الثلاثاء، 3 مارس 2015

جزء ثانى من ص 140 /199

ص -140-      إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبع مائة وأربع وثلاثون سنة، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره. فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيه: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
قال ابن إسحاق: وقد سمعتُ من لا أتهم من أهل العلم يذكر: إن هؤلاء الآيات إنما أنزلن في أهل نجران، حين قَدِموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونه عن عيسى ابن مريم عليه السلام.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني محمدُ بن أبي أمامة بن سَهْل بن حُنَيْف، أنه قد سمع: أن هؤلاء الآيات إنما أنزلن في نفر من يهود، ولم يفسر ذلك لي. فالله أعلم أي ذلك كان.
كفر اليهود بالإِسلام وما نزل في ذلك: قال ابن إسحاق: وكان فيما بلغني عن عِكْرِمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: أن يهودَ كانوا يستفتحون على الأوْس والخزرج برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العربِ كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم مُعاذ بن جبل، وبِشر بن البراء بن معرور، أخو بني سَلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسْلِموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سَلاَّم بن مِشْكَم، أحد بني النَّضِير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
وقال ابن إسحاق: وقال مالك بن الصَّيْف، حين بُعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم -وذَكر لهم ما أخذ عليهم له من الميثاق، وما عَهِد الله إليهم فيه: والله ما عُهِد إلينا في محمد عهدٌ وما أخذ له علينا من ميثاق، فأنزل الله فيه:
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .[البقرة: 100]
وقال أبو صَلُوبا الفَطْيُوني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ ما جئتنا بشيءٍ نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها. فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله:
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].
وقال رافع بن حُرَيْمِلة، ووهب بن زيد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ائتنا

ص -141-      بكتاب تُنزله علينا من السماء نقرؤه، وفَجِّر لنا أنهارًا نتبعْك ونصدقْك، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .[البقرة: 108]
قال ابن هشام: سواء: وسط السبيل. قال حسان بن ثابت:
يا وَيْحَ أنصارِ النبي ورهطهِ                  بعد المُغَيَّب في سَواءِ المُلْحَدِ1
وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وكان حُيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب من أشد يهودٍ للعرب حسدًا، إذ خَصَّهم الله تعالى برسوله -صلى الله عليه وسلم- وكانا جاهدَيْن في رَدِّ الناس بما استطاعا. فأنزل الله تعالى فيهما:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
تنازع اليهود والنصارى عندَ الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: ولما قَدِم أهلُ نجران من النصارى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتتهم أحبارُ يهود، فتنازعوا عندَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رافع بن حُرَيْملة: ما أنتم على شيء وكَفَر بعيسى وبالإِنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجَحَد نبوةَ موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] أي: كل يتلو في كتابه تصديقَ ما كفر به، أي يكفر اليهودُ بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى عليه السلام بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفى الإِنجيل ما جاء به عيسى عليه السلام، من تصديق موسى عليه السلام، وما جاء به من التوراة من عند الله، وكل يكْفُر بما في يد صاحبه.
قال ابن إسحاق: وقال رافع بن حُرَيْمِلة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، إن كنت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الملحد القبر، اسم مفعول من ألحد.

ص -142-      رسولًا من الله كما تقول، فقل للهِ فليكلمنا حتى نسمعَ كلامَه. فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118].
وقال عبد الله بن صُوريا الأعور الفِطْيُوني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: ما الهُدَى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تَهْتَدِ، وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله تعالى في ذلك من قول عبد الله بن صُوريا وما قالت النصارى:
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] ثم القصة إلى قول الله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141].
ما قالته اليهود عند صرف القبلة إلى الكعبة: قال ابن إسحاق: ولما صُرِفت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصُرفت في رجب على رأس سبعةَ عشرَ شهرًا من مَقْدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، أتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- رفاعةُ بن قَيْس، وقَرْدَم بن عَمرو، وكعب بن الأشْرف، ورافع بن أبي رافع، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف، والربيع بن الربيع بن أبي الحُقَيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق، فقالوا: يا محمد، ما ولاَّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقْك، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه. فأنزل الله تعالى فيهم:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}. أي: ابتلاء واختبار، {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي: من الفتن، أي الذين ثبَّت الله، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، أي: إيمانكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعكم إياه إلى القبلة الآخرة، وطاعتكم نبيكم فيها، أي ليعطينكم أجرهما جميعًا، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
ثم قال تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
قال ابن هشام: شطره: نحوَه وقصده. قال عُمر بن أحمر الباهلي -وباهلة بن يَعْصر بن سعد بن قَيْس بن عيلان- يصف ناقة له:

ص -143-                                    تعدو بنا شَطْرَ جَمْعٍ وهى عاقدةٌ قد كارَبَ العَقْدُ من إيفادها الحَقَبا1
وهذا البيت في قصيدة له.
وقال قَيْس بن خُوَيْلد الهُذَلي يصف ناقته:
إن النَّعوسَ بها داءٌ مُخامِرها                  فَشَطْرَها نظرُ العَيْنين مَحْسور
وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن هشام: والنعوس: ناقته، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير، من قوله: {وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4].
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
قال ابن إسحاق: إلى قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 147].
كتمانهم ما في التوراة: وسأل معاذ بن جبل، أخو بني سَلَمة، ثم وسعد بن معاذ، أخو بني عبد الأشْهل وخارجة بن زَيْد، أخو بَلْحارث بن الخزرج، نفرًا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم في إياه، وأبوا أن يخبروهم عنه. فأنزل الله تعالى فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
جوابهم النبي عليه السلام حين دعاهم إلى الإِسلام: قال: ودعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإِسلام ورغبهم فيه، وحذَّرهم عذاب الله ونقمته. فقال له رافع بن خَارجة، ومالك بن عَوْف: بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءَنا، فهم كانوا أعلم وخيرًا منا. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
جمعهم في سوق بني قينقاع: ولما أصاب الله عز وجل قريشًا يَوْمَ بدر جمع رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يهودَ في سوق بني قَيْنقاع، حين قدم المدينة، فقال: يا معشر يهود،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ناقة عاقدة: إذا جعلت ذنبها بين فخذيها في أول حملها، وإيفادها إشرافها، والحقب حبل بشد به الرحل إلى بطن الناقة.
ص -144-      أسْلِمُوا قبل أن يُصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشًا، فقالوا له: يا محمد، لايغرنَّك من نفسِك أنك قتلتَ نفرًا من قريش، كانوا أغْمارًا1 لا يعرفون القتال،إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحنُ الناسُ، وأنك لم تَلْقَ مثلَنا، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 12، 13].
دخوله -صلى الله عليه وسلم- بيت المِدْرَاس: قال: ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ المِدْرَاس2 على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه قالا: فإن إبراهيم كان يهوديُّا، فقال لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم: فهلُمَّ إلى التوراة، فهي بيننا وبينَكم، فأبَيَا عليه. فأنزل الله تعالى فيهما:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23، 24].
تنازع اليهود والنصارى في إبراهيمَ عليه السلام: وقال أحبارُ يهودَ ونصارى نجران حين اجتمعوا عندَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنازعوا فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا وقالت النصارى من أهل في نجران: ما كان إبراهيم إلا نَصْرانيًّا. فأنزل الله عز وجل فيهم:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}.[آل عمران: 65، 68].
ما نزل في إيمانهم غُدْوَة وكفرهم عَشِيًّا: وقال عبد الله بن صَيْف، وعَدِي بن زيد، والحارث بن عَوْف، بعضُهم لبعض: تعالَوْا نؤمنُ بما أنزل على محمد وأصحابه غُدَوة، ونكفر به عشية، حتى نَلبس عليهم دينَهم لعلهم يصنعون كما نصنع، ويرجعون عن دينه. فأنزل الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأغمار: السذج الذين لم يجربوا الأمور.
2 المدارس: البيت الذي يدرس فيه اليهود كتابهم والمدراس أيضًا من يدرس لهم.

ص -145-      تعالى فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 71-73].
ما نزل في قول أبي رافع أتريد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى: وقال أبو رافع القُرظيُّ حين اجتمعت الأحبار من يهود، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم إلى الإسلام: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل من أهل نجران نصراني، يقال له: الريِّس، ويروى: الرُّبيِّس، والرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ أو كما قال. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره، فما بذلك بعثني الله، ولا أمرني أو كما قال. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}... إلى قوله تعالى: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79-80].
قال ابن هشام: الربانيون: العلماء الفقهاء السادة؟ واحدهم: رَبَّاني.
قال الشاعر:
لو كنتُ مُرتهِنًا في القَوْس أفْتَنني                      منها الكلامُ وربانيَّ أحبارِ
قال ابن هشام: القوس: صومعة الراهب. وأفتنني، لغة تميم. وفتنني، لغة قيس.
قال جرير:
لا وَصْلَ إذ صَرمتْ هندٌ ولو وقفت               لاستنزلتني وذا المِسْحَيْن في القَوْسِ
أي صومعة الراهب. والرباني: مشتق من الرب، وهو السيد. وفي كتاب الله: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41] أي: سيده. قال ابن إسحاق: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80].

ص -146-      ما نزل في أخذ الميثاق عليهم: قال ابن إسحاق: ثم ذكر ما أخذ الله عليهم، وعلى أنبيائهم من الميثاقِ بتصديقه إذ هو جاءهم، وإقرارهم، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} إلى آخر القصة.
سعيهم في الوقيعة بين الأنصار: قال ابن إسحاق: ومر شَأس بن قيْس، وكان شيخًا قد عسا1، عظيم الكفر شديد الضّغْن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأوْس والخزرج، في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتى شابًا من يهود كان معهم، فقال: اعمدْ إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يومَ بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار يوم بعاث: وكان يوم بعاث يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حُضَيْر بن سِماك الأشهلي: أبو أسَيْد بن حُضيْر؟ وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقُتلا جميعًا.
قال ابن هشام: قال أبو قَيْس بن الأسلت:
على أنْ قد فُجِعْتُ بذي حِفاظٍ                     فعاودني له حزن رَصينُ2
فإما تقتلوه فإن عَمْرًا                                أعَضَّ برأسِهِ عَضَبٌ سنين3
وهذان البيتان في قصيدة له. وحديث يوم بُعاث أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت من القطع4.
قال ابن هشام: سنين، مسنون، من سَنَّه إذا شَحذَه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عسا الشيخ: كبر.
2 الحفاظ: شدة الغضب: والرصين: الثابت.
3 العضب: السيف القاطع.
4 يقصد القطع لسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

ص -147-      قال ابن إسحاق: ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الرُّكب، أوْس بن قَيْظِي، أحد بني حارثة بن الحارث، من الأوْس، وجَبَّار بن صَخْر، أحد بني سَلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعة، فغضب الفريقان جميعًا، وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة -والظاهرة: الحرة- السلاحَ السلاحَ. فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعْوى، الجاهلية، وأنا بينَ أظهرِكم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به من قلوبكم؟! فعرف القوم أنها نَزْغة1 من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول، الله -صلى الله عليه وسلم- سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كَيْد عدو الله شَأس بن قيس. فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98،99].
وأنزل الله في أوْس بن قَيْظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا، عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 100-102]. إلى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
ما نزل في قولهم: ما اتبع محمدًا إلا شرارنا: قال ابن إسحاق: ولما أسلم عبدُ الله بن سلام وثعلبةُ بن سَعْية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عُبَيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدَّقوا ورغبوا في الإسلام، ورسخوا فيه، قالت أحبار يهود، أهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نزغ الشيطان بينهم: أفسد وأغرى.

ص -148-      قال ابن هشام: آناء الليل: ساعات الليل: وواحدها: إنْي. قال المُتنَخِّلُ الهُذَلي، واسمه مالك بن عُوَيْمر، يرثي أثيْلة ابنه:
حُلْوٌ ومُر كعَطْفِ القِدْحِ شيمتهُ                  في كُلِّ إنْي قضاه الليلُ يَنْتَعلُ
وهذا البيت في قصيدة له وقال لبيد بن ربيعة يصف حمارَ وَحْشٍ:
يُطَرِّب آناءَ النهار كأنه                    غَوِي سقاه في التِّجارِ نديمُ1
وهذا البيت في قصيدة له، ويقال: إني مقصور، فيما أخبرني يونس.{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114].
ما نزل في نَهْي المسلمين عن مباطنة اليهود: قال ابن إسحاق: وكان رجال من المسلمين يواصلون رجالًا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحِلف، فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 118، 119]، أي تؤمنون بكتابكم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم كنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119] إلى آخر القصة.
دخول أبي بكر بيت المدراس: ودخل أبو بكر الصديق بيت المدراس على يهود، فوجد منهم ناسًا كثيرًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له فِنْحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه في حَبْر من أحبارهم، يقال له: أشْيع، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك! يا فنحاص! اتق الله وأسْلمْ؟ فوالله إنك لتعلم أن محمدًا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغوي: المفسد. والتجار: بائعو الخمر. والمفرد تاجر.

ص -149-      كان عنا غنيًا ما استقرضنا أموالَنا، كما يزعم صاحبُكم، ينهاكم عن الربا ويُعْطيناه ولو كان عنا غنيًا ما أعطانا الربا قال: فغضِب أبو بكر، فضرب وجْهَ فنحاص ضربًا شديدًا، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك، أيْ عدوَّ الله. قال: فذهب فِنْحاص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "ما حملك على ما صنعتَ؟" فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولًا عظيمًا: إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبتُ لله مما قال، وضربت وجهه. فجحد ذلك فِنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردًا عليه وتصديقًا لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181].
ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وما بلغه في ذلك من الغضب
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
ثم قال فيما قال فنحاص والأحبار معه من يهود:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ، لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني فنحاص، وأشْيَع وأشباههما من الأحبار، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة، ويحبونه أن يُحمدوا بما لم يفعلوا أن يقول الناس: علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هُدى ولا حَق، ويحبون أن يقول الناس: قد فعلوا.
أمر اليهود المؤمنين بالبخل: قال ابن إسحاق: وكان كَرْدَمُ بن قيس، حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبَحْري بن عَمرو، وحُيي بن أخْطَب، ورفاعة بن زَيْد بن التابوت، يأتون رجالًا من الأنصار كانوا يخالطونهم، ينتصحون لهم، من أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالَكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تُسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علامَ يكون؟ فأنزل الله فيهم:
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، أي: من التوراة، التي فيها تصديق ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم، {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، إلى قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}.

ص -150-      اليهود –لعنهم الله– يجحدون الحقَّ: قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيْد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لوى لسانَه، وقال: أرْعنا سمعَك يا محمد، حتى نفهمك، ثم طعن في الإِسلام وعابه. فأنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا}، أي راعنا سمعك: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} وكَلم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رؤساءَ من أحبارِ يهود، منهم: عبد الله بن صُوريا الأعور، وكعب بن أسد، فقال لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق، قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد: فجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر، فأنزل الله تعالى فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47].
قال ابن هشام: نطمس: نمسحها فنسويها، فلا يُرى فيها عينٌ ولا أنف ولا فم، ولا شيء بما يُرَى في الوجه، وكذلك:
{فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] المطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق. ويقال: طمست الكتابَ والأثر، فلا يرى منه شيء. قال الأخطل، واسمه الغَوْث1 بن هُبَيْرة بن الصَّلْت التَّغْلبي، يصف إبلًا كَلَّفها ما ذكر:
وتُكْلِيفُناهَا كلَّ طامسةِ الصُّوَى                 شطونٍ ترى حِرْباءَها يتململُ2
وهذا البيت في قصيدة له:
قال ابن هشام: واحدة الصُّوَى: صُوَّة. والصُّوَى: الأعلام التي يُستدل بها على الطرق والماء.
قال ابن هشام: يقول: مُسِحت فاستوت بالأرض، فليس فيها شيء ناتئ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المشهور أن اسمه غياث بن غوث بن مصلت ويكنى أبا مالك.
2 الشطون: البعيد، والحرباء دويبة صغيرة تتلون في الشمس ألوانًا لها أربع قوائم جمعها حرابي.

ص -151-      مَنْ حَزَّب الأحزاب: قال ابن إسحاق: وكان الذين حَزَّبوا الأحزابَ من قريش وغطفان وبني قريظة: حُيي بن أخْطَب، وسلام، ابن أبي الحُقَيق، أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحُقَيق وأبو عَمَّار، ووَحْوَح بن عامر، وهَوْذة بن قيس. فأما وَحْوَح، وأبو عَمَّار، وهَوْذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول، فسلوهم، دينُكم خير أم دينُ محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينُكم خير من دينه، وأنتم أهْدَى منه وممن اتبعه. فأنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}.
قال ابن هشام: الجبت عند العرب: ما عُبد من دون الله تبارك وتعالى: والطاغوت: كل ما أضل عن الحقِّ. وجَمْع الجِبْت: جُبوت وجمع الطاغوت طَوَاغيت.
قال ابن هشام: وبلغنا عن ابن أبي نَجِيح أنه قال: الجبت: السحر والطاغوت: الشيطان.
{وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] قال ابن إسحاق: إلى قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54].
إنكار اليهودِ التنزيلَ: قال ابن إسحاق: وقال سُكَيْن وعَدي بن زيد: يا محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بَشر من شيء بعد موسى. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
ودخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جماعة منهم، فقال لهم: أمَا والله إنكم لتعلمون أني رسول من الله إليكم؟ قالوا: ما نعلمه، وما نشهد عليه. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166].
اتفاقهم على طرح الصخرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني النَّضير يستعينهم في دِية العامرييْن اللَّذَيْن قتلَ عمرو بنُ أمية الضَّمْري.

ص -152-      فلما خلا بعضُهم ببعض قالوا: لن تجدوا محمدًا أقربَ منه الآنَ، فَمَنْ رجل يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرةً فيريحنا منه؟ فقال عَمرو بن جحاش بن كعب: أنا فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر، فانصرف عنهم. فأنزل الله تعالى فيه، وفيما أراد هو وقومه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
ادِّعاؤهم أنهم أحباء الله: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نعمانُ بن أضاء، وبَحْري بن عَمرو، وشأس بن عَدي، فكلموه وكلمهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم إلى الله، وحذَّرهم نِقْمته، فقالوا، ما تُخوفنا يا محمد، نحن والله أبناءُ الله وأحباؤه، كقول النصارى. فأنزل الله تعالى فيهم:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
إنكارهم نزول كتاب من بعد موسى: قال ابن إسحاق: ودعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يهودَ إلى الإسلام ورغبهم فيه، وحذرهم غيرَ الله وعقوبته، فأبَوْا عليه، وكفروا بما جاءهم به، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عُبادة، وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبلَ مبعثه وتصفونه لنا بصفته؟ فقال رافع بن حُرَيْملة، ووهب بن يَهُوذا: ما قلنا لكم هذا قط، وما أنزل الله من كتاب بعدَ موسى ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعدَه. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ثم قص عليهم خبرَ موسى وما لقى منهم، وانتقاضهم عليه وما ردوا عليه من أمر الله حتى تاهوا في الأرض أربعين سنة عقوبةً.
رجوعهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حكم الرجم: قال ابن إسحاق: وحدثني ابنُ شهاب الزهري أنه سمع رجلًا من مُزَيْنة، من أهل العلم، يحدِّث سعيدَ بن المسيَّب، أن أبا هريرة حدثهم: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المِدْراس، حين قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ، وقد زنى رجلٌ منهم بعد إحصانه بامرأة من يهودَ قد أحصنت، فقالوا: ابعثوا بهذا الرجلِ وهذه المرأة إلى محمد، فَسَلوه كيف الحكم فيهما، وولوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبية -والتجبية: الجلد بحبل من ليف مَطْلى بقارٍ، ثم تُسَوَّد

ص -153-      وجوههما ثم يُحملان على حِمَاريْن وتجعل وجوههما من قِبلِ أدبار الحمارين- فاتبعوه، فإنما هو مَلِك، وصدقوه: وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبي، فاحذروه على ما في أيديكم أن يَسْلبَكُموه، فأتوه، فقالوا: يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى أحبارَهم في بيت المدْرَاس فقال: يا معشر يهود أخرجوا إليَّ علماءَكم، فأخرج له عبد الله بن صوريا.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعضُ بني قُرَيْظة: أنهم قد أخرجوا إليه يومئذ، مع ابن صُوريا، أبا ياسر بن أخْطَب، ووهب بن يَهُوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا. فسألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى حَصَّل أمرَهم، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقيَ بالتوراة.
قال ابن هشام: من قوله: "وحدثني بعض بني قريظة"، إلى: "أعلم من بقي بالتوراة" من قول ابن إسحاق، وما بعده من الحديث الذي قبله.
فخلا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سِنا، فألَظَّ به1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسألة، يقول له: يابن صُوريا، أنْشُدك الله وأذكِّرك بأيامِهِ عند بني إسرائيلَ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنَى بعد إحصانهِ بالرجم في التوراة؟ قال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبي مُرْسَل ولكنهم يحسدونك. قال: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بهما فرُجما عند باب مسجده في بني غَنْمِ بن مالك بن النجار: ثم كفر بعد ذلك ابن صُوريا، وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فأنزل الله تعالى فيهم:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي: الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا، وأمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه، ثم قال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ}، أي: الرجم، {فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41] إلى آخر القصة.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمدُ بن طلحة بن يزيد بن رَكَانة عن إسماعيل عن إبراهيم، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجمهما، فرُجما بباب مسجده، فلما وجدَ اليهوديُّ مَسَّ الحِجارة قام إلى صاحبته فجنأ عَليْها2، يقيها مَسَّ الحجارةِ، حتى قُتلا جميعًا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألظ به: ألح عليه.
2 جنا: انحنى.

ص -154-      قال: وكان ذلك مما صنع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في تحقيق الزنا منهما.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كَيْسان، عن نافع مولى عبد الله بن عُمر عن عبد الله بن عمر، قال: لما حكَّموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهما، دعاهم بالتوراة وجلس حَبْر منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرجم، قال: فضرب عبدُ الله بن سَلام يد الحَبْر ثم قال: هذه يا نبي الله آية الرجم، يأبى أن يتلوَها عليك. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"ويحكم يا معشر يهود ما دعاكم إلى ترك حُكم الله وهو بأيديكم؟" قال: فقالوا: أما والله إنه قد كان فينا يُعمل به، حتى زنا رجل منا بعد إحصانه، من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم، ثم زنا رجل بعده، فأراد أن يرجمه، فقالوا: لا والله، حتى ترجم فلانًا، فلما قالوا له ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية، وأماتوا ذكر الرجم والعمل به. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا أول من أحيا أمرَ الله وكتابه وعمل به"، ثم أمر بهما فرُجما عندَ باب مسجده. وقال عبد الله بن عمر: فكنت فيمن رجمهما.
ظلمهم في الدية: قال ابن إسحاق: وحدثني داودُ بن الحُصَيْن عن عكْرمة، عن ابن عباس: أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها:
{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبين بني قُريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، يؤدون الديةَ كاملة، وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصفَ الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على الحقِّ في ذلك، فجعل الديةَ سواء.
قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.
رغبتهم في فتنة الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وقال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صُوريا، وشَأس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتَوْه، فقالوا له: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعتك يهود، ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم. فأنزل الله فيهم:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

ص -155-      إنكارهم نبوةَ عيسى عليه السلام: قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نفرٌ منهم: أبو ياسر بن أخْطب، ونافع بن أبي نافع وعازر بن أبي عازر، وخالد، وزيد، وإزار بن أبي إزار، وأشْيع. فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. فلما ذَكر عيسى ابن مريم جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ابن مريم ولا بمن آمن به، فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].
ادعاؤهم أنهم على الحق: وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رافعُ بن حارثة، وسلام بن مِشْكم، ومالك بن الصيْف، ورافع بن حُرَيملة، فقالوا: يا محمد، ألستَ تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حقّ؟ قال: بلَى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق فيها، وكتمتُم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس، فبَرئْتُ من إحداثِكم قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدَى والحق، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك. فأنزل الله تعالى فيهم:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
إشراكهم بالله: قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- النَّحَّامُ بن زيد، وقَرْدَم بن كعب، وبَحْري بن عَمْرو، فقالوا له: يا محمد، أما تعلم مع الله إلهًا غيرَه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الله لا إله إلا هُوَ، بذلك بُعثت، وإلى ذلك أدعو". فأنزل الله فيهم وفى قولهم: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
نهْيُ الله المؤمنين عن موادتهم: وكان رفاعةُ بن زيد بن التابوت، وسُوَيد بن الحارث قد أظهرا الإِسلام ونافقا، فكان رجال من المسلمين يوادونهم. فأنزل الله تعالى فيهما:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]. إلى قوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}.

ص -156-      سؤالهم عن قيام الساعة: وقال جَبَل بن أبي قُشَيْر، وشَمْوِيل بن زَيْد، لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يا محمدُ، أخبرنا، متى تقومُ الساعةُ إن كنت نبيًّا كما تقول؟ فأنزل الله تعالى فيهما: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
قال ابن هشام: "أيان مُرْسَاها" متى مرساها، قال قيس بن الحُدَادِيَّةِ الخُزاعي:
فجئتُ ومُخْفَى السِّرِّ بيني وبينَها
لأسألها أيان من سار راجعُ؟
وهذا البيت في قصيدة له، ومُرساها: منهاها، وجمعه: مَرَاسٍ. وقال الكُمَيْت بن زيد الأسدي:
والمصيبين بابَ ما أخطأ النا                    سُ ومُرْسَى قواعد الإِسلامِ
وهذا البيت في قصيدة له. ومُرْسَى السفينة حيث تنتهي. وحَفِي عنها -على التقديم والتأخير- يقول: يسألونك عنها كأنك حَفِيّ بهم تخبرهم بما لا تخبر به غيرهم. والحَفِيُّ: البَرُّ المتعهد. وفي كتاب الله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] وجمعه: أحفياء. وقال أعشى بني قَيْس بن ثعلبة:
فإن تسألي عني فيا رُبُّ سائلٍ            حَفِي عن الأعشَى به حيثُ أصْعدا1
وهذا البيت في قصيدة له. والحفي أيضًا: المُستحفي عن علم الشيء، المبالغ في طلبه.
ادعاؤهم أن عُزَيْرًا ابن الله: قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم: سلاَّمُ بنُ مِشْكم، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود ثم ابن دِحْية، وشاس بن قيس، ومالك بن الصَّيف، فقالوا له: كيف نتبعك وقد تركت قبلَتنا، وأنت لا تزعم أن عُزيرًا ابن الله؟ فأنزل الله عز وجل في ذلك في قولهم:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] إلى آخر القصة.
قال ابن هشام: يضاهئون: أي: يُشاكل قولُهم قولَ الذين كفروا، نحو أن تحدِّث بحديث فيحدث آخر بمثله، فهو يضاهيك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أصعد: سار في البلاد.

ص -157-      طلبهم كتابًا من السماء: قال ابن إسحاق: وأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- محمودُ بن سَيْحان، ونُعمان بن أضاء، وبَحْري بن عمرو، وعُزَيْز بن أبي عُزَيْز، وسَلاَّم بن مِشْكم، فقالوا: أحقٌّ يا محمد أن هذا الذي جئت به لحق من عند الله؟ فإنا لا نراه متسقًا كما تتسق التوراة. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة، ولو اجتمعت الإِنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به"، فقالوا عند ذلك، وهم جميع: فنحاص، وعبدُ الله بن صوريا، وابن صلوبا، وكنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق، وأشيْع، وكعب بن أسد، وشَمْوِيل بن زيد، وجبل بن سُكَينة: يا محمد، أما يعلِّمك هذا إنس ولا جن؟ قال: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله. تجدون ذلك مكتوبًا عندكم في التوراة؟ فقالوا: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء ويقدره منه على ما أراد، فأنزلْ علينا كتابًا من السماء نقرؤه ونعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به. فأنزل الله تعالى فيهم وفيما قالوا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] قال ابن هشام: الظهير: العَوْن. ومنه قول العرب: تظاهروا عليه، أي تعاونوا عليه. قال الشاعر:
يا سَمِىَّ النبيِّ أصبحتَ للدين
قوامًا وللإِمام ظهيرَا                           أي عَوْنا وجمعه ظُهراء.
سؤالهم له -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين: قال ابن إسحاق: وقال حُيي بن أخطب، وكعب بن أسَد، وأبو رافع، وأشْيع، وشَمْويل بن زيد، لعبد الله بن سَلاَّم حين أسلم: ما تكون النبوة في العرب، ولكن -صاحبك مَلك، ثم جاءوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألوه عن ذي القرنين فقص عليهم ما جاءَه من الله تعالى فيه، مما كان قص على قريش وهم كانوا ممن أمر قريشًا أن يسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه، حين بعثوا إليهم النَّضر بن الحارث، وعُقبة بن أبي مُعَيْط.
تهجمهم على ذات الله: قال ابن إسحاق: وحُدثت عن سعيد بن جُبير أنه قال: أتى رهطٌ من يهود إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا محمدُ، هذا الله خَلَقَ الخلْقَ، فمن خلق الله؟ قال: فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتقع لونُهُ، ثم ساورهم غضبًا لربه. قال: فجاءه جبريلُ عليه السلام فسكَّنه، فقال: خَفِّضْ عليك يا محمد، وجاءه من الله بجوابِ ما سألوه عنه:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.

ص -158-      قال: فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خَلْقُه كيف ذِراعه؟ كيف عَضده. فغضب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أشد من غضبه،الأول، وساورهم، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال له مثلَ ما قال له أولَ مرة، وجاءه من الله تعالى بجوابِ ما سألوه. يقول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
قال ابن إسحاق: وحدثني عُتبة بن مُسلم، مولى بني تيم، عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"يوشك الناسُ أن يتساءلوا بينَهم حتى يقول قائلُهم: هذا الله خَلَقَ الخَلْقَ، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ثم ليتفُل الرجل عن يساره ثلاثًا، وليستعذْ بالله من الشيطان الرجيم".
قال ابن هشام: الصمد: الذي يُصمَد إليه، ويُفْزَع إليه. قالت هند بنت مَعْبد بن نَضْلة تبكي عَمرو بن مسعود، وخالد بن نَضْلة، عميها الأسديين، وهما اللذان قتل النعمان بن المنذر اللخمي، وبني الغَرِيين1 اللَّذيْن بالكوفة عليها:
ألا بَكَرَ الناعي بَخَيْرَيْ بني أسدْ              بعمرو بن مسعود وبالسيِّد الصَّمَدْ
ذكر نصارى نجران وما أنزل الله فيهم:
معنى العاقب والسيد والأسقف: قال ابن إسحاق: وقَدِم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفدُ نصارَى نَجران، ستون راكبًا، فيهم أربعةَ عشرَ رجلًا من أشرافهم، وفي الأربعةَ عشرَ منهم ثلاثةُ نفر إليهم يئول أمرُهم: العاقب، أميرُ القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يُصْدرون إلا عن رأيه، واسمه عبدُ المسيح والسيد لهم، ثمالهم2 وصاحبُ رَحْلهم ومجتَمعهم، واسمه الأيْهم، وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائل، أسْقُفهم وحَبْرهم وإمامهم، وصاحب مِدْرَاسِهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغريان: المشهوران كانا بالكوفة وهما بناءان طويلان يقال هما قبر مالك وعقيل نديمي جذيمة الأبرش وسميا الغريين؛ لأن النعمان بن المنذر كان يغريهما بدم من يقتله
يوم بؤسه. وانظر لسان العرب ج19 ص358.
2 ثمال القوم: من يرجعون إليه ويقوم بأمرهم.

ص -159-      وكان أبو حارثة قد شَرُف فيهم، ودرس كتبَهم، حتى حَسُن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه، وبَنَوْا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.
إسلام كُوز بن علقمة: فلما رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له موجِّهًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى جنبه أخ له، يقال له: كُوز بن علقمة -قال ابن هشام: ويقال: كرز- فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد: يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم: فقال له أبو حارثة: بل وأنت تَعستْ! فقال: ولم يا أخي؟ قال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر، فقال له كوز: ما يمنعك منه وأنت تعلم بذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شَرَّفونا ومَولونا وأكرمونا، وقد أبوْا إلا خِلاَفه، فلو فعلتُ نزعوا منا كلَّ ما ترى. فأضمر عليها منه أخوه كُوز بن علقمة، حتى أسلمَ بعد ذلك. فهو كان يُحدِّث عنه هذا الحديث فيما بلغني.
رؤساء نجران وإسلام ابن رئيس: قال ابن هشام: وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبًا عندَهم. فكلما مات رئيسٌ منهم فأفْضَت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكُتب خاتمًا مع الخواتم التي كانت قبله ولم يكسِرها، فخرج الرئيسُ الذي كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يمشي فعثر، فقال له ابنه: تعس الأبعد، يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له أبوه: لا تفعل، فإنه نبي، واسمه في الوضائع -يعني: الكتب- فلما مات لم تكن لابنهِ هِمَّة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد فيها ذِكْرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم فحسُن إسلامُهُ وحج، وهو الذي يقول:
إليكَ تعدو قَلِقًا وَضينُها                        مُعْترِضًا في بطنِها جَنينُها
مخالفًا دينَ النصارى دينُها
قال ابن هشام: الوضين: الحزام، حزام الناقة، وقالَ هشام بن عروة: وزاد فيه أهلُ العراق:
مُعترضًا في بطنِها جنينُها
فأما أبو عُبَيدة فأنشدناه فيه.
صلاتهم إلى جهة المشرق: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحِبرات1، جُبَب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب. قال: يقول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 برود من اليمن.

ص -160-      بعضُ من رآهم من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: ما رأينا وفدًا مثلَهم، وقد حانت صلاتُهم، فقاموا في مسجدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلون: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دَعُوهم فصلَّوْا إلى المشرق.
أسماؤهم ومعتقداتهم: قال ابن إسحاق: فكانت تسمية الأربعةَ، عشرَ، الذين يئول إليهم أمرهم: العاقبُ وهو عبد المسيح والسَّيد وهو الأيْهم، وأبو حارثة بن عَلْقَمة أخو بني بكر بن وائل، وأوْس والحارث، وزَيْد، وقيْس، و يزيد، ونبيه، وخوَيْلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويُحَنَّس، في ستين راكبًا فكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم السيد وهم من النصرانية -على دين الملك، مع اختلاف من أمرهم، يقولون: هو الله، ويقولون: هو والد الله. ويقولون: هو ثالث ثلاثة وكذلك قول النصرانية فهم يحتجون في قولهم: "هو الله" بأنّه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفِخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كلُّه بأمر الله تبارك وتعالى:
{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}.
ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله بأنهم يقولون: لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.
ويحتجون في قولهم: "إنه ثالثُ ثلاثة" بقول الله: فَعَلْنا، وأمرْنا، وخلقْنا، وقَضَيْنا، فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلا فعلتُ، وقضيتُ، وأمرتُ، وخلقتُ ولكنه هو وعيسى ومريم، ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.. فلما كلَّمه الحَبْران، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أسْلِما" قالا: قد أسلمنا، قال: "إنكما لم تُسلما فأسْلِما"، قالا: بلَى، قد أسلمنا قبلك: قال: "كذبتما، يمنعكما من الإِسلام دعاؤكما لله ولدًا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير"، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت عنهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يجبهما.
ما نزل فيهم من القرآن: فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله، صدر سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها، قال جل وعز:
{الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2] فافتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا، وتوحيده إياه بالخلق والأمر، لا شريك له فيه، ردًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه من الأنداد، واحتجاجًا بقولهم عليهم في صاحبهم، ليعرفهم بذلك ضلالتهم: فقال: {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ليس معه غيره شريك

ص -161-      في أمره {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1، 2] الحي الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم. والقيوم القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره. {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق فيما اختلفوا فيه، {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}: التوراة على موسى، والإِنجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان قبله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}، أي: الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}، أي: أن الله منتقم ممن كفر بآياته، بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها. {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي: قد علم ما يريدون، وما يكيدون، وما يضاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه إلهًا وربًّا، وعندهم من، علمه غير ذلك، غِرَّة بالله، وكُفرًا به. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}، أي: قد كان عيسى ممن صُور في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه كما صُور غيره من ولد آدم، فكيف يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل. ثم قال تعالى إنزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في حجته وعذره إلى عباده. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، فهن حجة الرب، وعِصمة العباد، ودَفْع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لهن تصريف وتأويل، ابتلى الله فيهنَّ العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، ألا يُصْرَفن إلى الباطل، ولا يُحرَّفن عن الحق. يقول عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ميل عن الهدى، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، أي: ما تصرف منه، ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، لتكون لهم حجة، ولهم على ما قالوا شبهة: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}، أي: اللبس، {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ذلك على ما رَكِبوا من الضلالة في قولهم: خَلَقْنا وقَضَيْنا. يقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} أي: الذي به أرادوا، ما أرادوا {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فكيف يختلف وهو قول واحد، من رب واحد. ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، واتسق بقولهم الكتاب، وصدَّق بعضُه بعضًا، فنفذت به الحُجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودمغ به الكفر. يقول الله تعالى في مثل هذا: {وَمَا يَذَّكَّرُ} في مثل هذا: {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}. أي: لا تمل -قلوبنا، وإن ملنا بأحداثنا. {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ثم قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} بخلاف ما قالوا: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ}، أي: بالعدل فيما يريد {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}، أي: ما أنت عليه يا محمد: التوحيد للرب، والتصديق

ص -162-      للرسل. {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي: الذي جاءك، أي في أن الله الواحد الذي ليس له شريك {بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، فَإِنْ حَاجُّوكَ}، أي: بما يأتون به من الباطل من قولهم: خَلَقْنا وفَعلْنا وأمَرْنا، فإنما هى شُبهةُ باطلٍ قد عرفوا ما فيها من الحق: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ}، أي: وحده {وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ} الذين لا كتاب لهم {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].
ما نزل من القرآن فيما اتبعه اليهود والنصارى: ثم جمع أهل الكتابين جميعًا، وذكر ما أحدثوا وما ابتدعوا، من اليهود والنصارى، فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21]، إلى قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أي: رب العباد، والملك الذي لا يقضى فيهم غيره {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ}، أي: لا إله غيرك {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} بتلك القدرة {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27] لا يقدر على ذلك غيرك، ولا يصنعه إلا أنت أي: فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام والخلق للطير من الطين، والإِخبار عن الغيوب، لأجعله به آية للناس، وتصديقًا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه: تمليكَ الملوك بأمر النبوة، ووضعها حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب: فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملِّكه إياه، أفلم تكن لهم في ذلك عِبرة وبينة! أن لو كان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد، من بلد إلى بلد.
ما نزل من القرآن في وعظ المؤمنين وتحذيرهم: ثم وعظ المؤمنين وحذَّرهم، ثم قال:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} أي: إن كان هذا من قولكم حقًّا، حُبًّا للّه وتعظيمًا له، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي: ما مضى من كفركم، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فأنتم تعرفونه وتجدونه في كتابكم: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}، أي: على كفرهم، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
ما نزل في خلق عيسى وخبر مريم وزكريا: ثم استقبل لهم أمرَ عيسى عليه السلام، وكيف كان في بدء ما أراد الله به، فقال:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ

ص -163-      عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ثم ذكر أمر امرأة عمران، وقولها: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}، أي: نذرته فجعلته عتيقًا، تعبُّده لله، لا ينتفع به لشيء من الدنيا {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، أي: ليس الذكر كالأنثى كما جعلتها محررًا لك نذيرة، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، يقول الله تبارك وتعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} بعد أبيها وأمها.
قال ابن هشام: كفَّلها: ضمَّها.
خبر زكريا ومريم عليهما السلام: قال ابن إسحاق: فذكَّرها باليتم، ثم قص خبرَها وخبرَ زكريا وما دعا به، وما أعطاه إذْ وهب له يحيى. ثم ذكر مريمَ، وقول الملائكة لها:
{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ}، أي: ما كنت معهم {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}.
قال ابن هشام: أقلامهم: سهامهم، يعني: قِداحهم التي استهموا بها عليها، فخرج قِدْح زكريا فضمها، فيما قال الحسن بن أبي الحسن البَصري.
كفالة جُرَيج مريم: قال ابن إسحاق: كفلها ههنا جُرَيْج الراهب، رجل من بني إسرائيل نجار، خرج السهم عليه بحملها، فحملها، وكان زكريا قد كَفَلها قبل ذلك، فأصابت بني إسرائيل أزمة شديدة، فعجز زكريا عن حملها، فاستهموا عليها أيهم يكفُلُها فخرج السهم على جُرَيج الراهب بكفولها فكفَلَها.
{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، أي: ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيِّ ما كتموا عنه من العلم عندَهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم بما يأتيهم به بما أخفوا منه.
ثم قال:
{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، أي: هكذا كان أمره، لا كما تقولون فيه {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي عند الله {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 45، 46] يخبرهم بحالاته التي يتقلب فيها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم، صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد بمواقع قدرته. {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.

ص -164-      أي: يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} مما يشاء وكيف شاء، {فَيَكُونُ} كما أراد ثم أخبرها بما يريد به، فقال: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ} التي كانت فيهم من عهد موسى قبله {وَالْإنْجِيلَ}، كتابًا آخر أحدثه الله عز وجل إليه لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده، {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: يحقق بها نبوتي، أني رسول منه إليكم {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} الذي بعثني إليكم، وهو ربكم {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}.
قال ابن هشام: الأكمه: الذي يُولد أعمى. قال رؤبة بن العَجَّاج:
هَرَّجْتُ فارتدَّ ارتداد الأكْمه
وجمعه: كُمْه. قال ابن هشام: هَرَّجت: صحتُ بالأسد، وجلبتُ عليه. وهذا البيت في أرجوزة له. {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ}، أني رسول الله من الله إليكم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي: لما سبقني عنها، {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، أي: أخبركم به أنه كان عليكم حرامًا فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفًا عنكم فتصيبون يُسره وتخرجون من تِباعاتِه1 {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} أي: تبريًا من الذي يقولون فيه، واحتجاجًا لربه عليهم {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، أي: هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم به {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} والعدوان عليه، {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ} هذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} لا ما يقول هؤلاء الذين يحاجُّونك فيه {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي هكذا كان قولهم وإيمانهم.
رفع عيسى عليه السلام: ثم ذكر سبحانه وتعالى رفْعَه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله، فقال:
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصَلْبه، كيف رفعه وطهره منهم، فقال: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تباعاته: جمع تبعة: الظلامة.

ص -165-      وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، إذ هموا منك بما هموا {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ثم القصة، حتى انتهى إلى قوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} يا محمد {مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} القاطع الفاصل الحق، الذي لا يخالطه الباطل، من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنَّ خبرًا غيره. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} "فاستمع" {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، أي: ما جاءك من الخبر عن عيسى {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: قد جاءك الحق من ربك فلا تمتريَنَّ فيه، وإن قالوا: خُلق عيسى من غير ذَكر فقد خَلقت آدم من تراب، بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كان عيسى لحمًا ودمًا، وشَعْرًا وبَشرًا، فليس خَلْق عيسى من غير ذَكر بأعجب من هذا. {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي: من بعدما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره، {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
قال ابن هشام: قال أبو عُبَيْدة: نبتهل: ندعو باللعنة، قال أعْشَى بني قَيْس بن ثَعْلَبة:
لا تقْعُدَنَّ وقد أكَّلْتَها حَطبًا                      نعوذُ من شرِّها يومًا ونبتهلُ
وهذا البيت في قصيدة له. يقول: ندعو باللعنة. وتقول العرب: بَهل الله فلانًا، أي لعنه، وعليه بَهْلةُ الله، قال ابن هشام: ويقال: بُهْلة الله، أي لعنة الله، ونبتهل أيضًا: نجتهد، في الدعاء.
قال ابن إسحاق:
{إِنَّ هَذَا} الذي جئت به من الخبر عن عيسى {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} من أمره {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجة.
إباؤهم الملاعنة: فلما أتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الخبرُ من الله عنه، والفَصْلُ من القضاء بينَه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك، فقالوا له: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خَلَوْا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدَ المسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله أيا معشر النصارى لقد عَرَفتم أن محمدًا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من خبرِ صاحبِكم،

ص -166-      ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيًّا قط فبقي كبيرُهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه الاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلْف دينِكم، والإِقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجلَ، ثم انصرِفوا إلى بلادكم. فأتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نُلاعنك، وأن نتركَك على دينِك ونرجع على ديننا، ولكن ابعثْ معنا رجلًا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالِنا، فإنكم عندنا رِضًا.
أبو عبيْدة يتولى أمرهم: قال محمد بن جعفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ائتونى العَشِية أبعث معكم القوىَّ الأمين". قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببتُ الإمارة قط حبِّي إياها يومئذٍ، رجاء أن أكونَ صاحبَها، فرُحْتُ إلى الظهرِ مُهَجِّرًا، فلما صلّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الظهرَ سَلَّم، ثم نظر عن يمينه وعن يسارِه، فجعلت أتطاولُ له ليراني، فلم يزلْ يلتمس ببصره حتى رأى أبا عُبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: "اخرجْ معهم، فاقضِ بينَهم بالحقِّ فيما اختلفوا فيه"، قال عمر: فذهب بها أبو عُبَيْدة.
أخبار عن المنافقين:
قال ابن إسحاق: وقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة -كما حدثني عاصمُ بن عُمر بن قَتادة- وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول العَوْفي ثم أحد بني الحُبْلَى، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعدَه على رجل من أحد الفريقين -حتى جاء الإسلامُ-غيرِه، ومعه في الأوْس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع، أبو عامر عبد عَمرو بن صَيْفي بن النعمان، أحد بني ضُبَيْعة بن زيد، وهو أبو حَنْظلة، الغسيل يومَ أحُد، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المُسوح، وكان يقال له: الراهب. فشقيا بشرفهما وضَرَّهما.
فأما عبد الله بن أبي فكان قومه قد نظموا له الخرز يتوجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهُم على ذلك. فلما انصرف قومُه عنه إلى الِإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه مُلْكًا. فلما رأى قومه قد أبَوْا إلا الإسلام دخل فيه كارهًا مُصِرا على نفاق وضَغَن.
وأما أبو فأبى إلا الكفرَ والفراقَ لقومهِ حين اجتمعوا على الِإسلام، فخرج منهم إلى مكة ببضعةَ عشرَ رجلًا مفارقًا للإِسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله

ص -167-      صلى الله عليه وسلم -كما حدثني محمدُ بن أبي أمامة عن بعض آل حنظلة بن أبي عامر-: "لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا الفاسق".
قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، وكان قد أدرك وسَمِعَ، وكان راويةً: أن أبا عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، قبل أن يخرج إلى مكة فقال: ما هذا الدين الذي جئتَ به؟ فقال:
"جئت بالحنيفية دين إبراهيم"، قال: فأنا عليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لستَ عليها"، قال، بلى، قال: إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها، قال: "ما فعلتُ، ولكنى جئت بها بيضاء نقية"، قال: الكاذب أماته الله طريدًا غريبًا وحيدًا -يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم- أي أنك جئتَ بها كذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجل، فمن كذب ففعل الله تعالى ذلك به"، فكان هو ذلك عدو الله، خرج إلى مكة، فلما افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ خرج إلى الطائف. فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام. فمات بها طريدًا غريبًا وحيدًا.
وكان قد خرج معه عَلْقمة بن عُلاثة بن عوف بن الأحْوص بن جعفر بن كلاب، وكنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عُمير الثقفى، فلما مات اختصما في ميراثه إلى قيصر، صاحب الروم. فقال قيصر: يرث أهلُ المدر أهلَ المدر1، ويرث أهلُ الوَبْرِ أهلَ الوبر2، فورثه كنانة بن عبد ياليل بالمدر دون علْقمة، قال كعبُ بنُ مالك لأبى عامر فيما صنع:
معاذَ الله من عَمل خبيثٍ                  كَسَعْيِكَ في العشيرةِ عبد عمرو
فإما قُلتَ لي شرفٌ ونخلٌ                 فَقِدْمًا بعتَ إيمانًا بكفرِ
قال ابن هشام: ويروى:
فإما قلت لي شرفٌ ومالٌ
قال ابن إسحاق: وأما عبد الله بن أبي فأقام على شرفه في قومه مترددا حتى غلبه الإسلام، فدخل فيه كارهًا.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عُروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أهل المدر: من يسكنون المدن.
2 أهل الوبر: من يسكنون الخيام.

ص -168-      بن حارثة حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ركب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عُبادة يعوده من شَكْو أصابه على حمار عليه إكافٌ1، فوقه قطيفة فَدَكِية2، مُخْتَطمة3 بحبل من ليف، وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه: قال: فمر بعبد الله بن أبي، وهو في ظل مُزَاحمَ أطُمِه4.
قال ابن هشام: مزاحم: اسم الأطم.
قال ابن إسحاق: وحوله رجال من قومه. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تَذَمم5 من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلَّم ثم جلس قليلًا، فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل، وذكَّر بالله وحذَّر، وبشَّر وأنذر قال: وهو زَامُّ لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حَقا فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدثْه إياه، ومن لم يأتك فلا تَغُتَّه6 به، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه. قال: قال عبد الله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى، فاغشَنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله ما نحبُّ ومما أكرمنا الله به وهدانا له، فقال عبد الله بن أبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى:
متى ما يكنْ مولاكَ خَصْمك لا تزل                  تَذِلَّ ويَصْرعْك الذين تُصارعُ
وهل ينهض البازي بغيرِ جناحِه                      وإن جُذَّ يومًا ريشُه فهو واقعُ
قال ابن هشام: البيت الثانى عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن عُروة بن الزبير، عن أسامة، قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على سعد بن عبادة، وفي وجهه ما قال عدو الله ابن أبىّ، فقال:والله يا رسولَ الله إني لأرى في وجهِك شيئًا، لكأنك سمعت شيئًا تكرهه، قال:"أجل"، ثم أخبره بما قال ابن أبي: فقال سعد: يا رسول الله! ارفق به. فوالله لقد جاءنا الله بك، وإنا لنَنْظِمَ له الخرز لنتوِّجَه. فوالله إنه ليرى أن قد سَلَبْتَهُ مُلكًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإكاف: برذعة الحمار.
2 منسوبة إلى فدك قرية بالحجاز.
3 الخطام حبل يجعل على أنف الدابة تمسك به.
4 الأطم: الحصن.
5 تذمم: استحيا.
6 غته: ثقل عليه.

ص -169-      ذكر من اعتلَّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة:
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عُروة، وعُمر بن عبد الله بن عُروة، عن عُروة بن الزبير عن عائشة رضى الله عنها، قالت: لما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قدمها وهي أوبأ أرضِ الله من الحمى. فأصاب أصحابَه منها بلاءٌ وسَقَمٌ. فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم قالت: فكان أبو بكر، عامر بن فُهَيْرَة، وبلال، موليا أبي بكر، مع أبي بكر في بيت واحد. فأصابتهم الحمى، فدخلتُ عليهم أعودهم. وذلك قبل أن يُضْرَب علينا الحجابُ. وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوَعْك. فدنوتُ من أبي بكر. فقلت له: كيف تجدك يا أبتِ؟ فقال:
كلُّ امرئ مُصَبَّح في أهلِهِ                     والموتُ أدْنَى من شِراكِ نَعْلِهِ
قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول: قالت: ثم دنوتُ إلى عامر بن فُهَيْرة فقلت له: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدتُ الموتَ قبلَ ذَوْقِه                      إن الجبانَ حَتْفهُ مِنْ فَوْقهِ
كلُّ امرئ مجاهد بطَوْقِهِ                           كالثَّوْرِ يحمى جلدهَ برَوْقهِ1
بطوقه يريد: بطاقته. فيما قال ابن هشام: قالت: فقلتُ: والله ما يدري عامر ما يقول! قالت: وكان بلال إذا تركته الحمى اضْطَجع بفناء البيت ثم رفع عقيرتَه فقال:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنَّ ليلة                 بفَخ وحولي إِذْخر وجليلُ2
وهل أرِدَنْ يومًا مياهَ مجنَّةٍ                      وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطُفيل3
قال ابن هشام: شامة وطفيل: جبلان بمكة.
دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بنقل وباء المدينة إلى مهيعة: قالت عائشة رضي الله عنها: فذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم. فقلت: إنهم ليهْذُون وما يَعْقِلون من شدة الحمى. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم حَبِّبْ إلينا المدينةَ كما حَبَّبت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روقه: قرنه.
2 فخ: موضع خارج مكة والإذخر نبات يظهر بمكة طيب الرائحة والجليل نوع من النبات وهو ما يسمونه الثمام.
3 المجنة: اسم سوق للعرب في الجاهلية.

ص -170-      إلينا مكة، أو أشد. وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل وباءها إلى مَهْيَعَة"، ومَهْيَعة: الجُحْفَة.
قال ابن إسحاق: وذكر ابنُ شهاب الزهري، عن عبد الله بن عَمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابُه ثم أصابتهم حُمَّى المدينة. حتى جَهدوا مرضًا. وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود. قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يُصلون كذلك. فقال لهم:
"اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم". قال: فتجشَّم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسُّقْم التماسَ الفضل.
بدء قتال المشركين: قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه. قام فيما أمره الله به من جهاد عَدوِّه. وقِتال من أمره الله به ممن يليه من المشركين. مشركي العرب، وذلك بعد أن بعثه الله تعالى بثلاث عشرة سنة.
تاريخ الهجرة:
بالإسناد المتقدم عن عبد الملك بن هشام. قال: حدثنا زياد بن عبد الله البَكَّائي. عن محمد بن إسحاق المَطلِبى. قال: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يومَ الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل. لثنتي عشرة ليلةً مضت من شهر ربيع الأول، وهو التاريخ. فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: ورسول. الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابنُ ثلاثٍ وخمسين سنة. وذلك بعد أن بعثه الله عز وجل بثلاث عشْرة سنة. فأقام بها بقيةَ شهر ربيع الأول. وشهر ربيع الاخر، وجُمادَيَيْن، ورجبًا، وشعبان، وشهر رمضان، وشوال، وذا القعدة، وذا الحجة -وولي تلك الحَجّة المشركون- والمحرم، ثم خرج غازيًا في صفر على رأس اثني عشر شهرًا من مقدمه المدينة.
غزوة وَدَّان:
وهي أول غزواته عليه الصلاة والسلام
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة. قال ابن إسحاق: حتى بلغ وَدَّان، وهي غزوة الأبْواء، يريد قريشًا وبني ضمْرة بن بكر بن عبد مُناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضَمْرة، وكان الذي وادعه منهم عليهم مَخْشِي بن عمرو الضَّمْريُّ،

ص -171-      وكان سيِّدَهم في زمانه ذلك، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلقَ كيدًا فأقام بها بقيةَ صفر، وصدرًا من شهر ربيع الأول.
قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها.
سرية عُبَيْدة بن الحارث:
وهي أول راية عقدها عليه الصلاة والسلام
قال ابن إسحاق: وبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في مقامِه ذاك بالمدينة عُبَيْدةَ بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قُصي، في ستين أو ثمانين راكبًا من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماءً بالحجاز، بأسفل ثنيَّة المُرَّة، فلقي بها جمعًا عظيمًا من قريش فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمَى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رُمي به في الِإسلام.
ثم انصرف القومُ عن القوم، وللمسلمين حامية. وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني، حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازنى، حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار. وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل.
قال ابن هشام: حدثني ابن أبي عَمرو بن العلاء، عن أبي عمرو المدنى: أنه كان عليهم مِكْرَز بن حفص بن الأخْيَف، أحد بني مَعيص بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فهر.
قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، في غزوة عُبَيْدة بن الحارث. قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لأبى بكر1 رضى الله عنه:
أمِنْ طَيْفِ سَلْمى بالبطاحِ الدَّمائِثِ              أرِقْتَ وأمر في العشيرةِ حادثِ2
ترى من لُؤي فِرقةً لا يصدُّها                        عن الكفرِ تذكيرٌ ولا بَعْث باعثِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويشهد لصحة من أنكر أن تكون له، ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر فى الإسلام" رواه البخاري عن أبي المتوكل عن عبد الرزاق.
2 الدمائث: ما لان من الرمل.

ص -172-                                           رسول أتاهم صادقٌ فتكَذَّبوا            عليه وقالوا: لست فينا بماكِثِ
إذا ما دَعَوْناهم إلى الحقِّ أدبروا                    وهَرُّوا هَرِيرَ المجْحِراتِ اللواهثِ1
فكم قد مَتَتْنا فيهمُ بقرابةٍ                            وتَرْكِ التُّقى شيء لهم غيرُ كارثِ2
فإن يرجعوا عن كفرِهم                               وعقوقِهم فما طَيباتُ الحِل مثلُ الخبائثِ
 وإن يركبوا طغيانَهم وضلالَهم                       فليس عذاب الله عنهم بلابثِ
ونحن أناس من ذؤابةِ غالب                         لنا العزُّ منها في الفروعِ الأثائثِ3
فأولِي بربِّ الراقِصات عشيَّةً                         حَراجيجُ تُحْدَى في السَّريحِ الرثائثِ4
كأدْم ظباءٍ حولَ مكة عكَّفٍ                           يَرِدْنَ حِياضَ البئْرِ ذات النبائثِ5
لئن لَم يُفيقوا عاجلًا من ضلالِهم                  ولستُ إذا آليْتُ قولًا بحانثِ
لتَبْتَدِرَنَّهم غارة ذاتُ مَصْدَقٍ                         تُحرِّمُ أطهارَ النساءِ الطوامثِ
تغادرُ قَتْلَى تَعْصِبُ الطيرُ حولَهم                    ولاترأفُ الكفارَ رأفَ ابنِ حارثِ6
فأبلغْ بني سَهمٍ لديْك رسالةً                       وكل كفورٍ يبتغي الشر باحث
فإن تَشْعَثوا عِرض على سوءِ رأيِكم               فإنِّي من أعراضِكم غيرُ شاعثِ7
فأجابه عبد الله بن الزبعرى السَّهْمي، فقال:
أمِنْ رسمِ دارٍ أقفرت بالعَثاعِثِ                   بكيتَ بعينٍ دمعُها غيرُ لابثِ8

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هروا: وثبوا. والمجحرات: الملجئات إلى مواضعها.
2 متتنا: اتصلنا، والكارث: المحزن.
3 الأثائث: المجتمعة.
4 أولي: أحلف، الراقصات: الإبل الراقصة وهو نوع من المشي لها، والحراجيج: الطوال. والسريح ما يربط في أخفاف الإبل مخافة أن تصيبها الحجارة. والرثائث: البالية.
5 الظباء للأدم: التى ظهورها سود وبطونها بيض، والنبائت: ما يخرج من تراب البئر عند حفره.
6 تعصب: تجتمع، وابن حارث: هو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
7 تشعثوا: تفرقوا.
8 العثائث: أفاع لا تنبث شيئًا.
ص -173-                                   ومن عَجَبِ الأيامِ والدهرُ كله       له عجب من سابقاتٍ وحادثِ
لجيشٍ أتانا ذي عُرامٍ يقوده                  عُبَيدةُ يُدْعَى في الهياجِ ابنَ حارثِ1
لنتركَ أصنامًا بمكةَ عُكَّفًا                      مواريثَ موروثٍ كريمٍ لوارثِ
فلما لقيناهم بسُمْرِ رُدَيْنَةٍ وجُرْدٍ            عِتاقٍ في العَجاجِ لَوَاهِثِ2
وبيضٍ كأن المِلحَ فوقَ متونِها                بأيدِي كمُاةٍ كالليوثِ العوائثِ3
نقيمُ بها إصْعارَ من كان مائلًا                ونشفي الذُّحولَ عاجلًا غيرَ لابثِ4
فكَفُّوا على خوفٍ شديدٍ وهيْبةٍ              وأعجبهم أمر لهمِ أمرُ رائثِ5
ولو أنهم لم يفعلوا ناحَ نِسوة                أيامَى لهم، ن بينِ نسْءٍ وطامثِ6
وقد غُودرتْ قتلَى يخبرُ عنهمُ                حَفِي بهم أو غافلٌ غيرُ باحثِ7
فأبلغْ أبا بكر لديك رسالةً                     فما أنت عن أعراضِ فِهْر بماكثِ
ولما تَجِبْ مني يمينٌ غليظةٌ                تُجدد حربًا حَلْفةً غيرَحانث
قال ابن هشام: تركنا منها بيتًا واحدًا، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لابن الزبعرى.
قال ابن إسحاق: وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون:
ألا هل أتى رسولَ الله أني                    حَميْتُ صحابتي بصدورِ نَبْلي
أذودُ بها أوائلَهم ذيادًا                            بكلِّ حُزُونة وبكلِّ سَهْلِ8

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذو عرام: ذو شدة.
2 السمر الردينية: الرماح المنسوبة إلى ردينة، امرأة كانت تثقف الرماح. والجرد: السريعة، والعجاج: الغبار.
3 العوائث: المفسدات.
4 الإصعار: الميل. والذحول. طلب الثأر.
5 الرائث: المتمهل في الأمور.
6 النسء: التي تأخر حيضها مظنة الحمل.
7 الحفي: المتهم.
8 الحزونة: الأرض الوعرة: والسهل ما انبسط من سطح الأرض.
ص -174-                                   فما يَعْتَدُّ رام في عَدُوّ    بسهمٍ يا رسولَ الله قبلي
وذلك أن دينَكَ دينُ صِدْقٍ                     وذو حق أتيتَ به وعَدْل
يُنَجَّى المؤمنوِن به ويُجزِي                   بهِ الكفارَ عندَ مقام مَهْلِ1
فمهلًا قد غوِيتَ فلا تعبني                   غَويَّ الحيِّ وَيْحَك يابنَ جَهْلِ2
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد.
قال ابن إسحاق: فكانت رايةُ عبيدة بن الحارث -فيما بلغني- أولَ راية عقدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، لأحد من المسلمين. وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء، قبل أن يصل إلى المدينة.
سرية حمزة إلى سيف البحر:
وبعث في مقامه ذلك حمزةَ بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر، من ناحية الحِيص في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، وليس فيهم من الأنصار أحد، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مَجْدِيُّ بن عمرو الجهني. وكان موادعًا للفريقين جميعًا، فانصرف بعضُ القوم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال.
وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أنَّ بَعْثَهُ، وبعث عُبَيْدة كانا معًا، فشُبِّه ذلك على الناس. وقد زعموا أن حمزة قد قال في ذلك شعرًا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان حمزة قد قال ذلك، فقد صدق إن شاء الله، لم يكن يقول إلا حقا، فالله أعلم أي ذلك كان، فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا، فعُبَيْدة بن الحارث أول من عُقد له. فقال حمزة في ذلك، فيما يزعمون:
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لحمزة رضى الله عنه:
ألا يا لَقَوْمي للتحلًّمِ والجهْل                 وللنقْصِ من رأي الرجالِ وللعَقْلِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مهل: تثبت.
2 ابن جهل: يريد عكرمة بن أبي جهل.
ص -175-                                  وللراكِبينا بالمظالمِ لم نَطَأ لهم    حُرماتٍ من سَوَامٍ ولا أهْلِ1
كأنا تَبَلْناهم ولا تَبْلَ عندَنا لهم            غيرُ أمر بالعفافِ وبالعدلِ2
وأمر بإسلامٍ فلا يقبلونه                     وينزِلُ منهم مثلَ منزلةِ الهَزْلِ
فما بَرِحوا حتى انتدبْتُ لغارةٍ               لهم حيث حَلُّوا أبْتَغي راحةَ الفَضْلِ
بأمرِ رسولِ الله أول خافقٍ                   عليه لواء لم يكن لاحَ من قبلي
لواء لديه النصرُ من ذي                       كرامةٍ إلهٍ عزيز فعلُهُ أفضلُ الفعلِ
عَشِيةَ ساروا حاشدين وكلُّنا               مراجله من غيظِ أصحابهِ تَغْلي3
فلما تراديْنا أناخوا فعقَّلوا                    مطايا وعَقَّلنا مدَى غَرَضِ النبل4
فقلنا لهم: حبلُ الإلهِ نصيرُنا                وما لكم إلا الضلالةُ من حَبْلِ
فثار أبو جهلٍ هنالك باغيًا                   فخابَ وردَّ الله كيدَ أبي جهلِ
وما نحنُ إلا في ثلاثين راكبًا                وهم مائتان بعدَ واحدةٍ فَضل
فَيَا لَلُؤَيّ لا تُطيعوا غَوَاتَكم                  وفيئوا إلى الِإسلامِ والمنهجِ السهْلِ
فإني أخاف أن يُصَبَّ عليكُمُ                 عذابٌ فتَدعوا بالندامةِ والثُّكْلِ
                                                   
فأجابه أبو جهَل بن هشام، فقال:
عجِبتُ لأسبابِ الحفيظةِ والجهلِ                وللشاغبين بالخلافِ وبالبُطْلِ
وللتاركين ما وجدنا جدودَنا                        عليه ذَوِي الأحسابِ والسُّؤْدَد الجزْلِ
أتونا بإفكٍ كي يُضلِّوا عقولَنا                       وليس مُضلًا إفكَهُم عقلَ ذي عقلِ
فقلنا لهم: يا قومَنا لا تُخالفوا                    على قومِكم إن الخلافَ مَدَى الجهل
فإنكم إن تفعلوا تَدْعُ نِسوةٌ                        لهنَّ بواكٍ بالرزيةِ والثُّكلِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السوام: الإبل السائمة وهي المتروكة في المرعي.
2 تبلناهم: عاديناهم.
3 المراجل: قدور النحاس.
4 أي أناخوا إبلهم بالقرب من بعض فأصحبت المسافة بينهما مرمى النيل.
ص -176-                                         وإن تَرجِعوا عما فعلتم فإننا  بنو عمِّكمْ أهلُ الحفائظِ والفَضْلِ
فقالوا لنا: إنا وجدنا محمدًا                         رضًا لذوي الأحلامِ منا وذي العقلِ
فلما أبوْا إلا الخلافَ وزيَّنوا                           جِماعَ الأمورِبالقبيحِ من الفعلِ
تيمَّمتُهم بالساحلَيْنِ بغارة لأتركهم              كالعَصْفِ ليس بذي أصلِ1
فورَّعني مَجْدِيُّ عنهم وصُحْبتي                  وقد وَازَروني بالسيوفِ وبالنبلِ2
لإلّ علينا واجب لا نُضيعُهُ                           أمين قواه غير مُنْتَكثِ الحبلِ
فلولا ابنُ عمرو كنتُ غادرتُ منهم                ملاحمَ للطير العُكوفِ بلا تَبْل
ولكنه آلى بإلّ فقَلَّصتْ                               بأيمانِنَا حَدُّ السيوفِ عن القتلِ
فإن تُبقني الأيامُ أرجعْ عليهمُ                     ببيضٍ رِقاقِ الحدّ مُحْدَثةِ الصقلِ
بأيدي حُماةٍ من لُؤَيِّ بنِ غالبٍ                    كرامِ المساعي في الجُدوبة والمَحْلِ
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لأبي جهل.
غزوة بواط:
قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول يريد قريشًا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بُواط4، من ناحية رَضْوَى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فلبث بها بقيةَ شهر ربيع الآخر وبعض جُمادى الأولى.
غزوة العشيرة5:
ثم غزا قريشًا فاستعمل، على المدينة أبا سَلمة بن عبد الأسد فيما قال ابن هشام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العصف: ورق الزرع الأصفر، أو القطع الدقيقة من التبن ونحوه.
2 ورعني: كفني ومنعني. ومجدي هو: ابن عمرو الجهني.
3 الإل العهد.
4 بواط: جبلان فرعان لأصل واحد، أحدهما: جلسي، والآخر غوري وفى الجلسي بنو دينار ينسبون إلى دينار مولى عبد الملك بن مروان.
5 ويقال فيها أيضا العسيرة والعسيراء وفي البخاري أن قتادة سئل فقال: العشير.
ص -177-      قال ابن إسحاق: فسلك على نَقْب بني دينار، ثم على فَيْفاء الخبَار فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها. فثَمَّ مسجده صلى الله عليه وسلم، وصُنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل الناسُ معه، فموضع أثافِيِّ البُرْمة معلوم هنالك، واستُقِي له من ماء به يقال له: المُشْتَرَب، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائقَ بيسار وسلك شُعبةً يقال لها: شُعبة عبد الله، وذلك اسمها اليوم، ثم صَبَّ لليسار حتى هبط يَلْيَل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضَّبُوعة، واستقى من بئر بالضَّبوعة، ثم سلك الفَرْش: فَرْشَ مَلَل، حتى لَقي الطريقَ بصُحَيْرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق، حتى نزل العُشَيْرةَ من بطن يَنْبُع. فأقام بها جمادَى الأولى وليالي من جمادَى الآخرة، وادعَ فيها بني مُدلِج وحلفاءَهم من بني ضَمْرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلقَ كيدًا.
وفى تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ما قال.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن محمد بن خَيْثَم المحاربي، عن محمد بن كَعْب القُرَظي عن محمد بن خَيْثم أبي يزيد، عن عمار بن ياسر، قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين. في غزوة العشيرة، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها رأينا أناسًا من بني مُدْلج يعملون في عين لهم وفى نخل فقال لي علي بن أبي طالب: يا أبا اليقظان، هل لك في أن تأتي هؤلاء القوم، فننظر كيف يعملون قال: قلت: إن شئتَ قال: فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثم غشينا النوم. فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صُور من النخل1، وفي دَقْعاء2 من التراب فنمنا، فوالله ما أهَبَّنا3 إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله. وقد تتربنا من تلك الدَّقْعاء التي نمنا فيها، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب:
"مالك يا أبا تراب"، لما يرى عليه من التراب. ثم قال: "ألا أحدثكما بأشقى الناس رَجُلين؟" قلنا: بلى يا رسول الله؟ قال: "أحيمر ثمود4 الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا عليُّ على هذه -وضع يده على قَرْنه- حتى يَبُلَّ منها هذه -وأخذ بلحيته-".
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سمي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صور من النخل: صغار منها.
2 الدقعاء: مالان من التراب.
3 أهبنا: أيقظنا.
4 هو قدار أو قذار بن سالف وأمه قذيرة وهو من التسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون المذكورين في سورة النمل.

ص -178-      عليًّا أبا تراب: أنه كان إذا عَتَب على فاطمة في شيءٍ لم يكلمْها، لم يقل لها شيئًا تكرهه، لا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآى عليه الترابَ عرف أنه عاتب على فاطمة، فيقول: "مالك يا أبا تراب؟" فالله أعلم أي ذلك كان.
سرية سعد بن أبي وقاص:
قال ابن إسحاق: وقد كان بَعْث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص، في ثمانية رهْط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرّار من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلقَ كيدا.
قال ابن هشام: ذكر بعضُ أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة.
غزوه سفوان:
وهي غزوة بدر الأولى:
قال ابن اسحاق: ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشرحتى أغار كرز بن جابر الفهري على سَرْح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلَبه، واستعمل على المدينة زَيْد بن حارثة، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ واديًا، يقال له: سَفْوان، من ناحية بدر، وفاته كُرْزُ بنُ جابر، فلم يدركْه، وهي غزوة بدر الأولى، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقيةَ جُمَادى الآخرة ورجبًا وشعبان.
سرية عبد الله بن جحش:
ونزول:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}
الكتاب الذي حمله من الرسول: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن جحش بن رِئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدًا.

ص -179-      وكان أصحاب ابن جحش في هذه السرية: وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين. ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف: أبو حُذَيفة بن عُتْبة بن ربيعة بن عبد شمس ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وعُكَّاشة بن مِحْصن بن حُرْثان، أحد بني أسد بن خزَيمة، حليف لهم. ومن بني نَوْفَل بن عبد مناف: عُتبة بن غَزْوان بن جابر، حليف لهم. ومن بني زُهْرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص. ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف لهم من عَنْز بن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يَرْبوع، أحد بني تميم، حليف لهم، وخالد بن البُكَير، أحد بني سعد بن لَيْث، حليف لهم. ومن بني الحارث بن فهر: سُهَيْل بن بيضاء. ابن جحش يفتح الكتاب: فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب، فنظر فيه فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نَخْلة، بين مكة والطائف، فترصَّدْ بها قريشًا وتَعلَم لنا من أخبارِهم". فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب، قال: سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نَخْلة، أرْصُد بها قريشًا، حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع؟ فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابهُ، لم يتخلفْ عنه منهم أحد.
وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعْدن، فوق الفُرُع، يقال له: بحران، أضل سعدُ بن أبي وقاص، وعتبةُ بن غزوان بعيرًا لهما، كانا يعتقبانه. فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقيةُ أصحابه حتى نزل بنَخْلة. فمرت به عِير لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا، وتجارة من تجارة قريش، فيهما عمرو بن الحَضْرَمي.
قال ابن هشام: واسم الحضرمي: عبدُ الله بن عَبَّاد، ويقال: مالك بن عَبَّاد، أحد الصَّدِف، واسم الصِّدِف: عمرو بن مالك، أحد السَّكون بن أشرس بن كِنْدة، ويقال: كِنْدى.
قال ابن إسحاق: وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نَوْفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كَيْسان، مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عُكَّاشَة بن محصن، وكان قد حلق رأسَه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا عُمَّارٌ، لا بأس عليكم منهم.. وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتوهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فتردد القوم وهابوا الِإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسَهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بنُ عبد الله

ص -180-      التميمي عَمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمانَ بنَ عبد الله، والحكمَ بن كَيْسان وأفلت القومَ نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم. وأقبل عبدُ الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
وقد ذكر بعضُ آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير، وقسَّم سائرها بين أصحابه.
قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ قال:
"ما أمرتكمِ بقتال في الشهر الحرام". فوقف العيرَ والأسيرين. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هَلكوا، وعنفهم إخوانُهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموالَ، وأسروا فيه الرجالَ فقال من يرد عليهم من المسلمين، ممن كان بمكة: إنما أصابوا في شعبان.
وقالت يهود -تَفاءَلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم-: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو، عمرت الحرب. والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.
فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217]، أي إن كنتم قَتلتم في الشهر الحرام فقد صَدُّوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهلُهُ، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبرُ عند الله من القتل {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]: أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداءِ عُثمان بن عبد الله والحكم بن كَيْسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نفديكموهما حتى يقدمَ صاحبانا -يعنى سعد ابن أبي وقاص، وعُتبة بن غَزْوان- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم". فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
فاما الحكم بن كَيْسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى

ص -181-      قُتل يوم بئر معونة شهيدًا. وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها كافرًا. طمع أمير السرية في الأجر وما نزل في ذلك من القرآن: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله: أنطمع أن تكونَ لنا غزوة نُعْطَى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء.
والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.
قال ابن إسحاق: وقَد ذكر بعضُ آل عبد الله بن جحش: أن الله عز وجل قسم الفيء حين أحلَّه، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءَه الله، وخُمسًا إلى الله ورسوله، فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير.
أول غنيمة للمسلمين: قال ابن هشام: وهي أول غنيمة غنمها المسلمون. وعَمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون.
قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن جحش، ويقال: بل عبد الله بن جحش قالها، حين قالت قريش: قد أحل. محمد وأصحابهُ الشهرَ الحرام وسفكوا فيه الدَم وأخذوا فيه المالَ، وأسروا فيه الرجالَ، قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش:
تَعُدُّونَ قتلًا في الحرام عظيمةً                  وأعظمُ منه لو يَرَى الرشدَ راشدُ
صدودُكم عما يقول محمدٌ                        وكُفْرٌ به والله راءٍ وشاهدُ
وإخراجُكم من مسجدِ الله أهلَه                 لئلا يُرى للّهِ في البيتِ ساجدُ
فإنا وإن عَيَّرتمونا بقتله                           وأرجف بالِإسلامِ باغٍ وحاسدُ
سَقَينا من ابنِ الحَضرَمي رماحَنا              بنَخْلَةَ لما أوقَدَ الحربَ واقدُ
دما وابنُ عبد الله عثمان بيننا                   يُنازعه غُلٌّ من القدِّ عاندُ1
صرف القبلة إلى الكعبة:
قال ابن إسحاق: ويقالُ: صُرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانيةَ عشرَ شهرًا من مَقْدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القد: شرك من جلد، والعاند: السائل بالدم غير المنقطع.

ص -182-      غزوة بدر الكبرى1:
قال ابن إسحاق: ثم إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَمِع بأبي سفيان بن حرب مُقبلًا من الشام في عِير لقريش عظيمة، فيها أموالٌ لقريش وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلًا من قريش أو أربعون، منهم مَخْرَمة بن نَوْفل بن أهَيْب بن عبد مناف بن زُهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.
قال ابن هشام: ويقال: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عُروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثُهم فيما سقته من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلًا من الشام، ندب المسلمين إليهم وقال:
"هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنْفِلُكموها". فانتدب الناسُ، فخف بعضُهم وثقل بعضُهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَلْقَى حربًا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس2 الأخبارَ ويسأل من لقي من الرّكبان تخوفا على أمر الناس. حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدًا قد استنفر أصحابَه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عَمْرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالِهم، ويُخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابة فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا الى مكة.
رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب: قال ابن إسحاق: فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب، قبل قدوم ضَمْضم مكة بثلاث ليالٍ، رؤيا أفزعتها. فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بدر: اسم بئر حفرها رجل من غفار، ثم من بني النار منهم، اسمه: بدر، وقيل: هو بدر بن قريش بن يخلد الذي سميت قريش به، وروى يونس عن ابن أبي زكريا عن الشعبي قال بدر: اسم رجل كانت له بدر.
2 التحسس بالحاء. أن تتسمع الأخبار بنفسك، والتجسس بالجيم: هو أن تفحص عنها بغيرك، وفي الحديث
"لا تجسسوا، ولا تحسسوا".

ص -183-      فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيتُ الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفْتُ أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك به؟ فقال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبًا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطَح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا لَغُدُر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به1 بعيره على ظهر الكعبة، صرخ بمثلها: ألا أنفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث: ثم مَثَل به بعيره على رأس أبي قُبَيْس، فصرخ بمثلها ثم أخذَ صخرةً فأرسلها. فأقبلت تَهْوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت2. فما بقي بيتٌ من بيوت مكة، ولا دارٌ إلا دخلتها منها فلقة. قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنتِ فاكتميها، ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس، فلقي الوليدَ بنَ عُتبة بن ربيعة، وكان له صديقًا: فذكرها له، واستكتمه إياها. فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث بمكة، حتى تحدثت به قريش في أنديتها.
قال العباس: فغدوتُ لأطوفَ بالبيت وأبو جهل بن هشام في رَهْط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا؟ فلما فرغت أقبلتُ حتى جلستُ معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب؟ متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة: قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يكُ حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء، نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذبُ أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئًا قال: ثم تفرقنا.
فلما أمسيتُ، لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساءَ وأنت تسمعُ، ثم لم يكن عندك غِيَر لشىء بما سمعت، قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه من كبير. وايم الله لأتعرضن له، لاكفينَّكُنَّه.
قال فغدوتُ في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مُغْضَب أرى أني قد فاتني منه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل به: قام به.
2 لأرفضت: تفتتت.

ص -184-      أمر أحِب أن أدركَه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرَّضه، ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلًا خفيفًا، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر. قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتدُّ. قال: فقلت في نفسي: ما له لعنه الله، أكلُّ هذا فَرَق مني أن أشاتمه! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضَمْضم بن عَمرو الغِفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره، قد جدع بعيرَه1، وحوَّل رحلَه، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشرَ قُريش، اللطيمةَ اللطيمةَ2 أموالُكم مع أبي سفيان قد عَرَض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدْرِكوها، الغَوْثَ الغَوْثَ. قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.
قريش تتجهز للخروج: فتجهز الناسُ سراعًا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابُه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلَمنَّ غير ذلك. فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانَه رجلًا. وأوعبت قريش، فلما يتخلف من أشرافِها أحدٌ.
إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكان قد لاط3 له بأربعةِ آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه، فخرج عنه، وتخلف أبو لهب.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدُ الله بن أبي نجيحٍ: أن أمية بن خلف كان أجمع القعود، وكان شيخًا جليلًا جسيمًا ثقيلًا، فأتاه عُقبة بن أبي مُعَيْط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها، فيها نار ومَجْمَر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء: قال: قبحك الله وقبَّح ما جئت به؟ قال: ثم تجهز فخرج مع الناس.
ما وقع بين قريش وكنانة من الحرب قبل بدر: قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسيرَ، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر كما حدثني بعض بني عامر بن لُؤَي، عن محمد بن سعيد بن المسيب في ابن لحفص بن الأخْيَف، أحد بني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جدع بعيره: قطع أنفه.
2 اللطيمة: الإبل التي تحمل البز والطيب.
3 لاط: احتبس.

ص -185-      مَعيص بن عامر بن لُؤَي، خرج يبتغي ضالةً له بضَجنان، وهو غلام حدث في رأسه ذُؤابة، وعليه حُلَّة له، وكان غلامًا وضيئًا نظيفًا، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن المُلَوَّح، أحد بني يَعْمَر بن عوف بن كعب بن عامر بن لَيْث بن بكر بن عبد مَناة بن كنانة، وهو بضَجْنان، وهو سيد بني بكر يومئذ، فرآه فأعجبه فقال: من أنت يا غلامُ؟ قال: أنا ابنٌ لحفصِ بن الأخْيف القرشي. فلما ولَّى الغلام، قال عامر بن زيد: يا بني بكر، ما لكم في قريش من دم؟ قالوا: بلى والله، إن لنا فيهم لدماءً، قال: ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برَجُله إلا كان قد استوفى دمه. قال: فتبعه رجل من بني بكر، فقتله بدمٍ كان له في قريش؟ فتكلمت فيه قريش، فقال عامر بن يزيد: يا معشر قريش قد كانت لنا فيكم دماء، فما شئتم؟ إن شئتم فأدُّوا علينا ما لنا قِبَلَكم، ونؤدي ما لكم قبلنا، وإن شئتم فإنما هى الدماء: رجل برجل، فتجافوا عما لكم قبلنا، ونتجافى عما لنا قبلكم، فهان ذلك الغلام على هذا الحي من قريش، وقالوا: صدق، رجل برجل. فلهوا عنه، فلم يطلبوا به.
قال: فبينما أخوه مكرز بن حَفْص بن الأخيف يسير بمر الظهران، إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن الملَوَّح على جمل له، فلما راه أقبل إليه حتى أناخ به، وعامر متوشح سيفه، فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله، ثم خاض بطنه بسيفه؟ ثم أتى به مكة، فعلقه من الليل بأستار الكعبة. فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقًا بأستار الكعبة، فعرفوه فقالوا: إن هذا لسيف عامر بن يزيد، عدا عليه مكرز بن حفص فقتله، فكان ذلك من أمرهم. فبينما هم في ذلك من حربهم، حجز الإسلامُ بينَ الناس فتشاغلوا به، حتى أجمعت قريش المسيرَ إلى بدر، فذكروا الذي بينهم وبينَ بني بكر فخافوهم.
وقال مكرز بن حفص في قتله عامرًا:
لما رأيتُ أنه هُوَ عامر                               تذكرت أشلاءَ الحبيبِ الملحَّبِ1
وقلت لنفسى: إنه هُوَ عامرٌ                      فلا تَرْهبيه، وانظري أيَّ مَرْكبِ
وأيقنتُ أني إن أجَلِّلْه ضربة                       متى ما أصبْه بالفُرافرِ يَعْطَبِ
خفضتُ له جأشي وألقيتُ كَلْكَلي              على بطلٍ شاكي السلاحِ مُجَرَّب2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحلب: الذي ذهب لحمه، وأصل اللحب تقطيع اللحم طولا.
2 الكلكل: الصدر.

ص -186-                                     ولم أك لما التف روعي وروعه   عصارة هجن من نساء ولا أب
حللت به وتري ولم أنس ذحله                إذا ما تناسى ذحله كل عيهب1
قال ابن هشام: الفرافر في غير هذا الموضع: الرجل الأضبط، وفى هذا الموضع: السيف، والعيهب: الذي لا عقل له، ويقال لتيس الظباء وفحل النعام: العيهب. قال الخليل: العيهب: الرجل الضعيف عن إدراك وتره.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعًا.
خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه، قال ابن هشام: خرج يوم الاثنين لثمان ليالٍ خلون من شهر رمضان، واستعمل عمرو ابن أم مكتوم، ويقال اسمه: عبد الله بن أم مكتوم أخا بني عامر بن لُؤي، على الصلاة بالناس، ثم رد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة.
اللواء والرايتان: قال ابن إسحاق: ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال ابن هشام: وكان أبيض.
قال ابن إسحاق: وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب، يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
عدد إبل المسلمين إلى بدر: قال ابن إسحاق: وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرًا، فاعتقبوها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرًا، وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة، موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرًا، وكان أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذحل: الثأر.
ص -187-      قال ابن إسحاق: وجعل على السَّاقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ، فيما قال ابن هشام.
الطريق إلى بدر: قال ابن إسحاق: فسلك طريقه من المدينة إلى مكة، على نَقْب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحُليفة، ثم على أولات الجَيْش.
قال ابن هشام،: ذات الجيش.
قال ابن إسحاق: ثم مر على تُرْبان، ثم على مَلَل، ثم غَميس الحَمام من مَرَرَيْن، ثم على صُحَيْرات اليمام، ثم على السَّيالة، ثم على فَجِّ الرَّوْحاء، ثم على شَنُوكة، وهي الطريق المعتدلة، حتى إذا كان بعرق الظبية -قال ابن هشام: الظبية: عن غير ابن إسحاق- لقوا رجلًا من الأعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرًا. فقال له الناس: سلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم، فسلَّم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه. قال له سَلَمة بن سلامة بن وَقش: لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليَّ فأنا أخبرك عن ذلك. نزوت عليها، ففي بطنها منك سَخْلة1، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَهْ أفحشْتَ على الرجل"، ثم أعرض عن سَلمة.
ونزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَجْسج وهي بئر الرَّوْحاء ثم ارتحل منها، حتى إذا كان بالمنْصَرَف، ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية، يريد بدرًا، فسلك في ناحية منها، حتى جَزَع واديًا2، يقال له رُحْقان، بين النازية وبين مَضِيق الصَّفْراء، ثم على المضيق، ثم انصب منه، حتى إذا كان قريبًا من الصفراء، بعثَ بَسْبَس بن الجُهَني حليفَ بني ساعدة، وعَدِي بن أبي الزّغْباء الجهني، حليف بني النجار، إلى بدر يتحسسان له الأخبار، عن أبي سفيان بن حرب وغيره، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمها. فلما استقبل في الصَّفراء، وهي قرية بين جَبَلين، سأل عن جبليهما ما اسماهما؟ فقالوا: يقال لأحدهما، هذا مُسْلح، وللآخر: هذا مُخْزِئ، وسأل عن أهلهما فقيل: بنو النار وبنو حُراق، بطنان من بني غِفار فكرههما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء3 أهلهما: فتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له: ذَفِرَان، فجزع فيه، ثم نزل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السخلة في الأصل: الصغير من الضأن واستعارها لولد الناقة.
2 قطعه عرضا.
3 ليس هذا من باب الطير والتشاؤم فقد كان ينهى عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا من باب كراهية الاسم القبيح.

ص -188-      وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغماد1 لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له به.
استشارة الأنصار: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أشيروا عليَّ أيها الناس" وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا بُرآء من ذمامِك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءَنا ونساءَنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل": قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخُضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنَّا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يُريك منا ما تقر به عينُك، فسِر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم".
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذَفران، فسلك على ثَنايا، يقال لها: الأصَافِر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدَّبَّة، وترك الحَنَّان بيمين وهو كَثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبًا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه.
قال ابن هشام: الرجل هو أبو بكر الصديق.
قال ابن إسحاق: كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان: حتى وقف على شَيْخ من العرب، فسأله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضع بناحية اليمن، وقيل إنها مدينة بالحبشة.

ص -189-      عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم؟ فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أخبرتنا أخبرناك". قال: أذاك بذاك؟ قال: "نعم". قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش. فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن من ماء"، ثم انصرف عنه. قال يقول الشيخ: ما من ماء، أمن ماء العراق؟
قال ابن هشام: يقال: ذلك الشيخ: سفيان الضَّمْري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر، يلتمسون الخبر له عليه -كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير- فأصابوا رَاويةً1 لقريش فيها أسْلَم، غلام بني الحجَّاج، وعَرِيض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء فكره القومُ خبرَهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما. فلما أذلقوهما2 قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه، ثم سلم، وقال:
"إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش؟" قالا: هم والله وراء هذا الكَثيب الذي ترى بالعُدْوة القُصْوى -والكثيب: العَقَنْقَل- فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم القوم؟" قالا: كثير؟ قال: "ما عدتهم؟" قالا: لا ندري، قال: "كم ينحرون كل يوم؟" قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم فيما بين التسعمائة والألف".
ثم قال لهما:
"فمن فيهم من أشراف قريش؟" قالا: عتبة بنِ ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخْتَري بن هشام، وحَكيم بن حِزام، ونوْفل بن خوَيلد، والحارث بن عامر بن نَوْفل، وطُعَيْمة بن عَدِي بن نَوْفل، والنَّضْر بن الحارث، وزَمَعَة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونُبَيه، ومُنَبّه ابنا الحجاج، وسُهَيل بن عمرو، وعَمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ3 كبدها".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرواية: الإبل التي يسقى الماء عليها.
2 أذلقه: بالغ في ضربة.
3 أفلاذ: قطع، انظر ما في هذا الحديث من البلاغة في كتاب المجازات النبوية للشريف الرضي طبعة مصطفى الحلبي بتحقيقنا.

ص -190-      قال ابن إسحاق: وكان بَسْبَس بن عمرو، وعدي بن أبي الزَّغْباء قد مضيا حتى نزلا بدرًا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شَنًّا لهما1 يسقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر2، وهما يَتلازمان3 على الماء، والملزومة4 تقول لصاحبتها: إنما تأتي العيرُ غدًا أو بعد غدٍ، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك، قال مَجْدِي: صدقتِ، ثم خلَّص بينهما. وسمع ذلك عَدي وبَسْبس، فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بما سمعا.
نجاة أبي سفيان بالعير: وأقبل أبو سفيان بن حرب، حتى تقدم العير حذَرًا، حتى ورد الماء؟ فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسستْ أحدًا؟ فقال: ما رأيت أحدًا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شَنٍّ لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مُناخَهما، فأخذ من أبعارِ بعيريهما، ففته، فإذا فيه النوى؟ فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع إلى أصحابه سريعًا، فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحَلَ بها5، فترك بدرًا بيسار وانطلق حتى أسرع.
قال: وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجُحْفة، رأى جُهَيم بن الصَّلْت بن مَخْرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إني رأيت فيما يرى النائم، وإنى لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له؟ ثم قال: قُتل عُتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خَلَف، وفلان وفلان، فعدد رجالًا ممن قُتل يوم بدرِ، من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره، ثم أرسله في العسكر؟ فما بقي خباء من أخْبية العسكر إلا أصابه نَضْح من دمه.
قال: فبلغتْ أبا جهل؟ فقال: وهذا أيضًا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدًا من المقتول إن نحن التقينا.
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحْرز عيره، أرسل إلى قريش: أنكم إنما خرجتم لتَمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا؟ فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا -وكان بدر موسمًا من مواسم العرب، يجتمع لهم به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشن: الزق البالي.
2 الحاضر: النازلون على الماء.
3 التلازم: تعلق الغريم بغريمه.
4 الملزومة: المدينة.
5 أخذ بها طريق الساحل.

ص -191-      سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجُزر، ونطعم الطعام ونُسْقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجَمْعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها، فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي: وكان حليفًا لبني زُهرة وهم بالجُحْفة: يا بني زُهرة، قد نجَّى الله لكم أموالكم، وخَلَّص لكم صاحبكم مَخْرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لي جُبْنَها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في ضَيْعة، لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل. فرجعوا، فلم يشهدها زُهْرِيّ واحد، أطاعوه وكان فيهم مُطاعًا، ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نَفر منهم ناس، إلا بني عَدِي بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شَرِيق، فلم يشهد بدرًا من هاتين القبيلتين أحد، ومشى القوم. وكان بين طالب بن أبي طالب -وكان في القوم- وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: واللَه لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، أن هواكم لمع محمد: فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال طالب بن أبي طالب:
لا هُمَّ إما يَغْزُوَنَّ طالبْ                         في عُصبةٍ محالف مُحاربْ
في مِقْنبٍ من هذه المقانبْ                 فليكن المسلوب غيرَ السالبْ1
وليكن المغلوب غير الغالب
قال ابن هشام: قوله "فليكن المسلوب"، وقوله: "وليكن المغلوب" عن غير واحد من الرواة للشعر.
قريش تنزل بالعدوة والمسلمون ببدر: قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعُدْوَة القُصْوَى من الوادي، خلف العَقَنْقَل وبطن الوادي، وهو يَلْيَل، بين بدر وبين العَقَنْقَل الكثيب الذي خلفه قريش، والقُلُب2 ببدر في العُدْوة الدنيا من بطن يَلْيَل إلى المدينة.
وبعث الله السماء، وكان الوادي دَهْسًا3، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لَبَّد لهم الأرضَ، ولم يمنعهم عن السير، وأصاب قريشًا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا جمعه. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقنب: الجماعة من الخيل.
2 القلب: جمع قليب: البئر القديم مذكر وقد يؤنث.
3 الدهس: المكان اللين السهل الذي ليس برمل ولا تراب.

ص -192-      قال ابن إسحاق: فحُدثت عن رجال من بني سَلمة، أنهم ذكروا: أن الحُباب بن المنذر بن الجَموح قال: يا رسول الله؟ أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلًا أنزلَكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأيُ والحربُ والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نُغَوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا فنمْلؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرتَ بالرأي". فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغُوِّرت، وبنى حَوْضا على القُلُب الذي نزل عليه فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حُدث: أن سعد بن معاذ قال: يا نبي الله، ألا نبتني لك عريشًا تكون فيه، ونُعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ، فكان فيه ارتحال قريش ودعاء الرسول عليهم: قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصوَّب من العَقَنْقَل -وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي- قال:
"اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها، تُحادُّك وتكذِّب رسولَك، اللهم فنصرَك الذي وعدتنى، اللهم أحِنْهم1 الغداة".
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقد رأى عتبةُ بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر-:
"إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يَرْشُدوا".
وقد كان خُفاف بن أيماء بن رَحَضة الغِفاري، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش، حين مروا به، ابنًا له بجزائره2 أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. قال: فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصَلَتْك رَحِم، قد قضيت الذي عليك فلعَمْري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحنهم: أهلكهم.
2 الجزائر: الذبائح.

ص -193-      فلما نزل الناس أقبل نفرٌ من قريش حتى وردوا حوضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم"، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قُتل، إلا ما كان من حَكيم بن حزام، فإنه لم يُقتل، ثم أسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه. فكان إذا جهد في يمينه، قال: لا والذي نجاني من يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي: إسحاق بن يسار، وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عُمَير بن وهب الجُمَحي فقالوا: احْزُروا لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلًا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ قال: فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئًا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت، يا معشر قريش، البَلايا1 تحمل المنايا، نواضح2 يَثْرب تحمل الموتَ الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجل منهم، حتى يَقتل رجلًا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خيرُ العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عُتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تُذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمرَ حليفك عَمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلتُ، أنت عليَّ بذلك، إنما هو حليفي، فعلي عقلُه وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية.
الحنظلية ونسبها: قال ابن هشام: والحنظلية أم أبي جهل، وهي أسماء بنت مُخَرَّبة، أحد بني نَهْشِل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره، يعني أبا جهل بن هشام. ثم قام عُتبة بن ربيعة خطيبًا، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلْقَوْا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قَتل ابنَ عمه وابنَ خاله، أو رجلًا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تَعَرَّضوا منه ما تريدون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النوق التي تربط على قبر الأموات لا تعلف ولا تسقى حتى تموت كان يفعلها بعض العرب الذي يقر بالبعث إلا أنه يظن أنه يحشر عليها الميت وقت بعثه.
2 النواضح: الإبل التي يستقى الماء عليها.

ص -194-      قال حَكيم: فانطلقتُ حتى جئتُ أبا جهل، فوجدته قد نَثَل1 دِرْعًا له من جرابها، فهو يَهْنِئها2 -قال ابن هشام: يُهيئها- فقلتُ له: يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، للذي قال، فقال: انتفخ والله سَحْرُه حين رأى محمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبينَ محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدًا وأصحابه أكلةَ جَزُور، وفيهم ابنه، فقد تخوَّفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحَضْرمي، فقال: هذا يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فأنشد خُفْرَتَك، ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحَضْرمي فاكتشف ثم صرخ: واعَمْراه. واعَمْراه، فحميت الحرب، وحَقِب3 الناس، واستوثقوا على ما هم عليه من الشَّرِّ. وأفسد على الناس الرأيُ الذي دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عُتبة قول أبي جهل "انتفخ والله سَحْرُه"، ال: سيعلم مُصَفِّرُ استِه4 من انتفخ سَحْرُه، أنا أم هو؟
قال ابن هشام: السَّحْر: الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السرة. وما كان تحت السرة، فهو القُصْب، ومنه قوله: رأيت عَمرو بن لحي يجر قُصْبَه في النار. قال ابن هشام: حدثني بذلك أبو عبيدة.
ثم التمس عُتبة بَيْضةً ليُدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته. فلما رأى ذلك اعتجر5 على رأسه بُبرد له.
مقتل الأسود بن عبد الأسد المخزومي: قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان رجلًا شَرِسًا سيِّئ الخُلُق، فقال: أعاهد الله لأشربنَّ من حوضِهم، أو لأهدِمَنَّه. أو لأموتَنَّ دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن6 قدمَه بنصف ساقه، وهو دون الحَوْض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحَوْض حتى اقتحم فيه، يريد أن يبر بيمينه، وأتبعه حمزةُ فضربه حتى قتله في الحوض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نثل: أخرج.
2 يهنئها: يطليها بعكر الزيت.
3 حقب الناس: اشتدوا.
4 كناية عن الدعة فقد كان الإنسان البعيد عن الحرب يتطيب بالخلوق، وقد قصد المبالغة لإهانته بذكر استه وإنما هو تطييب البدن.
5 اعتجر: تعمم.
6 أطن: أطار.

ص -195-      دعاء عتبة إلى المبارزة: قال: ثم خرج بعدُ عتبة بن ربيعة، بين أخيه شَيْبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عُتبة، حتى إذا فَصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فِتية من الأنصار ثلاثة وهم: عَوْف، ومعُوّذ، ابنا الحارث وأمهما عفراء ورجل آخر، يقال: هو عبد الله بن رَوَاحةَ فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرجْ إلينا أكْفاءَنا من قومنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا عُبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي"، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ قال عُبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليّ: علي؛ قالوا: نعم، أكْفاء كرام، فبارز عبيدة، وكان أسن القوم، عُتبة بن ربيعة وبارز حمزة شَيْبة بن ربيعة وبارز علي الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه1، وكَرَّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عُتبة فذَفَّفا2 عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة: أن عُتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا.
التقاء الفريقين: قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضُهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرَهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنَّبْل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، معه أبو بكر الصديق.
فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
قال ابن إسحاق: كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين.
ضرب الرسول ابن غزية: قال ابن إسحاق: وحدثني حَبَّان بن واسع بن حَبَّان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَدَّل صفوفَ أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح3 يعدل به القوم، فمر بسَواد بن غَزِيَّة، حليف بني عدي بن النجار، قال ابن هشام: يقال، سَوَّاد، مثقلة، وسواد في الأنصار غير هذا، مخفف وهو مُسْتَنْتل4 من الصف، قال ابن هشام: ويقال مُسْتَنصلِ5 من الصف فطعن في بطنه بالقدْح، وقال:
"استوِ يا سَوَّاد" فقال: يا رسول الله، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدْني6 فكشف رسولُ الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أثبته: جرحه جراحة بالغة.
2 ذففا عليه: أسرعا قتله.
3 قدح: سهم.
4 مستنتل: متقدم.
5 مستنصل: خارج.
6 أقدني: اقتص لي من نفسك.

ص -196-      صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: "استقدْ"، قال: فاعتنقه فقبَّل بطنه: فقال: "ما حملك على هذا يا سَواد؟" قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخرُ العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدَك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقاله له.
الرسول يناشد ربه النصر: قال ابن إسحاق: ثم عدَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله، ومعه فيه أبو بكر الصديق، ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربَّه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول:
"اللهم إن تَهْلك هذه العصابة اليوم لا تُعْبد"، وأبو بكر يقول: يا نبي الله، بعضَ مُناشدتك ربك، فإن الله مُنْجِز لك ما وعدك. وقد خفق1 رسول الله صلى الله عليه وسلم خَفْقةً وهو في العريش، ثم انتبه فقال: "أبشرْ يا أبا بكر، أتاك نصرُ الله، هذا جبريل آخذٌ بعنان فرس يقوده، على ثناياه النَّقْعُ".
أول شهيد من المسلمين: قال ابن إسحاق: وقد رُمِي مِهْجع، مولى عمر بن الخطاب بسهم فقُتل فكان أول قتيل من المسلمين ثم رُمي حارثة بن سُرَاقة، أحد بني عَدِي بن النجار، وهو يشرب من الحَوْض، بسهم فأصاب نحره، فقُتل.
قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرَّضهم، وقال:
"والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليومَ رجلٌ فيُقتل صابرًا محتسبًا، مُقبلًا غير مُدْبر، إلا أدخله الله الجنة". فقال عُمَيْر بن الحُمام أخو بني سَلمة، وفى يده تمرات يأكلهن: بَخْ بَخْ2، أفما بيني وبين أن أدخلِ الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القومَ حتى قُتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة: أن عوف بن الحارث، وهو ابن عفراء قال يا رسول الله، ما يُضْحك3 الرب من عبده؟ قال:
"غَمْسه يَده في العدو حاسرًا". فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفَه فقاتل القوم حتى قُتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر العُذْري، حليف بني زُهرة، أنه حدثه: لما التقى الناسُ، ودنا بعضُهم من بعض، قال أبو جهل بن هشام: اللهم أقطَعنا للرحم، وآتانا بما لا يُعْرف، فأحِنْه4 الغَداةَ. فكان هو المستفتح5.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحَصْباء فاستقبل قريشًا بها، ثم قال:
"شاهتِ الوجوهُ"، ثم نَفَحهم بها، وأمر أصحابه فقال: "شُدُّوا" فكانت الهزيمة، فقتَل الله تعالى من قَتل من صناديد قريش، وأسَر من أسر من أشرافهم. فلما وضع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خفق: أخذته سنة خفيفة من النوم.
2 كلمة تقال في حالة الإعجاب.
3 أي يرضيه غاية الرضا مع تبشير وإظهار كرامة.
4 أحنه، أهلكه.
5 المستفتح: المبتدئ لنفسه.

ص -197-      القومُ أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائمٌ على باب العريش، الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشِّح السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كَرَّة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- في وجه سَعْد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لكأنك يا سعدُ تكره ما يصنع القوم؟" قال:أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك. فكان الِإثخان في القتل بأهل الشرك أحبَّ إلي من استبقاء الرجال.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ:
"إني قد عرفت أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، ولا حاجة لهم بقتالنا: فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتُله ومن لقي أبا البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مُسْتكرَهًا".
قال: فقال أبو حُذيفة: أنقتل آباءَنا وأخواتنا وعشيرتنا. ونترك العباس؟ والله لئن لقيتُه لألحِمنه السيف -قال ابن هشام: ويقال: لألجمنه السيف- قال: فبلغت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب:
"يا أبا حفص -قال عمر: والله إنه لأول يوم كَنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حَفْص- أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟" فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقهُ بالسيف، فوالله لقد نافق فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتُ يومئذ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدًا.
قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البَخْتَري؛ لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قُريش على بني هاشم وبني المطلب. فلقيه المجَذَّر بن زياد البَلَوي، حليف الأنصار، ثم من بني سالم بن عَوْف، فقال المجَذَّر لأبي البَخْتري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك -ومع أبي البَختري زميل1 له، قد خرج معه من مكة، وهو جُنادة بن مُلَيحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بني لَيْث واسم أبي البَخْتري: العاص-قال: وزميلي؟ فقال له المجذر: لا والله، ما نحن بتاركي زميلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الزميل: من يزامله فيركب معه على بعير واحد.

ص -198-      198#
ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك؟ فقال: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعًا، لا تتحدث عني نساءُ مكة أني تركت زميلي حرصًا على الحياة. فقال أبو البَخْتري حين نازله المجذّر وأبى إلا القتال، يرتجز:
لن يُسْلِمَ ابنُ حُرةٍ زميلَهْ                       حتى يموتَ أو يَرى سبيلَهْ
فاقتتلا، فقتله المجذّر بن زياد. وقال المجذر بن زياد في قتله أبا البَخْتري:
إما جَهِلْتَ أو نسيتَ نسبي                   فأثبِت النسبةَ أني من بَلِي
الطاعنين برماحِ اليَزني                         والضاربين الكبشَ حتى ينحني
بشِّر بيُتمِ من أبوه البَخْتري                    أو بَشِّرن بمثلِها من بَني
أنا الذي يُقال أصلي من بَلي                 أطعنُ بالصَّعْدةِ حتى تَنْثَني1
وأعبِطِ القِرْنَ بعَضْبٍ مَشْرَفي                  أرْزِمُ للموتِ كإرزامِ المَرِي2
فلا ترى مجذَّرًا يَفْرِي فَرِي3
قال ابن هشام: "المَري" عن غير ابن اسحاق. والمَري: الناقة التي يستنزل لبنها على عُسر.
قال ابن إسحاق: ثم إن المجذَّر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدتُ عليه أن يَستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يُقاتلني، فقاتلتُهُ فقتلتُه.
قال ابن هشام: أبو البَخْتري: العاص بن هشام بن الحارث بن أسد.
مقتل أمية بن خلف: قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال ابن إسحاق: وحدثنيه أيضًا عن عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسمَّيت، حين أسلمتُ، عبدَ الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكَه أبواك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لاأعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصعدة في الأصل: عصا الرمح، وقد أطلق هنا على الرمح صعدة.
2 أعبط: أقتل، والعضب: السيف القاطع، وأرزم: أحن.
3 فرى: عمل عملا أتى فيه بأمر عجيب.

ص -199-      به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، قال: فكان إذا دعاين: يا عبد عمرو، لم أجبه. قال: فقلت له: يا أبا علي، اجعلْ ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: فقلت: نعم، قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الِإله فأجيبه، فأتحدث معه حتى إذا كان يوم بدر مررتُ به، وهو واقف مع ابنه، علي بن أمية، آخذ بيده ومعي أدراع قد استلبتها، فأنا أحملها فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال: يا عبد الِإله؟ فقلت:نعم، قال: هل لك فيّ، فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال: قلت نعم، ها الله ذا1. قال: فطرحتُ الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيتُ كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ قال: ثم خرجت أمشي بهما.
قال ابن هشام: يريد باللبن، أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عَوْن، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه، آخذ بأيديهما: يا عبد الِإله، مَن الرجل منكم المعلَّم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذّب بلالًا بمكة على ترك الِإسلام، فيُخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيُضجعه على ظهره ثم يأمر بالصَّخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحَدٌ أَحَدٌ. قال: فلما رآه، قال رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا قال: قلت: أي بلال، أبأسيري قال: لا نجوت إن نجا. قال: قلت أتسمع يابن السوداء، قال: لا نجوتُ إن نجا. قال: ثم صرخ بأعلى صوته. يا أنصارَ الله، رأس الكفر أميةُ بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المُسْكة2 وأنا أذُبُّ عنه. قال: فأخلف3 رجلٌ السيفَ، فضرب رِجْل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعتُ مثلَها قط. قال: فقلتْ: انجُ بنفسك ولا نجاءَ بك فوالله ما أغني عنك شيئًا. قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما، قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالًا، ذهبت أدراعي وفَجَعني بأسيري.
الملائكة تشهد وقعة بدر: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حُدث عن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ها: حرف تنبيه: وذا: اسم إشارة يشير به إلى نفسه.
2 المسكة: الحلقة.
3 أحلف: سل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Share to:

معجبين برنامج تحفيظ القران الكريم على الفايسبوك