فأبو إلا أن يحمي كل واحد منهم حوزته على حدته، فخرج إليهم ومعه مفاتيح خزانته وأمواله على أن يسالموه ومن معه، فكتبوا إلى النجاشي بذلك فقبل، ثم كتب ذو النواس إلى كل موضع ببلاده أن اقتلوا كل ثور أسود فقتل أكثر الحبشة فوجه النجاشي جيشًا إلى أبرهة وعليهم أرياط وأمره أن يقتل ذا نواس، ويخرب ثلث بلاده ويسبي ثلث النساء والذرية ففعل ذلك أبرهة.
2 الأعلاق: النفائس.
3 هونك: ترفقى، وقد روى عن ابن إسحاق من غير رواية ابن هشام: هونكما لن يرد. وهو من باب قول العرب للواحد: افعلا.
4 أي لن تطبقى صرفي بالعدل عن شأني.
5 أي أيبست ريقى في فمى، وقلة الريق من الحصر، وكثرته من قوة النفس وثبات الجأش.
6 الرحيق: الخالص.

ص -34-                       فأصبح بعد جِدَّته رمادا           وغيَّر حسنَه لهبُ الحريق
وأسلَمَ ذو نُواس مُسْتَكينا     وحذَّر قومَه ضَنْك المضيق
قول ربيعة ابن الذئبة الثقفي في هذه القصة: وقال عبد الله ابن الذئبة الثقفي في ذلك -قال ابن هشام: الذئبة أمه، واسمه: ربيعة ابن عَبْد ياليل بن سالم بن مالك بن حُطَيْط بن جُشَم بن قَسِيّ:
لَعَمْرك ما للفتى من مقر                   مع الموت يلحقه والكِبَر
لعَمرك ما للفتى صُحْرة                     لعمرك ما إنْ له من وزَر1
أبعْدَ قبائلَ مِنْ حِمْيَر       أبيدوا صباحًا بذات العبَر2
بألفِ ألوفٍ وحُرَّابة           كمثلِ السماء قُبَيْلِ المطر3
يُصِمُّ صياحُهم المقْربَات                     وينفون من قاتلوا بالذّفرْ4
سَعَالِيَ مثلُ عديد الترا                     ب تَيْبس منهم رطابُ الشجرْ5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصُّحرة: المتسع، أخذ من لفظ الصحراء. والوزر: الملجأ، ومنه اشتق الوزير لأن الملك يلجأ إلى رأيه. وقد قيل من الوزر؛ لأنه يحمل عن الملك أثقالا؛ لأن الوزر: الثقل.
2 ذات العَبَر: أي ذات الحزن، يقال: عَبَر الرجل إذا حزن، ويقال: لأمه العبر، كما يقال: لأمه الثُّكل.
3 الحُرَّابة: ذوو الحراب. وتوله كمثل السماء أي كسحاب لاسوداد السحاب وظلمته قبيل المطهر.
4 المقربات. الخيل العتاق التي لا تسرح في المراعي ولكن تحبس قرب البيوت معدة للعدو. والدفر: الرائحة الشديدة، أي ينفون من قاتلوا بريحهم وأنفاسهم، وهذا إفراط في وصفهم بالكثرة وقيل غير ذلك. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص 60".
5 سعالِيَ: الجن، والمفرد سِعلاة ويقال: بل هي الساحرة من الجن.
ص -35-         قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي في هذه القصة: وقال عمرو بن مَعْدي كرب الزُّبيْدي1 في شيء كان بينه وبين قيس بن مكشوح المرَاديّ2، فبلغه أنه يتوعده، فقال يذكر حِمْير وعزها، وما زال من ملكها عنها:
أتوعِدني كأنك ذو رعين        بأفضل عِيشةٍ أو ذو نُوَاس
وكائن كان قبلَك من نعيمٍ     ومُلكٍ ثابتٍ في الناس راسي
قديمٍ عهده من عهد عاد      عظيم قاهر الجبروت قاسي
فأمسى أهلُه بادوا، وأمسى                   يُحوَّل من أناسٍ
نسب زبيد ومراد: قال ابن هشام: زُبَيْد بن سلمة بن مازن بن مُنَبِّه بن صعب بن سعد العشيرة بن مَذْحِج. ويقال: زُبيد بن منبِّه بن صعب بن سعد العشيرة، ويقال: زُبيد بن صعب بن سعد. ومراد: يُحابِر بن مُذْحج.
لماذا قال عمرو بن معدي كرب هذا الشعر: قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة قال: كتب عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى سلْمان بن ربيعة الباهلي، وباهلة بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان. وهو بأرْمينية يأمره أن يفضل أصحاب الخيل العِراب على أصحاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عمرو بن معدي كرب -رضى الله عنه- صحابي، يكنى: أبا ثور تُضرب الأمثال بفروسيته وبسالته. ومعدي كرب بالحميرية: وجه الفَلَّاح، المعدي هو: الوجه بلغتهم، والكرب هو: الفلاح.
2 ليس من مراد، إنما هو حليف لها، واسم مراد: يحابر بن سعد للعشيرة بن مذحج، ونسبُه في بجيلة ثم في بني أحمس، وأبوه مكشوح اسمه: هبيرة بن هلال. ويقال: عبد يغوث بن هبيرة بن الحارث بن عمرو بن عامر بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار، وأنمار هو: والد بجيلة وخثعم، وسُمي أبوه مكشوحًا؛ لأنه ضُرب بسيف على كَشْحه "وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف"، ويكنى قيس: أبا شداد، وهو قاتل الأسود العنسي الكذاب هو وذَدَوَيه وفيروز، وكان قيس بطلا شجاعًا، قُتل مع علي -رضى الله عنه- يوم صفين، وله في ذلك اليوم مواقف لم يُسمع بمثلها، وكذلك له في حروب الشام مع الروم وقائع ومواقف لم يسمع بمثلها عن أحد بعد خالد بن الوليد.

ص -36-         الخيل المقارف1 في العطاء فعرض الخيل، فمر به فرس عمرو بن معدي كرب، فقال له سلمان: فرسك هذا مُقْرف، فغضب عمرو، وقال: هجين عرف هجينًا مثله، فوثب إليه قيس فتوعده، فقال عمرو هذه الأبيات.
تصديق قول شق وسطيح: قال ابن هشام: فهذا الذي عنى سطيح الكاهن بقوله: "ليهبطن أرْضَكُم الحبش، فليملُكُنَّ ما بين أبْيَن إلى جُرَش" والذي عنى شق الكاهن بقوله: "لينزلن أرضكم السودان، فليغلُبن على كل طَفلة البنان وليملُكن ما بين أبْيَن إلى نجران".
النزاع على اليمن بين أبرهة وأرياط:
قال ابن إسحاق: فأقام أرْيَاط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدُهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهةُ إلى أرياطَ: إنك لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض، حتى تفنيها شيئًا، فابرز إليَّ، وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبَه انصرف إليه جندُه، فأرسل إليه أرياط: أنصفتَ؛ فخرج إليه أبرهة -وكان رجلًا قصيرًا لحيمًا، وكان ذا دين النصرانية -وخرج إليه أرياط وكان رجلًا جميلًا عظيمًا طويلًا، وفي يده حربة له وخلف أبرهة غلام له، يقال له: عَتْودَة2، يمنع ظهره، فرفع أرياطُ الحربة، فضرب أبرهة يريد يأفوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سُمى: أبرهة الأشرم، وحمل عَتْوَدة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جندُ أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وَوَدَى3 أبرهةُ أرياطَ.
غضب النجاشي على أبرهة: فلما بلغ النجاشي غضب غضبًا شديدًا وقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف: لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته. فحلق أبرهة رأسَه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقارف: جمع مقرف الذى دانى الهجنة، وهو الذي أمه عربية وأبوه ليس بعربي فالإقراف من جهة الأب والهجنة من جهة الأم. انظر ذلك مفصلًا في الصحاح للجوهري مادة قرف.
2 العتودة: الشدة في الحرب.
3 وداه: تحمل ديته.

ص -37-         وملأ جرابًا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه:
"أيها الملك، إنما كان أرْياطُ عبدَك، وأنا عبدُك، فاختلفنا في أمرِك، وكل طاعتُه لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها، وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب تراب من أرض، ليضعه تحت قدميه، فيبرّ قسمَه فيَّ".
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه، وكتب إليه: أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن.
"القليس" أو كنيسة أبرهة: ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْسَ1 بصنعاء، فبنى كنيسة لم يُر مثلُها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: أني قد بنيت لك أيها الملك كنيسةً لم يُبْنَ مثلُها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرفَ إليها حج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النَّسأة، أحد بني فُقَيْم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مضر.
النسأة: والنسأة: الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية، فيحلُّون الشهر من الأشهر الحرم، ويحرمون مكانَه الشهرَ من أشهرِ الحل، ليواطئوا عدةَ ما حرَّم الله. ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي الكنيسة التي أراد أبرهة أن يصرف حج العرب إليها وسميت بهذا الاسم لارتفاع بنائها وعلوها، ومنه أخذت القلانس لأنها تعلو الرأس، ويقال: تقلنس الرجل إذا لبس القلنسوة، وقلس طعامًا أي: ارتفع من معدته إلى فيه، وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة وجشمهم أنواعًا من السخر، وكان ينقل إليها العدد من الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذب من قصر بلقيس صاحبة سليمان -عليه السلام- وكان من موضع الكنيسة على فراسخ وكان فيه بقايا من آثار مُلكها، وكان أراد أن يرفع في بنائها حتى يَشرُف منها على عدن، ونصب فيها صلبانًا من الذهب والفضة ومنابر من العاج والأبنوس. وكان حكمه في العامل إذا طلعت عليه الشمس قبل أن يأخذ في عمله أن يقطع يده، فنام رجل منهم ذات يوم، حتى طلعت الشمس، فجاءت معه أمه، وهي امرأة عجوز، فتضرعت إليه تستشفع لابنها، فأبى إلا أن يقطع يده، فقالت: اضرب بمعولك اليوم، فاليوم لك، وغدًا لغيرك. انظر قصة هذه الكنيسة مفصلة في: "الروض الأنف بتحقيقنا جـ1 ص 63".

ص -38-         قال ابن هشام: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة، تقول العرب: واطأتُك على هذا الأمر، أي وافقتك عليه، والإيطاء في الشعر: الموافقة، وهو اتفاق القافيتين من لفظ واحد وجنس واحد، نحو قول العَجّاج -واسم العَجاج1: عبد الله بن رُؤبة أحد بني سعد بن زيد مَناة بن تميم ابن مُر بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.
في أثْعبان المَنْجَنون المرسَل2
ثم قال:
مدّ الخليجِ في الخليجِ المرْسَل
وهذان البيتان في أرجوزة له.
أول من ابتدع النسيء: قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت منها ما أحلّ، وحرمت منها ما حرم القَلمس3، وهو حُذَيفة بن عبد بن فُقَيْم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد بن حذيفة، ثم قام بعد عباد: قَلَع بن عبَّاد، ثم قام بعد قَلَع: أمية بن قلع، ثم قام بعد أمية: عَوف بن أمية، ثم قام بعد عَوْف: أبو ثُمامة، جُنَادة بن. عَوْف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام4، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الحرم الأربعة: رجبًا، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. فإذا أراد أن يحل شيئًا أحلَّ المحرم فأحلوه وحرم مكانه صفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكنيته: أبو الشعثاء وسُمي العجاج بقوله: "حتى يعج عندها من عججا" المرجع السابق ص 65.
2 الأثعبان: ما يندفع من الماء من مثعبه، والمثعب: المجرى. والمنجنون: الدولاب التي يستقى عليها، نفس المرجع هامش صفحة62.
3 وسمي القلمس لجوده، إذ إنه من أسماء البحر.
4 وجد السهيلي خبرًا عن إسلام أبي ثمامة فقد حضر الحج في زمن عمر، فرأى الناس يزدحمون على الحج فنادى: أيها الناس، إني قد أجرته منكم فخفقه عمر بالدرة وقال: ويحك، إن الله أبطل أمر الجاهلية.

ص -39-         فحرَّموه؛ ليواطئوا عدَّةَ الأربعة الأشهر الحُرُم. فإذا أرادوا الصَّدَر1 قام فيهم فقال: "اللهم إني قد أحللت لك أحد الصَّفرَيْن، الصفر الأول، ونسأت الآخرَ للعام المقبل2" فقال في ذلك عُمَيْر بن قَيْس، جِذْل الطَّعان3، أحدُ بني فراس بن غَنْم بن ثعلبة بن بالك بن كنانة، يفخر بالنَّسأة على العرب:
لقد علمتْ مَعَد أن قومي     كرامُ الناسِ أنّ لهم كِرَامَا4
فأيّ الناسِ فاتونا بوِتْر          وأيّ الناسِ لم نُعْلِكْ لجاما5
ألسْنا النَّاسئين على مَعد                     شهورَ الحِلِّ نجعلها حَرامًا؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصدر هنا: الرجوع من الحج.
2 وأما نَسَؤُهُم فكان على ضربين، أحدهما: ما ذكر ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات. والثاني: تأخيرهم الحج عن وقته تحريًا منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يومًا أو أكثر قليلا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه السلام في حجة الوداع:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السمواتِ والأرض" وكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته، ولم يحج رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة، وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة -والله أعلم- إذ كانت مكة بحكمهم، حتى فتحها الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم.
3 وكان عُمير من أطول الناس، وسمي جذل الطعان لثباته في الحرب كأنه جذل شجرة واقف، وقيل: لأنه كان يُستَشفَى برأيه، ويُسْتَراح إليه، كما تستريح البهيمة الجرباء إلى الجذل "وهو عود ينصب للبُهم الجرباء لتحتك به".
4 أي: آباءً كرامًا وأخلاقًا كرامًا.
5 أي: لم نقدعهم ونكفهم، كما يقدع الفرس باللجام. تقول: أعلكت الفرس لجامه: إذا رددته عن تنزعه، فمضغ اللجام كالعلك من نشاطه، فهو مقدوع.

ص -40-         قال ابن هشام: أول الأشهر الحرم: المحرَّم1.
الكناني يحدث في القليس: قال ابن إسحاق: فخرج الكنانيُّ حتى أتى القلَّيْس فقعد2 فيها -قال ابن هشام: يعني أحدث فيها- قال ابن إسحاق: ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العربُ إليه بمكة لما سمع قولك: "أصرف إليها حج العرب" غضب فجاء، فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهْل.
خروج أبرهة لهدم الكعبة: فغضب عند ذلك أبرهة وحلف: ليسيرنَّ إلى البيت حتى يهدمَه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهَّزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفَظِعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة، بيت الله الحرام.
أشراف اليمن يدافعون عن البيت: فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له: ذو نَفْر، فدعا قومه، ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه إلى ذلك من أجابه، ثم عرض له فقاتله، فَهُزم ذو نَفْر وأصحابه، وأخذ له ذو نَفْر، فأتى به أسيرًا، فلما أراد قتله، قال له ذو نَفْر: أيها الملك، لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي، فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلًا حليمًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقال غير ابن هشام: إن أولها ذو القعدة لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدأ به حين ذكر الأشهر الحُرم، ومن قال المحرم أولها، احتج بأنه أول السنة. وتظهر فائدة هذا الخلاف فيمن نذر صيام الأشهر الحرم. فيقال له على الأول: ابدأ بالمحرم، ثم رجب، ثم ذي القعدة، وذي الحجة. وعلى القول الآخر: يبدأ بذي القعدة حتى يكون آخر صيامه في رجب من العام الثاني.
2 قعد: أي أحدث فيها -وهذا شاهد لقول مالك وغيره من الفقهاء في تفسير القعود على المقابر المنهي عنه.

ص -41-         خثعم تجاهد أبرهة: ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خَثْعَم1 عَرَض له نُفَيْل بن حبيب الخَثْعمي في قَبيلَيْ خَثْعَم: شَهْران ونَاهِس2، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نُفَيْل أسيرًا، فأتى به، فلما همَّ بقتله قال له نُفَيْل: أيها الملك، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلي خَثْعم: شَهْران وناهس بالسمع والطاعة، فخلى سبيلَه.
وخرج به معه يدلُّه، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مُعَتِّب بن مالك بن كعب بن عَمرو بن سعد بن عَوْف بن ثقيف في رجال ثقيف.
نسب ثقيف3: واسم ثَقِيف: قَسِيُّ بنُ النَّبيت بن منبه بن منصور بن يَقْدُم بن أفْصَى بن دُعْمىّ بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان.
قال أمية بن أبى الصَّلْت الثقفي4:
قومى إياد لو أنهمْ أمَم        أو لو أقاموا فتُهْزَل النَّعَمُ5
قوم لهم ساحةُ العراقِ إذا    ساروا جميعًا والقطّ والقَلم6

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خثعم: اسم جبل سمي به بنو عِفرس بن خلف بن أفتل بن أنمار؛ لأنهم نزلوا عنده، وقيل: إنهم تخثعموا بالدم عند حلف عقدوه بينهم أي تلطخوا.
2 يقال إن خثعم ثلاث: شهران وناهس وأكلب غير أن أكلب عند أهل النسب هو: ابن ربيعة بن نزار، ولكنهم دخلوا في خثعم، وانتسبوا إليهم.
3 اختلف النسابون في نسب ثقيف فبعضهم ينسبهم إلى إياد، والبعض إلى قيس وقد نسبوهم إلى ثمود أيضًا. وفي حديث رواه معمر بن راشد في جامعه: "أن أبا رغال من ثمود". انظر: "الروض الأنف من تحقيقنا ج1 ص 66، 67".
4 واسم أبي الصلت: ربيعة بن وهب.
5 الأمم: القريب. أو لو أقاموا: أي بالحجاز لأنهم انتقلوا عنها حين ضاقت عن مسارحهم فصاروا إلى ريف العراق.
6 القط: ما قُط من الكاغد والرق -الكاغد: القرطاس، والرق: جلد رقيق يُكتب فيه. وما قط: أي ما قطع– ونحوه؛ وذلك أن الكتابة كانت في تلك البلاد التي ساروا إليها وقد قيل لقريش: ممن تعلمتم القط؟ فقالوا: تعلمناه من أهل الحيرة، وتعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار.

ص -42-         وقال أمية بن أبى الصَّلْت أيضًا:
فإمَّا تَسْألي عني لُبَيْنَى     وعن نسبي أخَبِّرْك اليقينا
فإنا للنَّبيتِ أبي قَسِي        لمنصورِ بنِ يَقْدُمَ الأقدمينا
قال ابن هشام: ثقيف: قَسِيُّ بن مُنبه بن بكر بن هَوازن بن منصور بن عِكرمة بن خَصَفَة بن قَيْس بن عَيْلان بن مُضَر بن نزار بن معد بن عدنان، والبيتان الأوَّلان والآخران في قصيدتين لأمية.
ثقيف تهادن أبرهة: قال ابن إسحاق، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدُك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد -يعنون اللات- إنما نريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم.
اللات: واللات: بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة.
قال ابن هشام: أنشدني أبو عبيدة النحوي لضرار بن الخطاب الفِهْرِي:
وفَرَّت ثقيف إلي لأنها        بمُنْقَلَب الخائبِ الخاسِر
وهذا البيت في أبيات له.
أبو رغال ورجم قبره: قال ابن إسحاق: فبعثوا معه أبا رغال يدلُّه على الطريق إلى مكة فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المُغَمِّس1، فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرجمت قبرَه العربُ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمِّس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المغمس: هكذا ألفيته في نسخة الشيخ أبي بحر المقيدة على أبي الوليد القاضي بفتح الميم الآخرة من المغَمس. وذكر البكري في كتاب المعجم أنه المُغمس بكسر الميم الآخرة، وأنه أصح ما قيل فيه، وذكر أيضًا أنه يُروَى بالفتح، فعلى رواية الكسر هو: مغمِّس مفعل من غمست، كأنه اشتق من الغميس وهو الغمير، وهو النبات الأخضر الذي ينبت في الخريف تحت اليابس، يقال: غمس المكان وغمر إذا نبت فيه ذلك، وأما على رواية الفتح، فكأنه من غمست الشيء. إذا غطيته، وذلك أنه مكان مستور إما بهضاب وإما بعضاه -كل شجر له شوك- وإنما قلنا هذا؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا كان بمكة، كان إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس"، وهو على ثلث فرسخ من مكة.
أما على رواية كسر الميم الثانية بزنة اسم الفاعل فهو مشتق من الغميس وهو الغمير "نبات أخضر ينبت في الخريف".

ص -43-         الأسْود بن مقصود يهاجم مكة: فلما نزل أبرهة المغَمَّس، بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسْوَد بن مقصود1 على خيل له، حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموالَ تِهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهُذَيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك.
رسول أبرهة إلى مكة: وبعث أبرهة حباطة الحميريّ إلى مكة، وقال له: سَلْ عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يُرِدْ حربي فأتني به؛ فلما دخل حباطة مكة، سال عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه. فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام -أو كما قال– فإن يمنعه منه، فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دَفْع عنه. فقال له حباطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
أنيس يشفع لعبد المطلب: فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نَفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نَفْر هل عندك من غَناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نَفْر: وما غَناء رجل أسير بيدَيْ ملك ينتظر أن يقتله غُدوًّا أو عشيًّا؟! ما عندنا غَناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنَيْسا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعْظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشبع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. فقال: حسبي. فبعث ذو نَفْر إلى أنَيْس، فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عِير مكة، يطعم الناس بالسَّهل، والوحوش في رءوس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الأسود بن مقصود بن الحارث بن منبه بن مالك بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة. ويقال فيه: عُلَة على وزن عمر -ابن خالد بن مذحج بعثه النجاشى مع الفيلة والجيش، وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلًا هلكت كلها إلا "محمود" فيل النجاشي لامتناعه عن التوجه إلى الكعبة.

ص -44-                                  الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن عليه، وانفعه عنده بما استطعت، فقال: أفعل.
فكلّم أنَيْس أبرهةَ، فقال له: أيها الملك: هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة، وهو يُطعم الناس في السهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأذنْ له عليك فيكلمْك في حاجته، قال: فأذن له أبرهة.
الِإبل لي والبيت له رب يحميه: قال: وكان عبد المطلب أوسمَ الناسِ وأجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجلَّه وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحتَه، وكره أن تراه الحبشةُ يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهةُ عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي أن يرد عليَّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال به ذلك، قال أبرهةُ لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتُك، ثم زهدتُ فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتًا هو دينُك ودينُ آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه؟! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربًّا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك.
الوفد المرافق لعبد المطلب: وكان -فيما يزعمُ بعضُ أهل العلم- قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة، حين بعث إليه حباطة، يَعْمَر بنُ نُفاثة بن عدي بن الدُّئل بن بكر بن مناة بن كنانة -وهو يومئذ سيد بني بكر- وخُوَيلد بن واثلة الهذلي -وهو يومئذ سيد هذيل- فعرضوا على أبرهة ثلثَ أموالِ تهامة، على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك، أم لا. فردَّ أبرهةُ على عبد المطلب الِإبلَ التي أصاب له.
قريش تستنصر الله على أبرهة: فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرُّز1 في شَعَفِ الجبال2 والشِّعاب3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التحرر: التمنع.
2 شعف الجبال: رءوسها.
3 الشعاب: المواضع الخفية بين الجبال.
ص -45-         تخوفا عليهم من مَعَرَّة1 الجيش، ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلْقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجندِه، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لاهُمَّ إن العبدَ يمـ           ـنعُ رحلَه فامنعْ حلالَكْ2
لا يَغْلِبَنَّ صليبُهم            ومِحَالُهم غَدْوًا مِحَالَكْ3
إن كنتَ تاركَهم وقِبـ        ـلتنا فأمْر مَا بَدَا لَكْ4
قال ابن هشام: هذا ما صح له منها.
عكرمة بن عامر يدعو على الأسود: قال ابنُ إسحاق: وقال عِكْرمة بنُ عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصَي:
لاهُمَّ أخزِ الأسوَدَ بنَ مقصودْ                     الآخذَ الهجْمةَ فيها التقليد5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معرة الجيش: شدته.
2 لاهمّ: أصلها: اللهم. والعرب تحذف منها الألف واللام. وكذلك تقول في: والله إنك: "لاهنك" وذلك لكثرة دور هذا الاسم على الألسنة. بل قد قالوا فيما هو دونه في الاستعمال. "أجنك" أي: "من أجل أنك". والحلال في هذا البيت: الحلول في المكان والحلال مركب من مراكب النساء والحلال أيضًا: متاع البيت وجائز أن يستعيره منها.
3 غدوًا: غدا، والمحال: القوة والشدة.
4 روى السهيلى بعد هذا البيت بيتًا آخر هو:
وانصر على آلِ الصليبِ                 وعابديه اليومَ آلك
5 الهجمة: هو ما بين التسعين إلى المائة من الإبل، والمائة منها: هُنَيد، والمائتان: هِند. والثلاثمائة أمامة. وأنشدوا:
تبين رويدًا ما أمامة من هند
وكان اشتقاق الهجمة من الهجيمة، وهو الثخين من اللبن؛ لأنه لما كثر لبنها لكثرتها، لم يمزج بماء، وشُرب صرفًا ثخينًا، ويقال للقدح الذي يحلب فيه إذا كان كبيرًا: هجم. والتقليد: أي أن القلائد في أعناقها.

ص -46-                  بينَ حِراءَ وثبير فالْبِيدْ     يَحْبِسها وهي أولاتُ التّطْريدْ1
فضَمَّها إلى طماطِمٍ سودْ                   أخْفِره يا ربِّ وأنت محمود2
قال ابن هشام: هذا ما صح له منها، والطماطم: الأعلاج3.
قال ابن إسحاق. ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال فتحرَّزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.
أبرهة يهاجم الكعبة: فلما أصبح أبرهة تهيَّأ لدخول مكة، وهيأ فيلَه، وعبَّى4 جيشَه -وكان اسمُ الفيل محمودًا- وأبرهة مُجْمِع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نُفَيل بن حبيب5 حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذه بأذنه، فقال: ابركْ6 محمود، أو ارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه. فبرك الفيل، وخرج نُفَيْل بن حبيب يشتد حتى أصْعَد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطَّبَرْزين7،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حراء وثبير: جبلان بالحجاز.
2 أخْفِرْه: أي انقض عزمه وعهده فلا تؤمنه.
3 الأعلاج: جمع علج -الرجل من كفار العجم.
4 يقال: عبّى الجيش بغير همزة وعبأ المتاع بالهمزة، وقد حكي عبات الجيش بالهمز وهو قليل.
5 وقيل هو نفيل بن عبد الله بن جَزء بن عامر بن مالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن جلف بن أفتل، وهو: خثعم، كذلك نسبه البرقي. ونفيل من المسمين بالنبات وهو تصغير نفل وهو نبت منبسط على الأرض.
6 الفيل لا يبرك، فيحتمل أن يكون بروكه: سقوطه إلى الأرض، لما جاءه من أمر الله سبحانه، ويحتمل أن يكون فَعَل فِعل البارك الذي يلزم موضعه، ولا يبرح، فعبر بالبروك عن ذلك، وقد سمعت من يقول: إن في الفيلة صنفًا منها يبرك كما يبرك الجمل.
7 الطبرزين: آلة من الحديد.
ص -47-         ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجَن1 لهم في مَرَاقِّه2 فبزغوه3 بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.
عقاب الله لأبرهة وجنده: فأرسل الله تعالى عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبَلَسان4: مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعَدَس5 لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، -وليس كلهم أصابت- وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نُفَيْل بن حَبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نُفَيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرُّ والِإلهُ الطالبُ
والأشرمُ المغلوبُ ليس الغالب
قال ابن هشام: قوله: "ليس الغالب" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال نفيل أيضًا:
ألا حُيِّيتِ عنا يا رُدَيْنَا          نعمناكم مع الِإصباحِ عينَا6
رُدَيْنةُ لو رأيتِ -ولا ترَيْه        لذي جَنْب المُحصَّبِ ما رأينا
إذًا لعذرتِني وحمدْتِ أمري                     ولم تأسَيْ على ما فات بَيْنا
حَمِدْت الله إذ أبصرتُ طيرًا    وخِفْتُ حجارةً تُلْقَى علينا
وكلّ القوم يسأل عن نُفَيل                     كأن عَلَيّ للحُبْشانِ دَيْنَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحاجن: جمع محجن -عصا معوجٌة.
2 المراق: أسفل البطن.
3 بزغوه: أدموه.
4 الخطاطيف والبلسان: نوعان من الطيور.
5 في الشكل فقط وليس في المقدار إذ ذكر البرقي أن ابن عباس قال: أصغر الحجارة كرأس الإنسان، وكبارها كالإبل. وهذا الذي ذكره البرقي ذكره ابن إسحاق في رواية يونس عنه، وكانت قصة الفيل أول محرم من سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.
6 ردينا: اسم امرأة، كأنها سميت بتصغير ردنة وهي القطعة من الردن "الحرير" نعمناكم: أن نعمنا بكم.

ص -48-         فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلِكون بكلِّ مَهْلِك على كل مَنْهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهمٍ يسقط أنْملة أنْملة1: كلما سقطت أنْملة، أتبعتها منه مده تَمُثُّ2 قيحًا ودمًا، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فَرْخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدرهُ عن قلبه، فيما يزعُمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عُتبة أنه حُدِّث: أن أولَ ما رُؤيت الحصبةُ والجُدَرِي بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رُؤي بها مرائر الشجر: الحرمل والحنظل والعُشَر ذلك العام.
الله -جل جلاله- يذكر حادثة الفيل ويمتن على قريش:
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان مما يَعُدُّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال الله تبارك وتعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1-5] وقال: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4] أي لئلا يغير شيئًا من حالهم التي كانوا عليها، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه.
تفسير مفردات سورتي الفيل وقريش: قال ابن، هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه3 وأما السِّجِّيل، فأخبرني يونس النحوي وأبو عُبَيْدة أنه عند العرب: الشديد الصلب، قال رُؤبة بن العَجَّاج:
ومسَّهم ما مسَّ أصحابَ الفيلْ                     ترميهمُ حجارة من سِجِّيلْ
ولعبتْ طير بهم أبابيل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأنملة: طرف الإصبع، ولكن قد يعبر بها عن طرف غير الإصبع، أى ينتثر جسمه قطعة قطعة.
2 تمث: ترشح.
3 ذكر ابن هشام أنها لا واحد لها من لفظها: وقال غيره: واحدها: إبالة، وأبول: وزاد ابن عزيز: وإِبّيل.

ص -49-         وهذه الأبيات في أرجوزة له.
ذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية، جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنما هو سَنْج وجِلّ يعني بالسنج: الحجر، وبالجل: الطين، يعني الحجارة من هذين الجنسين: الحجر والطين. والعَصْف: ورق الزرع الذي لم يُقَصَّب، وواحدته عَصْفَة. قال: وأخبرنى أبو عُبَيدة النحوي أنه يقال له العُصافة والعَصيفة. وأنشدنى لعَلْقَمة بن عَبَدَة أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم:
تَسقى مَذانبَ قد مالت عَصيفتُها               حَدُورُها من أتِيِّ الماءِ مَطْمومُ1
وهذا البيت في قصيدة له. وقال الراجز:
فَصُيِّروا مثلَ كعصْف مأكول
قال ابن هشام: ولهذا البيت تفسير في النحو2.
وإيلاف قريش: إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم، وكانت لهم خَرْجتان: خَرْجة في الشتاء، وخَرْجة في الصيف. أخبرنى أبو زيد الأنصاري: أن العرب تقول: ألفت الشيء إلْفًا، وآلفته إيلافًا، معنى واحد: وأنشدني لذي الرُّمَّة:
من المؤْلِفات الرملَ أدماءُ حُرَّة                شُعاعُ الضُّحَى في لونِها يتوضَّحُ
وهذا البيت في قصيدة له. وقال مطرود بن كعب الخُزاعى:
المُنْعَمين إذا النجومُ تغيَّرت      والظاعنين لرحلةِ الإيلاف
وهذا البيت في أبيات له، سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. والإيلاف أيضًا: أن يكون للإنسان ألف من الإبل؛ أو البقر، أو الغنم، أو غير ذلك. يقال: آلف فلان إيلافًا. قال الكُمَيْت بن زيد، أحد بني أسد بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مذانب: مسايل، حدورها: ما انحدر منها، ويروى جدورها: أي الحواجز التي تحبس الماء. والأتي: الماء يأتي من بعيد. والمطموم: الماء المرتفع.
2 تفسيره: أن الكاف تكون حرف جر، وتكون اسْمًا بمعنى: مثل، وبذلك أنها حرف: انظر ذلك مفصلًا في: "الروض الأنف للسهيلي بتحقيقنا ج1 ص75".

ص -50-                بعامِ يقول له المؤْلِفو        نَ هذا المُعيم لنا المُرْجلُ1
وهذا البيت في قصيدة له. والإيلاف أيضًا: أن يصير القوم ألفا، يقال: آلف القوم إيلافًا. قال الكُمَيْت بن زيد:
وآل مُزيْقياء غَدَاةَ لاقَوْا     بني سَعْدِ بْنِ ضَبةَ مُؤْلفينا
وهذا البيت في قصيدة له. والإيلاف أيضًا: أن تؤلف الشيء إلى الشيء فيألفه ويلزمه، يقال: ألفته إياه إيلافا. والإيلاف أيضًا: أن تصيِّر ما دون الألف ألفًا، يقال: ألفته إيلافًا.
مصير قائد الفيل وسائسه: قال ابنُ إسحاق: حدثني عبد الله بن أبى بكر، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لقد رأيت قائد الفيل وسائسَه بمكة أعميين مُقعَدَيْن يستطعمان الناس".
ما قيل في قصة الفيل من الشعر:
قال ابن إسحاق: فلما رد الله الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشًا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مئونةَ عدوِّهم، فقالوا في ذلك أشعارًا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشةِ، وما ردَّ عن قريش من كيدِهم.
شعر عبد الله بن الزِّبَعْرَى: فقال عبد الله بن الزِّبَعْرَى بن عدي بن قيس بن عدي بن سعيد2 بن سهم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤي بن غالب بن فِهْر:
تنكَّلوا عن بطنِ مكةَ إنها            كانت قديما لا يُرامُ حريمُها
لم تخلق الشعْرى لَيَاليَ حُرِّمَتْ                    إذ لا عزيزَ من الأنامِ يرومُها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المؤلِفون: جمع مؤلف. والمؤلف صاحب الألف من الإبل والمُعِيم بالميم: من العيمة أى: تجعل تلك السنة صاحب الألف من الإبل يعام "يشتاق ويشتهي" إلى اللبن. وترجله: فيمشي راجلًا، لعجف الدواب وهُزَالها.
2 نسب ابن إسحاق عبد الله بن الزَّبَعْرى إلى عدي بن سُعيد بن سهم. وهو خطأ، والصواب، سَعد بن سهم، وإنما سُعيد: أخو سعد.
ص -51-                       سائلْ أميرَ الجيشِ عنها ما رأى           ولسوفَ يُنْبِي الجاهلين عليمُها
ستونَ ألفا لم يَئُوبوا أرضَهم                     ولم يعش بعدَ الإياب سقيمُها
كانت بها عادٌ وجُرْهم قبلَهم                    والله من فوقِ العبادِ يقيمُها
قال ابنُ إسحاق: يعني ابن الزِّبَعْرَى بقوله:
........ بعد الإيابِ سقيمُها
أبرهة، إذ حملوه معهم حين أصابه ما أصابه، حتى مات بصنعاء.
شعر ابن الأسْلَت: وقال أبو قَيْس بن الأسْلَت الأنصاري ثم الْخَطميّ، واسمه: صَيْفي قال ابن هشام: أبو قيس: صَيْفيُّ بنُ الأسْلَت ابن جُشَم بن وائل بن زَيْد بن قيس بن عامر بن مُرة بن مالك بن الأوس:
ومن صُنْعِه يومَ فيل الحبُو      شِ إذ كلما بعثوه رَزَمْ1
محاجنُهم تحتَ أَقرابِه           وقد شَرَّموا أنفَه فانخرَمْ2
وقد جعلوا سَوْطَه مِغْوَلًا         إذا يمَّمُوهُ قَفاه كُلِم3
فولَّى وأدبرَ أدراجَه                وقد باءَ بالظلمِ من كان ثَمْ
فأرسلَ من فوقِهم حاصبًا       فلفَّهُمُ مثلَ لفِّ القُزُمْ4
تحُضُّ على الصبرِ أحبارُهم     وقد ثأجُوا كَثُؤَاجِ الغَنَمْ5
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له. والقصيدة أيضًا تروى لأمية بن أبى الصَّلْت.
قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس بن الأسلت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رزم: ثبت في مكانه ولزمه لا يبرحه.
2 المحاجن: جمع محجن. عصا معوجة. والأقراب: جمع قرب. الخصر. شرموا أنفه: شقوه.
3 المغول: سكين كبير. وكلم: جرح.
4 القزم: صغار الغنم، ويقال: رذال المال.
5 ثأج: صاح.
ص -53-         شعر أبي الصلت الثقفي: قال ابن إسحاق: وقال أبو الصَّلْت1 بن أبى ربيعة الثَّقفي في شأن الفيل، ويذكر الحنيفيَّة دينَ إبراهيم عليه السلام. قال ابن هشام: تروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي:
إن آياتِ ربِّنا ثَاقبات               لا يُمارِي فيهن إلا الكفورُ
خلقَ الليلَ والنهارَ فكل          مستبين حسابُه مقدورُ
ثم يجلو النهارَ ربُّ رحيم        بمَهاةٍ شُعاعُها منشورُ2
حُبِس الفيلُ بالمُغمَّس، حتى                   ظلَّ يحبو كأنه معقورُ
لازمًا حَلْقةَ الجِرانِ كما قُطِّـ      ـرمن صخر كَبْكَب محدور3
حوله من ملوك كِندةَ أبطا       ل ملاوِيث في الحروبِ صُقور
خَلَّفوه ثم ابذعَرُّوا جميعًا        كلهم عظمُ ساقِه مكسورُ
كلُّ دينٍ يومَ القيامةِ عندَ الله                     إلا دين الحنيفةِ بورُ4
شعر الفرزدق: قال ابن هشام: وقال الفرزدق -واسمه همّام بن غالب أحد بني مُجَاشع بن دَارم بن مالك بن حَنْظلة بن مالك بن زيد مَناة بن تميم-يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويهجو الحجاجَ بن يوسف، ويذكر الفيلَ وجيشه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسم أبي الصلت: ربيعة بن وهب بن علاج.
2 المهاة: اسم من أسماء الشمس؛ سميت بذلك لصفائها. والمها من الأجسام: الصافي الذي يرى باطنه من ظاهره. والمها: البلورة. والمهاة: الظبية.
3 الجران: العنق. وقطّر: رمى على قطره وهو الجانب. وكبكب: اسم جبل. والمحدور: الذي حدر من جبل أي وقع.
4 الحنيفة: الأمة الحنيفة، أي: المسلمة التي على دين إبراهيم الحنيف -صلى الله عليه وسلم- وذلك أنه حنف عن اليهودية والنصرانية، أي: عدل عنهما. فسمي حنيفًا. أو حنف عما كان يعبد آباؤه وقومه.

ص -54-                      فلما طغى الحجاجُ حين طغى به          غنيَ قال: إني مُرْتق في السلالم1
فكان كما قال ابنُ نوح: سأرتقى              إلى جبل من خَشْيةِ الماءِ عاصم2
رمى اللّه في جثمانِه مثلَ ما رمى          عن القبلةِ البيضاءِ ذاتِ المحارم
جنودًا تسوق الفيلَ حتى أعادهم            هَباءً، وكانوا مُطْرَخِمي الطرَاخم
نُصِرْتَ كنصر البيتِ إذ ساق فيلَه              إليه عظيمُ المشركين الأعاجم
وهذه الأبيات في قصيدة له.
شعر ابن قيس الرقيات: قال ابن هشام: وقال عبدُ اللّه بن قَيْس الرقيَّات. أحدُ بني عامر بن لؤي بن غالب يذكر أبرهةَ -وهو الأشرم- والفيل:
كاده الأشرمُ الذي جاء بالفيـ                 ـل فولَّى وجيشُه مهزومُ
واستَهلَّتْ عليهمُ الطيرَ بالجنـ               ـدلِ حتى كأنه مَرْجومُ4
ذاك من يَغْزُهُ من الناسِ يَر                    جعْ، وهو فَل من الجيوش ذميمُ5
وهذه الأبيات في قصيدة له.
ولدا أبرهة: قال ابن إسحاق: فلما هلك أبرهة، ملك الحبشَةَ ابنُهُ يكسوم بنُ أبرهة، وبه كان يُكْنَى، فلما هلك يكسوم بن أبرهة، ملك اليمَن في الحبشة أخوه مسروقُ بن أبرهة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غني: أي استغناء.
2 ابن نوح: واسمه: يام. وقيل كنعان.
3 المطرخم: الممتلئ كبرًا. والطرخم جمع: المُطِرخم.
4 قوله: "حتى كأنه مرجوم" وهو قد رُجم، فكيف شبهه بالمرجوم وهو مرجوم بالحجارة، وهل يجوز أن يقال في مقتول: كأنه مقتول؟ فنقول: لما ذكر استهلال الطير، وجعلها كالسحاب يستهل بالمطر، والمطر ليس برجم، وإنما الرجم بالأكف ونحوها، شبه بالمرجوم الذي يرجمه الآدميون، أو من يعقل ويتعمد الرجم من عدو ونحوه، فعند ذلك يكون المقتول بالحجارة مرجومًا على الحقيقة، ولما لم يكن جيش الحبشة كذلك، وإنما أمطروا حجارة فمن ثم قال: كأنه مرجوم. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص81".
5 الفل: المنهزم.
ص -55-         خروج سيف بن ذي يزن ومُلك وهرز على اليمن:
سيف يشكو لقيصر: فلما طال البلاءُ على أهل اليمن، خرج سيفُ بن ذي يَزن الحميريُّ وكان يُكْنَى بأبي مُرَّة، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما هم فيه، وسأله أن يخرجهم عنه، وَيليَهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يُشْكِه.
النعمان يتشفع لسيف عند كسرى: فخرج حتى أتى النعمانَ بنَ المنذِر2 -وهو عامل كسرى3 على الحِيرة، وما يليها من أرض العراق- فشكا إليه أمر الحبشة، فقال له النعمان: إن لي على كسرى وِفادةً في كلِّ عام، فأقمْ حتى يكونَ ذلك، ففعل، ثم خرج معه فأدخله على كسرى، وكان كسرى يجلس في إيوان مجلِسه الذي فيه تاجُه، وكان تاجه، مثل الْقَنْقَل العظيم4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن فطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو: حِمير بن سبأ.
2 النعمان: اسم منقول من النعمان الذي هو الدم.
3 وكسرى هذا هو: أنوشروان بن هباذ، ومعناه مُجدد الملك؛ لأنه جمع مُلك فارس بعد شتات.
4 القَنْقَل الذي شبه به التاج هو مكيال عظيم. قال الراجز يصف الكماة:
مالك لا تجرفها بالقنقل                    لا خير في الكمأة إن لم تفعل
وفى الغريبين للهروي: القنقل: مكيال يسع ثلاثة وثلاثين منًّا، والمن وزن رطلين، وهذا التاج قد أتى به عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- حين استلب من يزدجرد بن شهريار، تصيَّر إليه من قبل جده أنوشروان المذكور، فلما أتى به عمر -رضي اللّه عنه- دعا سراقة بن مالك المُذلِجي، فحلاه بأسورة كسرى، وجعل التاج على رأسه، وقال له: "قل: الحمد للّه الذي نزع تاج كسرى، ملك الأملاك من رأسه، ووضعه في رأس أعرابي من بني مُدلج، وذلك بعز الإسلام وبركته لا بقوتنا"، وإِنما خص عُمر سُراقة بهذا؛ لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– كان قال له: "يا سراقُ كيف بك إذا وضع تاج كسرى على رأسك وإسواره في يديك"، أو كما قال: -صلى الله عليه وسلم.

ص -56-         -فيما يزعمُون- يُضرَبُ فيه الياقوت واللؤلؤ والزبرجد بالذهب والفضة، معلقًا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك، وكانت عنقُه لا تحمل تاجَه، إنما يُستَر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك، ثم يُدْخِل رأسَه في تاجِه، فإذا استوى في مجلسه كُشفت عنه الثيابُ، فلا يراه رجل لم يره قبلَ ذلك، إلا برك هَيبة له، فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك.
معاونة كسرى لسيف: قال ابن هشام: حدثني أبو عُبيدة: أن سيفا لما دخل عليه طأطأ رأسه، فقال الملك: إن هذا الأحمقُ يدخل عليَّ من هذا الباب الطويل، ثم يطأطئ رأسه؟! فقيل ذلك لسيف، فقال: إنما فعلت هذا لهمِّي، لأنه يضيقُ عنه كلُّ شيء.
قال ابن إسحاق: ثم قال له: أيها الملك، غَلَبَتْنا على بلادِنا الأغربةُ. فقال له كسرى: أي الأغربة: الحبشة أم السند؟ فقال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرني، ويكون مُلك بلادي لك، قال: بَعُدَتْ بلادُك مع قلة خيرِها، فلم أكن لأورِّط جيشًا من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسوةً حسنة، فلما قبض ذلك منه سيف خرج؛ فجعل ينثر ذلك الوَرِقَ للناس، فبلغ ذلك الملك، فقال: إن لهذا لشأنا، ثم بعث إليه، فقال: عمدت إلى حباء الملك ثَنثُره للناسِ، فقال: وما أصنعُ بهذا؟ ما جبالُ أرضي التي جئتُ منها إلا ذهب وفضة -يرغِّبه فيها- فجمع كسرى مَرَازِبته1، فقال لهم: ماذا تَرَوْن في أمر هذا الرجل، وما جاء له؟ فقال قائل: أيها الملك، إن في سجونك رجالا قد حبستَهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن يُهْلَكوا كان ذلك الذي أردت بهم، وإن ظفروا كان مُلكًا ازدَدْته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه، وكانوا ثمانمائةَ رجلٍ.
انتصار سيف: واستعمل عليهم رجلًا يقال له وَهْرِز، وكان ذا سِنّ فيهم، وأفضلهم حسبًا وبيتًا، فخرجوا في ثمانِ سفائن، فغرقت سفينتان، ووصل إلى ساحل عدن ستُّ سفائن2، فجمع سيف إلى وَهْرِز من استطاع من قومه، وقال له: رِجْلي مع رِجْلك حتى نموت جميعًا، أو نظفر جميعًا. قال له وَهْرِز: أنصفتَ. وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن، وجمع إليه جنده، فأرسل إليهم وَهْرِز ابنا له؟ ليقاتلهم، فيختبر قتالهم، فقُتل ابنُ وَهْرِز، فزاده ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مرازبته: وزراؤه.
2 وذكر ابن قتيبة أنهم كانوا سبعة آلاف وخمسمائة، وانضافت إليهم قبائل من العرب.

ص -57-         حنقًا عليهم، فلما توافق الناس على مَصَافِّهم، قال وَهْرِز: أروني ملكَهم، فقالوا له: أترى رجلًا على الفيل عاقدًا تاجَه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء؟ قال: نعم، قالوا: ذاك مَلِكُهم، فقال: اتركوه، قال: فوقفوا طويلا، ثم قال: علامَ هو؟ قالوا: قد تحول على الفرس، قال: اتركوه. فوقفوا طويلا، ثم قال: علامَ هو؟ قالوا: قد تحول على البغلة. قال وهرز: بنتُ الحمار؟! ذُلَّ وذُلَّ مُلْكُه، إني سأرميه، فإن رأيتم أصحابَه لم يتحركوا، فاثبتوا حتى أوذِنَكم، فإني قد أخطأت الرجلَ، وإن رأيتم القومَ قد استداروا ولاثوا به، فقد أصبتُ الرجل، فاحملوا عليهم. ثم وتر قوْسَه، وكانت فيما يزعمون لا يُوترها غيرُه من شدتها، وأمر بحاجبيه، فعُصبا له، ثم رماه، فصك الياقوتةَ التي بين عينيه، فتغلغلت النُشَّابةُ في رأسه حتى خرجت من قفاه، ونُكِس عن دابته، واستدارت الحبشةُ ولاثتْ به، وحملت عليهم الفرسُ، وانهزموا، فقُتلوا وهَربوا في كل وجهٍ، وأقبل وَهْرِز، ليدخل صنعاء1، حتى إذا أتى بابها، قال: لا تدخل رايتي منكسة أبدًا، اهدموا البابَ، فهُدم، ثم دخلها ناصبًا رايته.
شعر سيف بن ذي يزن في هذه القصة: فقال سيف بن ذي يزن الحميري:
يظنُّ الناسُ بالْمَلكيـ              ـنِ أنهما قد التأما2

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما كانت تسمى قبل ذلك أوال بفتح الهمزة وكسرها.
قال ابن الكلبي: وسميت: صنعاء لقول وهرز حين دخلها. صنْعَة صنعة، يريد أن الحبشة أحكمت صنعها، قال ابن مقبل يذكر أوالًا:
عهد الحداة بها لعارض قرية      وكأنها سفن بسيف أوال
والعارضة هنا: ما اعترض في الأفق من سحاب.
وقال جرير:
وشبهت الحدوج غداة قَوٍّ      سفين الهند رَوَّحَ من أوالا
والحدوج: هنا بمعنى مراكب للنساء كالمحفة وقوّ: منزل للقاصد إلى المدينة من البصرة، ويقال أنها واد بين اليمامة وهجر.
وقال الأخطل:
خوص كأن شكيمهن معلق      بقنا ردينة، أو جذوع أوال
وقد قيل إن صنعاء اسم الذى بناها، وهو: صنعاء بن أوال بن عيبر بن عابر بن شالخ، فكانت تعرف تارة بأوال، وتارة بصنعاء.
2 التأما: اصطلحا.

ص -58-                     ومن يسمعْ بلأمهما   فإن الخطبَ قد فقما1
قتلنا القَيْل مسروقًا            وروَّينا الكثيبَ دَمَا2
وإن القَيْل قَيْل النا              سِ وَهْرِزَ مُقْسِم قَسَمَا
يذوق مُشَعْشَعًا حتى         يُفيء السبيُ والنَّعَما3
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في أبيات له. وأنشدني خلاد بن قُرة السّدُوسي آخرَها بيتًا لأعْشَى بنى قَيْس بن ثعلبة في قصيدة له، وغيرُه من أهل العلم بالشعر يُنْكِرها له.
شعر أبي الصلت: قال ابن إسحاق، وقال أبو الصلْت بن أبي ربيعهَ الثقفىُّ، قال ابن هشام: وتُروى لأميَّة بْن أبي الصَّلْت:
ليطلب الوِتْر أمثالُ ابن ذي يزن                  رَيَّمَ في البحر للأعداء أحوالَا4
يمَّمَ قَيْصَر لما حان رحلتهُ       فلم يجدْ عندَه بعضَ الذي سالَا
ثم انثنى نحوَ كِسرى بعدَ عاشرةٍ               من السنين يُهين النفسَ والمالَا
حتى أتى ببنى الأحرارِ يحملهم                إنَّك عَمْرِي لقد أسرعتَ قِلْقَالَا5
للّهِ دَرهُمُ من عُصبةٍ خرجوا    ما إن أرى لهم في الناسِ أمثالاَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقم: ازداد واشتد.
2 القيل: الملك.
3 المشعشع: الخمر الممزوجة بالماء.
4 ريم في البحر: أي: أقام فيه، ومنه الروايم، وهي الأثافي، كذلك وجدته في حاشية الشيخ التي عارضها بكتابي "أبي الوليد الوقشي"، وهو عندي غلط؛ لأن الروايم من رأمت إذا عطفت، وريم ليس من رأم، وإنما هو من الريم، وهو الدرج، أو من الريم الذي هو الزيادة والفضل، أو من رأم يريم إذا برح، كأنه يريد: غاب زمانا وأحوالا، ثم رجع للأعداء، وارتقى في درجات المجد أحوالا إن كان من الريم الذي هو الدرج، ووجدته في غير هذا الكتاب: خيم مكان ريم، فهذا معناه: أقام. عن الروض الأنف بتحقيقنا ج1، ص84.
5 عمري. أراد: لعمري وقد قال الطائي:
عمري لقد نصح الزمانُ، وإنه                   لمن العجائب ناصح لا يشفق
وقوله: أسرعت قلقالا بفتح القاف وكسرها، وكقول الآخر: "وقلقل يبغي العز كل مقلقل" وهي شدة الحركة.
ص -59-          بِيضًا مَرَاذبةً، غُلْبًا أساورةً  أسدًا تُربب في الغَيْضاتِ أشبالَا1
يَرمون عن شُدُفٍ كأنها غُبُط        بِزَمْخَر يُعْجل المرمِيَّ إعجالا2
أرْسَلْتَ أسْدًا على سودِ الكلاب فقد               أضحَى شريدُهُمُ في الأرضِ فُلَّالَا
فاشربْ هنيئًا عليك التاجُ مُرْتَفِقًا                    في رأس غُمدَانَ دارا منك مِحْلالاَ3
واشربْ هنيئا فقد شالتْ نعامتُهم                  وأسبِل اليومَ في بُرديْكَ إسْبالاَ4
تلك المكارمُ لا قَعْبان من لبنٍ      شِيبا بماءٍ فعادَا بعدُ أبوالَا
قال ابن هشام: هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها، إلا آخرها بيتًا قوله:
تلك المكارمُ لا قَعْبانَ من لبن
فإنه للنابغة الجعدي. واسمه: حِبَّان بن عبد اللّه بن قَيْس5، أحد بنى جَعْدة بن كعب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غُلبًا: شدادًا. والأساورة: الرماة، والغيضات: جمع غيضة الشجر الكثير الملتف.
2 "يرمون عن شدف كأنها غبط" الشُّدَف: الشخص، ويجمع على شُدُف، ولم يرد هنا إلا القسي، وليس شدف جمعًا لشدف، وإنما هو جمع شدوف، وهو النشيط المرح يقال: شدف فهو شدف، ثم تقول: شدوف، كما نقول مروح، وقد يستعار المرح والنشاط للقسي لحسن تأتيها وجودة رميها وإصابتها، فيرمون عن شدف أي: يدفعون عنها بالرمي، ويكون الزمخر: القسي، أو النبل، والغبط: الهوادج، والزمخر: القصب الفارسي.
3 غمدان أسسه: يعرب بن قحطان، وأكمله بعده، واحتله: وائل بن حمير بن سبأ، وكان ملكًا متوجًا كأبيه وجده.
4 شالت نعامتهم: أي هلكوا، والنعامة: باطن القدم، وشالت: ارتفعت، ومن هلك ارتفعت رجلاه، وانتكس رأسه، فظهرت نعامة قدمه تقول العرب: تنعمت إذا مشيت حافيًا، قال الشاعر:
تنعمت لما جاءني سوء فعلهم      ألا إنما البأساء للمتنعم
5 ويروى أن اسمه: قيس بن عبد اللّه، وقيل: إن اسمه حبان بن قيس بن عبد الله بن وحوح، والوحوح فى اللغة: وسط الوادى، قاله أبو عبيد وأبو حنيفة الدينوري، وهو أحد النوابغ وهم ثمانية ذكرهم البكري. والنابغة شاعر معمر عاش مائتين وأربعين سنة أكثرها في الجاهلية وقدومه على رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وإنشاده إياه، ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم: "ألا يفض الله فاه مشهور".
ص -60-         ابن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بن بَكر بن هوازن، في قصيدة له.
شعر عدي بن زيد: قال ابن إسحاق: وقال عدي بن زيد الحيري، وكان أحد بني تميم. قال ابن هشام: ثم أحد بني امرئ القيس بن زَيد مناة بن تميم، ويقال: عدي من العباد من أهل الحيرة1:
ما بعدَ صنعاءَ كان يَعْمُرها          ولاةُ مُلك جَزْلٍ مواهبُها
رفَّعها مَنْ بَنَى لدى قَزَع الـ        ـمُزْنِ وتَنْدَى مِسْكا مَحاربُها2
مَحفوفةٌ بالجبالِ دونَ عُرَى الْـ     ـكائدِ ما تُرْتَقى غواربُها3
يأنسُ فيها صوتُ النُّهــامِ إذا       جاوبَها بالعشيِّ قاصِبُها4
ساقت إليه الأسبابُ جندَ بني الـ                  ـأحرارِ فرسانُها مواكبُها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العباد، وهم من عبد القيس بن أفصى بن دُعمِيّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة، قيل: إنهم انتسلوا من أربعة: عبد المسيح، وعبد كُلال، وعبد اللّه، وعبد ياليل، وكذلك سائرهم في اسم كل واحد منهم: عبد، وكانوا قدموا على ملك فتسموا له، فقال: أنتم العِبَاد فسُموا بذلك، وقد قيل غير هذا. وفي الحديث المسند: "أبعد الناس عن الإسلام الروم والعباد"، وأحسبهم هؤلاء؛ لأنهم تنصروا، وهم من ربيعة، ثم من بني عبد القيس، والله أعلم. والذي ذكره الطبري في نسب عدي بن زيد أنه ابن زيد بن حماد بن أيوب بن مجروف بن عامر بن عصَية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. وقد دخل بنو امرئ القيس بن زيد مناة في العباد. فلذلك ينسب عدي إليهم.
2 قزع المزن: السحاب المتفرق.
3 دون عرى الكائد، يريد: عرى السماء وأسبابها، ووقع في نسخة الشيخ: عرى بفتح العين، وهي الناحية، وأضافها إلى الكائد، وهو الذي كادهم، والباري -سبحانه وتعالى- كيده متين.
4 صوت النهام، يريد ذكر البوم، وقاصبها: الذى يزمر في القصب.

ص -61-                         وفوزت بالبغالِ تُوسَقُ بالـ     ـحَتْفِ وتَسْعَى بها توالبُها1
حتى رآها الأقْوالُ من طرفِ الـ                     ـمَنقلِ مُخْضَرَّة كتائبُها2
يوم يُنادون آل بَرْبر والـ             ـيكْسوم لا يُفْلَحنَّ هاربُها3
وكان يوم باقي الحديث وزا       لت إمَّةٌ ثابت مراتبُها4
وبُدِّل الفَيْج بالزرافةِ والأيا          م جُونٌ جَم عجائبها5
بعدَ بني تُبَّع نَخاوِرة                قد اطمأنَّت بها مرازُبها6
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له، وأنشدني أبو زيد الأنصاري، ورواه لي عن المفضَّل الضبي، قوله:
يوم ينادون آل بربر واليكسوم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فَوّزَت بالبغال أي: ركبت المفاوز. تُوسق بالحتف، أي: أوسق البغال الحتوف، وتوالبها: جمع تولب، وهو ولد الحمار، والتاء في تولب بدل من واو، كما هي في توءم وتولج وفي توراة على أحد القولين؛ لأن اشتقاق التولب من الوالبة، وهي ما يولده الزرع، وجمعه: أوالب.
2 من طرف المَنْقَل: أي: من أعالى حصونها، والمنقال: الخِرج ينقل إلى الملوك من قرية إلى قرية، فكأن المنقل من هذا، والله أعلم. وقوله: مخضرة كتائبها. يعني من الحديد، ومنه الكتيبة الخضراء.
3 ينادون آل بربر: لأن البربر والحبشة من ولد حام. وقد قيل إنهم من ولد جالوت من العماليق.
وقد قيل في جالوت إنه من الخزر، وان أفريقس لما خرج من أرض كنعان سمع لهم بربرة، وهي اختلاط الأصوات، فقال: ما أكثر بربرتهم! فسُمُّوا بذلك، وقيل غير هذا.
4 الإمة: النعمة.
5 الفيج: المنفرد في مشيته، والزرافة الجماعة من الناس.
6 النخاوة: الكرام. والمرازبة: الوزراء.

ص -62-         وهذا الذي عنى سَطيح بقوله: "يليه إرم ذى يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن". والذي عنى شق بقوله: "غلام ليس بِدَني ولا مُدَنْ، يخرج عليهم من بيت ذي يَزَنْ".
ذكر ما انتهى إليه أمر الفُرس باليمن:
مدة مكث الحبشة باليمن: قال ابن إسحاق: فأقام وَهْرِز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس: الأبناء الذين باليمن اليوم. وكان مُلْك الحبشة باليمن، فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت من الحبشة، اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة.
أمراء الفرس باليمن: قال ابن هشام: ثم مات وَهْرِز، فأمَّر كسرى1 ابنه المرْزُبان بن وهرز على اليمن، ثم مات المرْزُبان، فأمّر كسرى ابنه التينُجان بن المرزبان على اليمن، ثم مات التينُجان، فأمر كسرى ابن التينجان على اليمن، ثم عزله وأمَّر باذان، فلم يزل باذان عليها حتى بعث اللّه محمدًا النبي صلى الله عليه وسلم.
محمد -صلى الله عليه وسلم- يتنبأ بموت كسرى: فبلغني عن الزهري أنه قال:
كتب كسرى إلى باذان: أنه بلغني أن رجلًا من قُريش خرج بمكة، يزعُم أنه نبي فَسِرْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كسرى هذا هو: أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، ومعنى أبرويز بالعربية: المظفر، وهو الذي غلب الروم حين أنزل اللّه:
{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 1-3] وهو الذي عُرض على اللّه فى المنام، فقال له: سلِّم ما في يديك إلى صاحب الهراوة، فلم يزل مذعورًا من تلك، حتى كتب إليه النعمان بن المنذر بظهور النبي –صلى الله عليه وسلم– بتهامة؛ فعلم أن الأمر سيصير إليه حتى كان من أمره ما كان، وهو الذي كتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وحفيده: يزدجرد بن شهريار بن أبرويز، وهو آخر ملوك الفرس، وكان سُلب ملكه، وهُدم سلطانه على يدى عمر بن الخطاب، ثم قُتل هو في أول خلافة عثمان، وجد مستخفيًا فى رحى فقتل وطرح في قناة الرحى، وذلك بمرو من أرض فارس.

ص -63-         إليه فَاسْتَتِبْهُ، فإن تاب، وإلا فابعث إليَّ برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلي رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- فكتب إليه رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه قد وعدني أن يُقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا"1 فلما أتى باذانَ الكتابُ توقف لينظر، وقال: إن كان نبيًّا، فسيكون ما قال، فقتلَ اللّه كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: قُتل على يدَيْ ابنه شَيْرَويه، وقال خالد بن حِق الشيبانيُّ:
وكسرى إذ تَقَسَّمه بنوه     بأسيافٍ كما اقتُسِم اللَّحامُ
تمخضتِ المنونُ له بيومٍ    أنى، ولكلِّ حاملةٍ تمام2
إسلام باذان: قال الزهري: فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه، وإسلام من معه من الفُرس إلى رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- فقالت الرسلُ من الفرس لرسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- إلى من نحن يا رسول اللّه؟ قال: "أنتم منا وإلينا أهلَ البيت".
قال ابن هشام: فبلغني عن الزهريِّ أنه قال: فمن ثَمَّ قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم: "سَلْمانُ منا أهل البيت".
قال ابن هشام: فهو الذي عنى سطيح بقوله: "نبيّ زكي، يأتيه الوحي من قبل العليّ"، والذي عنى شق بقوله: بل ينقطع برسول مُرْسَل، يأتي بالحق والعدل، من أهل الدين والفضل، يكون المُلك في قومه إلى يوم الفصْل".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان مقتل كسرى حين قتله بنوه ليلة الثلاثاء لعشر من جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة، وأسلم باذان باليمن في سنة عشر، وفيها بعث رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- إلى أبناء الفرس الذين استوطنوا اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فمن الأبناء: وهب بن مُنبه بن سَيج ابن ذُكبار، وطاوس وذادَوَيْه وفيروز اللذان قتلا الأسود العنسي الكذاب، وقد قيل فى طاوس: إنه ليس من الأبناء، وإنه من حمير، وقد قيل: من فارس، واسمه: ذكوان بن كيسان، وهو مولى بجير بن ريسان؛ وقد قيل: مولَى الجَعد، وكان يقال له طاوس القُراء لجماله.
2 تمخضت: حملت، والمنون: المنية، وهو أيضًا من أسماء الدهر، وهو من منت الحبل إذا قطعته، وأني: أي حان.

ص -64-         كتاب الحجر الذي في اليمن: قال ابن إسحاق: وكان في حَجَر باليمن -فيما يزعُمون- كتاب بالزَّبور كُتب في الزمان الأول: "لمن مُلك ذِمَار1؟ لِحمْير الأخيار2، ولمن ملك ذِمار؟ للحبشة الأشرار3، لمن ملك ذِمار؟ لفارس الأحرار4، لمن ملك ذِمار؟ لقريش التجار".
وذِمار: اليمن أو صنعاء، قال ابن هشام: ذَمار: بالفتح، فيما أخبرني يونس.
الأعشى يذكر نبوءة شق وسطيح: قال ابن إسحاق: وقال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة في وقوع ما قال سطيح وصاحبه:
ما نظرتْ ذاتُ أشفارٍ5 كنظرتها                حقًّا كما صدقَ الذئبيُّ إذ سجعا
وكانت العرب تقول لسطيح: الذئبي؟ لأنه سطيح بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حكى ابن هشام عن يونس ذَمار بفتح الذال، فدل على أن رواية ابن إسحاق بالكسر، فإذا كان بكسر الذال فهو غير مصروف؛ لأنه اسم لمدينة، والغالب عليه التأنيث، ويجوز صرفه أيضًا؛ لأنه اسم بلد، وإذا فتحت الذال، فهو مبني مثل: رَقاش وحَذام.
2 وقوله: لحمير الأخيار لأنهم كانوا أهل دين، كما تقدم في حديث فيميون وابن الثامر.
3 وأما قوله للحبشة الأشرار: فلما أحدثوا في اليمن من العيث والفساد وإخراب البلاد، حتى هموا بهدم بيت اللّه الحرام، وسيهدمونه في آخر الزمان إذا رَفع القرآن؛ وذهب من الصدور الإيمان. يشير بذلك إلى حديث: "اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة". وقد رواه أبو داود بسند ضعيف.
4 وقوله: لفارس الأحرار؛ فلأن الملك فيهم متوارث من أول الدنيا من عهد جيومرت في زعمهم إلى أن جاء الإسلام، لم يدينوا لملك من غيرهم، ولا أدوا الإتاوة لذي سلطان من سواهم فكانوا أحرارًا لذلك.
5 يريد: زرقاء اليمامة، وكانت تبصر على مسيرة ثلاثة أيام، وقبل البيت:
قالت:
أرى رجلا في كفه كَتِف                    أو يخصف النعل لهفي أيَة صنعا
فكذبوها بما قالت، فصبحهم              ذو آل حسان يُزجِي الموتَ والسَّلعا

ص -65-         قصة ملك الحضر:
قال ابن هشام: وحدثنى خلَّادُ بن قُرَّة بن خالد السَّدُوسي عن جَنَّاد، أو عن بعض علماء أهل الكوفة بالنسب: أنه يقال: إن النعمان بن المنذر من ولد سَاطِرون1 ملك الحَضْر. والحَضْر: حصن عظيم كالمدينة، كان على شاطئ الفرات، وهو الذي ذكر عَدي بن زيد في قوله:
وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دِجْـ       ـلة يُجْبَى إليه والخابورْ
شاده مرمرًا وجلَّله كِلْـ            ـسا فللطَّيْرِ في ذُراه وُكورْ
لم يَهَبْه ريبُ المنون فبان الْـ    ـمُلْكُ عنه فبابُه مهجورْ
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له.
والذي ذكره أبو دواد الإياديُّ2 في قوله:
وأرى الموتَ قد تدلى من الحَضـ                  ـر على رب أهله السَّاطُرون3
وهذا البيت في قصيدة له، ويقال: إنها لخلَف الأحمر، ويقال: لحماد الرَّاوية.
سابور يستولي على الحضر: وكان كسرى سابور ذو الأكتاف غزا ساطِرون ملكَ الحَضْر، فحصره سنتين، فأشرفت بنت ساطِرون4 يومًا، فنظرت إلى سابور، وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وكان جميلا، فدست إليه، أتتزوجني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الساطرون بالسريانية: هو الملك، واسم السَّاطرون: الضيزَن بن معاوية. قال الطبري: هو جُرمُقانى، وقال ابن الكلبى: هو قُضَاعي من العرب الذين تنخُوا بالسواد، فُسموا: تنوخ، أي: أقاموا بها، وهم قبائل شتى، ونسبه ابن الكلبي، فقال: هو ابن معاوية بن عبيد، ووجدته بخط أبي بحر: عُبَيد بضم العين بن أجْرَم من بني سَليح بن حُلوان بن الحاف بن قضاعة، وأمه: جَيهَلَة، وبها كان يُعرف، وهي أيضًا قضاعية من بني تزيد الذين تنسب إليهم الثياب التزيدية.
2 واسم أبى داود: جارية بن حجاج، وقيل: حنظلة بن شَرقي.
3 وبعد هذا البيت:
صرعته الأيامُ من مُلك            ونعيم وجوهر مكنون
4 وتسمى النضيرة.

ص -66-         إن فتحت لك باب الحَضْر؟ فقال: نعم. فلما أمسى ساطِرون شرب حتى سكر، وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحَضْر من تحتِ رأسه، فبعثت بها مع مولَى لها ففتح الباب، فدخل سابور، فقتل ساطِرون، واستباح الحَضْر وخرَّبه1، و سار بها معه فتزوجها؟ فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذا جعلت تتململ لا تنام، فدعا لها بشمْع، ففتش فراشَها، فوجد عليه ورقة آس؛ فقال لها سابور: أهذا الذي أسهرَك؟! قالت: نعم، قال: فما كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحريرَ، ويطعمني المخَّ، ويسقيني الخمر، قال: أفكان جزاءُ أبيك ما صنعتِ به؟! أنت إليَّ بذلك أسرعُ، ثم أمر بها، فرُبطت قرون رأسها بذنَبِ فرس، ثم ركض الفرس، حتى قتلها2، ففيه يقول أعشى بني قَيس بن ثَعْلبة:
قول أعشى قيس في قصة الحضر:
ألم ترَ للحَضْر إذ أهلُه     بنُعْمَى، وهَل خالدٌ مَنْ نعمْ
أقام به شاهبورُ الجنو    دَ حولين تضرب فيه القُدُم3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقال المسعودى: دلته على نهر واسع كان يدخل منه الماء إلى الحَضر، فقطع لهم الماء، ودخلوا منه.
وقال الطبري: دلته على طلسم كان في الحَضر، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء، وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل الحمامة، فتنزل على سور الحضر، فيقع الطلسم، فيفتح الحَضر.
2 قال ابن إسحاق: المستبيح للحضر سابور ذو الأكتاف، وجعله غيره سابور بن أزدشير بن بابك، وقد تقدم أن أزدشير هو أول من جَمع ملك فارس، وأذل ملوك الطوائف، حتى دان الملك له، والضيزن: كان من ملوك الطوائف، فيبعد أن تكون هذه القصة لسابور ذي الأكتاف، وهو سابور هرمز، وهو ذو الأكتاف؛ لأنه كان بعد سابور الأكبر بدهر طويل، وبينهم ملوك مَسمون في كتب التاريخ، وهم: هرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز، وبهرام بن بهرام، وبهرام الثالث، ونرسي بن بهرام، وبعده كان ابنه سابور ذو الأكتاف والله أعلم.
3 شاهبور: معناه ابن الملك.

ص -67-                     فلما دعا ربَّه دعوة      أناب إليه فلم ينتقمْ
وهذه الأبيات في قصيدة له.
قول عدي بن زيد: وقال عدي بن زيد في ذلك:
والحَضْر صابت عليه داهية    من فوقِه أيد مناكبها1
رَبِيّة لم تُوَقِّ والدَها             لحَيْنها إذ أضاع راقبها2
إذ غَبَقَتْه صَهْباءَ صافيةً         والخمرُ وَهْلٌ يَهيم شاربُها3
فأسْلمتْ أهلَها بليلتِها        تظنُّ أن الرئيسَ خاطبُها
فكان حَظ العَروسِ إذ جَشَر الصبْحُ دماءً تجري سَبَائِبها4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أيد: شديدة.
2 رَبِيَّة لم تُوَق والدَها: يحتمل أن تكون فعيلة من ربيت، إلا أن القياس في فعيلة بمعنى مفعولة أن تكون بغير هاء، ويحتمل أنه أراد معنى الربو والنماء، لأنها ربت في نعمة فتكون بمعنى فاعلة، ويكون البناء موافقًا للقياس، وأصح من هذين الوجهين أن يكون أراد: ربيئة بالهمز، وسهل الهمزة فصارت ياء، وجعلها ربيئة؛ لأنها كانت طليعة حيث اطلعت، حيث رأت سابور وجنوده، ويقال للطليعة ذكرًا كان أو أنثى: ربيئة، ويقال له: رباء على وزن فِعال وأنشدوا:
رباء شماء لا يأوي لقلتها                   إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
وقوله: أضاع راقبها: أي أضاع المربأة الذى يرقبها ويحرسها، ويحتمل أن تكون الهاء عائدة على الجارية أي: أضاعها حافظها.
3 والخمر وهل. يقال: وهل الرجل وهلًا وَوهَلًا إذا أراد شيئًا، فذهب وهمه إلى غيره. ويقال فيه: وهَم أيضًا بفتح الهاء، وأما وهم بالكسر، فمعناه: غلط وأرهم بالألف معناه: أسقط.
4 جشر: ظهر ووضح. سبائبها جمع: سبيبة، وهي كالعمامة أو نحوها، ومنها السب وهو: الخمار.
ص -68-                      وخُرِّب الحَضْر، واستبيحَ، وقدْ    أحْرِق في خدرِها مشاجبُها1
وهذه الأبيات في قصيدة له.
ذكر ولد نِزار بن معد:
قال ابن إسحاق: فولد نِزارُ بن معد ثلاثةَ نفر: مُضر2 بن نِزار، وربيعةَ بن نِزار، وأنمار بن نِزار.
قال ابن هشام: وإياد بن نزار. قال الحارث بن دَوْس الإيادي، ويروى لأبي دُواد الإيادي، واسمه: جارية بن الحجاج:
وفُتُوٌّ حسن أوجُهم         من إياد بن نِزار بن معد
وهذا البيت في أبيات له.
فأم مضر وإياد: سَوْدَة بنتُ عَكّ بن عدنان. وأم ربيعة وأنمار: شُقَيْقَة بنت عَك بن عدنان، ويقال: جُمْعَة بنت عك بن عدنان.
أولاد أنمار: قال ابن إسحاق: فأنمار3 أبو خَثْعَم وبجيلة، قال جرير بن عبد اللّه البَجَلي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مشاجبها. المشاجب: جمع مشجب، وهو ما تعلق منه الثياب.
2 فأما مضر فقد تقدم ذكره في عمود نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكرنا أنه أول من سن حداء الإبل، وسببه -فيما ذكروا- أنه سقط عن بعير، فوثبت يده، وكان أحسن الناس صوتًا، فكان يمشي خلف الإبل، ويقول: وايدياه وايدياه، يترنم بذلك فأعنقت الإبل، وذهب كلالها؛ فكان ذاك أصل الحداء عند العرب،وذلك أنها تنشط بحدائها الإبل، فتسرع.
3 وأما أنمار فسمى: بالأنمار جمع نَمِر، كما سموا بسباع وكلاب، وأم بنيه: بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة ولد له من غيرها أفتل وهو:خثعم، وولدت له عبقر فى خمسة عشر، سماهم أبو الفرج، عنهم تناسلت قبائل بجيلة وهم: وداعة وخزيمة وصهيبة والحارث ومالك وشيبة وطريفة وفَهم والغَوث وسهل وعبقر وأشهل كلهم بنو أنمار، ويقال: إن بجيلة حبشية حضنت أولاد أنمار الذين سَمينا، ولم تحضن أفتل، وهو: خثعم. فلم ينسب إليها.
ص -69-         وكان سيد بجيلة، وهو الذي يقول له القائل:
لولا جرير هلكت بجيله                    نعم الفتى، وبئست القبيلهْ1
وهو ينافر2 الفُرافِصة3 الكلبي إلى الأقرع بن حابس التميمى:
يا أقرعَ بن حابس يا أقرعُ      إنك إن تَصْرعْ أخاك تُصرع4
قال:
ابْنَيْ نزارٍ انصُرا أخاكما      إن أبى وجدْتُه أباكما
لن يُغلبَ اليومَ أخ وإلاكُما                     وقد تيامنت، فلحقت باليمن.
قال ابن هشام: قالت اليمن: وبجيلة: أنمار بن إراش بن لحْيان بن عمرو بن الغَوْث بن نَبْت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. ويقال: إراش بن عمرو بن لِحْيان بن الغوث. ودار بجيلة وخَثْعَم: يمانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال لما سمع هذا: ما مُدح رجل هُجي قومه: وجرير هذا هو: ابن عبد اللّه بن جابر، وهو، الشليل بن مالك بن نضر بن ثعلبة بن جشم بن عويف بن جذيمة.
2 ينافر: أي يحاكم. قال قاسم بن ثابت: لفظ المنافرة مأخوذ من النَّفر، وكانوا إذا تنازع الرجلان، وادعى كل واحد منهم أنه أعز نفرًا من صاحبه، تحاكموا إلى العلَّامة، فمن فضَل منهما قيل: نفره عليه أى: فضل نفره على نفرِ الآخر. فمن هذا أخذت المنافرة. وقال زهير:
فإن الحق مقطعُه ثلاث             يمين أو نفار أو جلاء
3 الفُرافصة بالضم: اسم أسد، والفتح اسم الرجل، وقد قيل: كل فرافصة في العرب بالضم إلا الفَرافصة أبا نائلة صهر عثمان بن عفان فإنه بالفتح.
4 الأشهر فى الرواية: "إن يُصرع أخوك"، وإنما لم ينجزم الفعل الآخر على جواب الشرط؛ لأنه في نية التقديم عند سيبويه، وهو على إضمار الفاء عند المبرد.

Share to:

معجبين برنامج تحفيظ القران الكريم على الفايسبوك