الثلاثاء، 3 مارس 2015

جزء ثانى من ص 1 / 69

عنوان الكتاب:
السيرة النبوية لابن هشام – الجزء الثاني
تأليف:
أبي محمد بن عبد الملك بن هشام المعافري
ص -3-           بسم الله الرحمن الرحيم
خبر الصحيفة:
ائتمار قريش بالرسول: قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نزلوا بلدًا أصابوا به أمنًا وقرارًا، وأن النجاشيَّ قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عُمر قد أسلم، فكان هو وحمزةُ بن عبد المطلب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وجعل الإسلام يفشُو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني المطّلب، على ألا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عِكْرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. قال ابن هشام: ويقال: النضر بن الحارث. فدعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَشُلَّ بعضُ أصابعه.
من انحاز إلى أبي طالب ومن خرج عنه: قال ابن إسحاق؛ فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه في شِعْبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب، عبد العزى بن عبد المطلب، إلى قريش، فظاهرهم.
تهكم أبي لهب بالرسول وما نزل فيه من القرآن: قال ابن إسحاق: وحدثني حُسَيْن بنُ عبد الله: أن أبا لهب لقي هندَ بنت عُتبة بن ربيعة، حين فارق قومه، وظاهر عليهم قريشًا فقال: يا بنت عتبة؛ هل نصرتِ اللات والعزى، وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟ قالت: نعم: فجزاك الله خيرًا يا أبا عتبة.
قال ابن إسحاق: وحُدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول: يعدني محمد أشياءً لا أراها، يزعم أنها كائنة بعدَ الموت، فماذا وضع في يديَّ بعد ذلك، ثم ينفخ في يديه ويقول: تبًّا لكما ما أرى فيكما شيئًا مما يقول محمد. فأنزل الله تعالى فيه:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
قال ابن هشام: تبت: خسرت. والتباب: الخسران. قال حبيب بن خُدْرة الخارجي: أحد بني هلال بن عامر بن صعصعة:
يا طيب إنا في معشر ذهبت                     مَسْعاتُهم فى التَّبارِ والتَّبَبِ
وهذا البيت في قصيدة له.

ص -4-           شعر أبي طالب في تظاهر قريش: قال ابن إسحاق: فلما اجتمعت على ذلك قريش، وصنعوا فيه الذي صنعوا، قال أبو طالب:
ألا أبلغا عني عَلَى ذاتِ بيننا                لُؤَيا وخُصَّا من لؤي بني كعبِ
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدًا                  نبيًّا كموسى خُطَّ في أول الكتبِ
وأن عليه في العبادِ محبةً                    ولا خيرَ ممن خصه اللهُ بالحبِّ
وأن الذي ألصقتمُ من كتابِكم                لَكُم كائنٌ نحسًا كراغيةِ السَّقْبِ1
أفيقوا أفيقوا قبلَ أن يُحْفَرَ الثرى            ويصبحَ من لم يَجْنِ ذنبًا كذي الذنْبِ
ولا تتبعوا أمرَ الوُشاةِ وتقطعوا                أواصرَنا بعدَ المودةِ والقُربِ
وتستجلبوا حربًا عوانًا وربما                  أمرّ على من ذاقه جَلبُ الحربِ
فلسنا وربِّ البيتِ نسلمُ أحمدًا             لعزَّاءَ مِن عضِّ الزمان ولا كَرْب2
ولمَّا تَبِنْ منا ومنكم سوالف                 وأيدٍ أترَّت بالقُساسيَّةِ الشهْب3
بمعتَركٍ ضَيْقٍ ترى كِسَرَ القَنَا                به والنسورَالطُّخْمَ يعكفن كالشَّرْبِ4
كأن مجالَ الخيلِ في حَجَراتِه                ومَعْمَعة الأبطالِ معركة الحربِ5
أليس أبونا هاشم شدَّ أزرَهُ                  وأوصى بنيه بالطِّعان وبالضربِ
ولسنا نَمَلُّ الحربَ حتى تَمَلَّنا              ولا نشتكي ما قد ينوبُ من النَّكْبِ
ولكننا أهلُ الحفائِظ والنُّهَى                  إذا طار أرواحُ الكُماةِ من الرعْبِ
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثًا، حتى جُهِدوا لا يصل إليهم شيء، إلا سرًّا مستخفيًا به من أراد صلتهم من قريش.
أبو جهل يحكم الحصار على المسلمين: وقد كان أبو جهل بن هشام - فيما يذكرون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرغاء: صوت الإبل، والسقب: ولد الناقة، والمراد به هنا ولد ناقة صالح عليه السلام.
2 العزاء: الشدة.
3 السوالف: صفحات الأعناق، وأترت: قطعت والقساسية: سيوف تنسب إلى جبل يسمى قساس.
4 الطخم: سود الرءوس، والشراب جماعة الشاربين.
5 الحجرات: النواحي.

ص -5-           لقي حكيم بن حزام بن خُوَيْلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحًا يريد به عمته خديجة بنت خوَيلد، وهي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه في الشِّعْب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرحْ أنت وطعامُك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البَخْتري بن هشام بن الحارث بن أسد، فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم؟ فقال أبو البَخْتري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سبيلَ الرجل؛ فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البخْتري لَحْي بعير فضربه به فشجه، ووطئه وطأ شديدًا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك يدعو قومه ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، مناديًا بأمر الله لا يتقي فيه أحدًا من الناس.
ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى:
ما نزل من القرآن في أبي لهب وامرأته حمالة الحطب: فجعلت قريش حين منعه الله منها، وقام عمُّه وقومه من بني هاشم وبني المطلب دونَه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يَهْمِزونه ويستهزئون به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته منهم، ومنهم من سَمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذَكر الله من الكفار، فكان ممن سُمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب لأنها كانت -فيما بلغني- تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث تمر، فأنزل الله تعالى فيهما:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}.
قال ابن هشام: الجِيد: العُنق، قال أعْشَى بني قَيْس بن ثعلبة:
يومَ تُبدي لنا قتيلةُ عن جيـ                          ـدٍ أسيلٍ تزِينُه الأطواقُ
وهذا البيت في قصيدة له. وجمعه: أجياد. والمسَد: شجر يُدَق كما يُدَق الكتان فتفتل منه حبال. قال النابغة الذُّبياني، واسمه زِياد بن عَمرو بن معاوية:
مقذوفةٍ بدخيسِ النَّحْضِ بازِلُها                له صريف صريفَ القَعْوِ بالمَسدِ1

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدخيس: اللحم الكثير: والنحض. اللحم. والبازل: الناب: والصريف: الصوت والقعو: ما تدور فيه البكرة.

ص -6-           وهذا البيت في قصيدة له، وواحدته: مسدة.
أم جميل امرأة أبي لهب: قال ابن إسحاق: فذكر لي: أن أم جميل، حمالة الحطب، حين سمعت ما نزل فيها، وفي زوجها من القرآن، أتت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فِهْر1 من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرِها عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر: أين صاحبُك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدتُه لضربتُ بهذا الفِهْرِ فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مُذَممًا عَصَينا
وأمرَه أبَينا
ودينَه قَلَيْنَا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني؟ لقد أخذ الله ببصرِها عني.
قال ابن هشام: قولها: "ودينَه قلَيْنا" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وكانت قريش إنما تُسمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُذمَمًا، ثم يسبونه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا تعجبون لِما صرف الله عني أذى قريش، يسبون مُذمَمًا، وأنا محمدٌ".
إيذاء أمية بن خلف للرسول: وأمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمَح، كان إذا رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هَمزه ولَهمزه، فأنزل الله تعالى فيه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}.
قال ابن هشام: الهُمزة: الذي يشتم الرجلَ علانية، ويُكسر عينيه عليه، ويَغْمِز به، قال حسان بن ثابت:
همْزُتُك فاختُضِعْتَ لذلِّ نفسٍ
بقافيةٍ تَأجَّجُ كالشُّوَاظِ2
وهذا البيت في قصيدة له، وجمعه: همزات، واللُّمَزَة: الذي يعيب الناس سرًّا ويُؤْذيهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفهر: حجر يملأ الكف.
2 التأجج: التوقد.

ص -7-           قال رؤبة بن العجاج:
في ظلِّ عَصْرَيْ باطلي ولمزي
وهذا البيت في أرجوزة له، وجمعه: لمزات.
إيذاء العاص للرسول -صلى الله عليه وسلم- وما نزل فيه من قرآن: قال ابن إسحاق: والعاص بن وائل السَّهْمي، كان خَبَّاب بن الأرَتّ، صاحبُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قينًا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفًا عملها له حتى كان له مال، فجاءه يتقاضاه فقال له يا خباب: أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب، أو فضة، أو ثياب أو خدم؟ قال خَباب: بلى. قال: فأنظرني إلى يوم القيامةِ يا خَباب، حتى أرْجعَ إلى تلك الدار فأقضيَك هناك حقَّك، فوالله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله مني، ولا أعظم حظًّا في ذلك؛ فأنزل الله تعالى فيه:
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 77، 78] إلى قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80].
إيذاء أبي جهل الرسول: ولقي أبو جهل بن هشام رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- فقال له: والله يا محمدُ، لتتركنَّ سبَّ آلهتنا، أو لنسبنَّ إلهك الذي تعبد. فأنزل الله تعالى فيه:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فذكر لي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كف عن سب آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله.
إيذاء النضر الرسول: والنضر بن الحارث بن علقمة بن كَلدَة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصي، كان إذا جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن وحذر قريشًا ما أصاب الأممَ الخالية، خَلَفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رُستم السنديد، وعن أسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، وما أحاديثُه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها. فأنزل الله فيه:
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 5، 6] ونزل فيه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15] ونزل فيه: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7، 8]
قال ابن هشام: الأفاك: الكذاب. وفى كتاب الله تعالى:
{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

ص -8-           وقال رؤبة:
ما لامرئ أفَّك قولًا إفْكًا
وهذا البيت في أرجوزة له.
قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم يومًا -فيما بلغني- مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضْر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفى المجلس غيرُ واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرضَ له النضرُ بنُ الحارث، فكلمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ، لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ}.
قال ابن هشام: حصب جهنم: كل ما أوقدت به. قال، أبو ذُؤيب الهذلي، واسمه خوَيْلد بن خالد:
فأطفئ ولا توقد ولاتكُ مُحصبًا                      لنارِ العداةِ أن تطيرَ شداتها
وهذا البيت في أبيات له. ويروى "ولاتك محضئًا". قال الشاعر:
حضأت له ناري فأبصر ضوءَها                  وما كان لولا حضأةُ النارِ يهتدي
ابن الزبعرى وما قيل فيه: قال ابن اسحاق: ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبل عبد الله بن الزبعرى السَّهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم؛ فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصَمته، فسلوا محمدًا: أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم عليهما السلام فعجب الوليد، ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم: فذُكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول ابن الزبعرى: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته". فأنزل الله تعالى عليه في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101، 102] أي عيسى ابن مريم، وعزيزًا، ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله.

ص -9-           ونزل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27]. إلى قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29].
ونزل فيما ذكروا من أمر عيسى ابن مريم أنه يعبد من دون الله، وعَجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، أي: يصدون عن أمرك بذلك من قولهم.
ثم ذكر عيسى ابن مريم فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائيلَ، وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}،أي: ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
الأخنس وما أنزل فيه: والأخنس بن شَريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زُهرة، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه، فكان يصيبُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرد عليه؛ فأنزل الله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10، 11] إلى قوله تعالى: {زَنِيمٍ} ولم يقل: {زَنِيمٍ} لعيب في نسبه؛ لأن الله لا يعيب أحدًا بنسب، ولكنه حقق بذلك نعتَه ليُعرف. والزنيم: العديد1 للقوم. وقد قال الخَطِيم التميميُّ في الجاهلية:
زنيمٌ تداعاه الرجال زيادةً
كما زِيدَ في عرضِ الأديمِ الأكارعُ
الوليد وما أنزل فيه: والوليد بن المغيرة، قال: أينْزل على محمد وأترَك وأنا كبير قريش وسيدُها! ويُترك أبو مسعود عمرو بن عُمير الثقفي سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين! فأنزل الله تعالى فيه، فيما بلغني: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] إلى قوله تعالى: {مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
أبي بن خلف وعُقبة بن أبي مُعيط، وما أنزل فيهما: وأبي بن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، وعقبة بن أبي مُعيط، وكانا متصافيين، حَسَنًا ما بينهما. فكان عقبة قد جلس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العديد من يعد في القوم وهو ليس منهم وهو الدعي، فعيل بمعنى مفعول.

ص -10-         إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه، فبلغ ذلك أبيًّا، فأتى عقبة فقال: ألم يبلغني أنك جالستَ محمدًا وسمعت منه! قال: وجهي من وجهك حرام أن أكلِّمَك -واستغلظ من اليمين- إن أنت جلستَ إليه أو سمعت منه، أو لم تأته فتَتْفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي مُعيط لعنه الله فأنزل الله تعالى فيهما: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27] إلى قوله تعالى: {لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 29].
ومشى أبَيُّ بن خلف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعظم بالٍ قد ارْفَتَّ فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرَمَّ1، ثم فتَّه بيده، ثم نفخه في الريح نحوَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك اللهُ النارَ". فأنزل الله تعالى فيه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}.
سورة "الكافرون" وسبب نزولها: واعترض رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يطوف بالكعبة -فيما بلغني- الأسودُ بنُ المطلب بن أسَد بن عبد العُزى، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذَوي أسنان في قومِهم، فقالوا: يا محمد، هلمَّ فلنعبد ما تعبدُ، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظِّنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظِّك منه. فأنزل الله تعالى فيهما:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي إن كنتم لا تعبدون الله، إلا أن أعبد ما تعبدون، فلا حاجة لي بذلك منكم لكم دينكم جميعًا، ولي ديني.
أبو جهل وما نزل فيه: وأبو جهل بن هشام، لما ذكر الله عز وجل شجرةَ الزقوم تخويفًا بها لهم قال: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا؛ قال:
عَجْوة يثرب بالزُّبد، والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها2 تزقمًا. فأنزل الله تعالى فيه:
{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}، أي: ليس كما يقول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أرم: بلي.
2 تزقم: ابتلع.

ص -11-         تفسير لفظ المهل: قال ابن هشام المهل: كل شيء أذبته، من نحاس أو رصاص أو ما أشبه ذلك، فيما أخبرني أبو عُبيدة.
وبلغنا عن الحسن البصري أنه قال: كان عبد الله بن مسعود واليًا لعمر بن الخطاب على بيت مال الكوفة، وأنه أمر يومًا بفضة فأذيبت، فجعلت تَلَوَّنُ ألوانًا، فقال: هل بالباب من أحد؟ قالوا: نعم؛ قال: فأدخلوهم، فأدخلوا فقال: إن أدنى ما أنتم راءون شبهًا بالمهل لهذا. وقال الشاعر:
يسقيه ربي حميمَ المهلِ يجرعُه             يشْوِي الوجوهَ فهو في بطنِه صَهِرُ
ويقال:إن المهل: صديد الجسد.
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي:
فمن عاش منهم عاش عبدًا وِإن يمتْ              ففي النارِ يُسقَى مهلها وصديدها
وهذا البيت في قصيدة له.
بلغنا أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لما حُضر أمر بثوبين لبيسين يغْسَلان فيُكَفن فيهما، فقالت عائشة: قد أغناك الله يا أبت عنهما، فاشترِي كفنًا، فقال: إنما هي ساعة حتى يصير إلى المهل، قال الشاعر:
شابَ بالماءِ منه مُهلًا كَريهًا                      ثم علَّ المتونَ بعدَ النِّهالِ1
قال ابن إسحاق: فأنزل الله تعالى فيه: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
ابن أم مكتوم والوليد وسورة عبس: ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكلمه، وقد طمع في إسلامه، فبينا هو في ذلك، إذ مر به ابنُ أمِّ مكتوم الأعمى، فكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل يستقرئه القرآنَ، فشق ذلك منه على رسول الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شاب: خلط. والعلل: الشرب بعد الشرب، والمتون: الظهور، والنهال: جمع نهل وهو الشرب الأول.

ص -12-         صلى الله عليه وسلم حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه. فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسًا وتركه. فأنزل الله تعالى عليه فيه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}. [عبس: 1، 2] إلى قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 13، 14] أي: إنما بعثتك بشيرًا ونذيرًا، لم أخص بك أحدًا، فلا تمنعْه ممن ابتغاه، ولا تتصدين به لمن لا يريده.
العائدون من أرض الحبشة:
قال ابن إسحاق: وبلغ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين خرجوا إلى أرض الحبشة، إسلامُ أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دَنَوْا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلًا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيًا.
فكان ممن قدم عليه مكةَ منهم، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد معه بدرًا ومن حبس عنه حتى فاته بدر وغيره، ومن مات بمكة منهم من بني عبد شمس بن عبد مناف بن قصي: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، معه امرأته: رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وامرأته سَهلة بنت سُهَيْل.
ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب.
من نوفل: ومن بني نوفل بن عبد مناف: عُتبة بن غَزْوان، حليف لهم، من قيس عيلان.
من أسد: ومن بني أسد بن عبد العزى بن قُصي: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد.
من عبد الدار: ومن بني عبد الدار بن قصي: مُصْعَب بن عُمَير بن هاشم بن عبد مناف، وسُوَيْبط بن سعد بن حريملة.
من عبد: ومن بني عبد بن قصي: طُلَيب بن وهب بن عبد.
من زهرة: ومن بني زهرة بن كلاب: عبدُ الرحمن بن عَوْف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة. والمقداد بن عَمرو، حليف لهم، وعبد الله بن مسعود، حليف لهم.
من مخزوم: ومن بني مخزوم بن يَقَظة: أبو سَلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عَمرو بن مخزوم، معه امرأته: أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وشمَّاس بن عثمان بن الشَّريد بن سُوَيد بن هَرْمِي بن عامر بن مخزوم. وسلمة بن هشام بن المغيرة، حبسه عمه بمكة، فلم يقدم إلا بعد بدر وأحد والخندق، وعَيَّاش بن أبي ربيعة بن المغيرة، هاجر معه إلى المدينة، ولحق به أخواه لأمه: أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام، فرجعا به إلى مكة فحبساه بها حتى مضى بدر وأحد والخندق.

ص -13-         ومن حلفائهم: عمار بن ياسر، يُشَكُّ فيه أكان خرج إلى الحبشة أم لا؟ ومُعَتِّب بن عوف بن عامر من خزاعة.
ومن بني جُمَح بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب: عثمان بن مَظْعون بن حبيب بن وهْب بن حُذافة بن جُمَح. وابنه السائب بن عثمان، وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون.
من سهم: ومن بني سهم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب: خُنَيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وهشام بن العاص بن وائل، حبس بمكة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة حتى قدم بعد بدر وأحد والخندق.
ومن بني عدي بن كعب: عامر بن ربيعة، حليف لهم، معه امرأته: ليلى بنت أبي حَثْمة بن حذافة بن غانم.
ومن بني عامر بن لؤي: عبد الله بن مَخْرمَة بن عبد العُزى بن أبي قيس. وعبد الله بن سُهَيْل بن عمرو، وكان حُبس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين هاجر إلى المدينة، حتى كان يوم بدر، فانحاز من المشركين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشهد معه بدرًا، وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزى، معه امرأته: أم كلثوم بنت سُهيل بن عمرو، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، معه امرأته: سَوْدة بنت زَمْعة بن قيس، مات بمكة قبل هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على امرأته سَوْدة بنت زَمْعة.
ومن حلفائهم: سعد بن خولة.
من الحارث: ومن بني الحارث بن فِهر: أبو عُبَيدة بن الجراح، وهو عامر بن عبد الله بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زُهير بن أبي شداد، وسُهَيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال، وعمرو بن أبي سَرْح بن ربيعة بن هلال.
فجميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلًا.
من دخل مكة بجوار من مهاجري الحبشة: فكان من دخل منهم بجوار، فيمن سُمي لنا: عثمان بن مظعون بن حبيب الجُمحي، دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، دخل بجوار من أبي طالب بن عبد المطلب وكان خاله. وأم أبي سلمة: بُرَّة بنت عبد المطلب.

ص -14-         عثمان بن مظعون يرد جوار الوليد:
قال ابن إسحاق: فأما عثمانُ بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان، قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غُدُوِّي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني، لنقصٌ كبير فيِ نفسي. فمشى إلى الوليد بن المغيرة، فقال له يا أبا عبد شمس، وفتْ ذمتُك، قد رددتُ إليك جوارَك، فقال له: يابن أخي لعله آذاك أحد من قومي؟ قال: لا ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره؟ قال: فانطلق إلى المسجد، فاردد عليَّ جواري علانيةً كما أجرتُك علانية. قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يردَّ عليّ جواري، قال: صدق، قد وجدته وفيًّا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جوارَه، ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ
قال عثمان: صدقت. قال لبيد:
وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة: يا معشر قريش، والله ما كان يُؤذَى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شَرِيَ1 أمرُهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينَه فخضَّرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يابن أخي كانت عينُك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمةٍ منيعة. قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شرى: كثر وزاد.

ص -15-         أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، فقال له الوليد: هلم يابن أخي، إن شئت فعد إلى جوارك، فقال: لا.
أبو سلمة في جوار أبي طالب: قال ابن إسحاق: وأما أبو سَلَمة بن عبد الأسد، فحدثني أبي: إسحاقُ بن يَسار عن سَلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة أنه حدثه: أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب، مشى إليه رجال من بن مخزوم، فقالوا: يا أبا طالب، لقد منعتَ منا ابنَ أخيك محمدًا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي، وإن أنا لم أمنع ابنَ أختي لم أمنع ابنَ أخي، فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، لا تزالون تتواثبون عليه في جوارِه من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كلِّ ما قام فيه، حتى يبلغ ما أراد. قال: فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبةَ، وكان لهم وليًّا وناصرًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبقوا على ذلك، فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو طالب يحرِّض أبا لهب على نُصرتِه ونصرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
وإن امرأً أبو عُتَيْبة عَمُّه                           لفي روضةٍ ما إن يُسامُ المَظالمَا
أقول له، وأين منه نصيحتي                     أبا مُعْتب ثبتْ سوادَك قائمَا1
ولا تقبلنَّ الدهرَ ما عشتَ خُطةً               تُسَب بها إما هَبطت المواسما
وولِّ سبيلَ العجزِ غيرَك منهمُ                   فإنك لم تُخلَقْ على العجزِ لازمًا
وحاربْ فإن الحربَ نُصْف وما ترى              أخا الحربِ يُعطى الخسْفَ حتى يُسالما
وكيف ولم يَجْنُوا عليكَ عظيمةً                 ولم يخذلوك غانمًا أو مُغارِما
جزى اللهُ عنا عبدَ شمسٍ ونَوْفلًا               وتَيْمًا ومخزومًا عُقوقا ومأثما
بتفريقِهم من بعدِ وُد وألفَةٍ                      جماعتنا كيما ينالوا المحارِما
كذبتم وبيتِ الله نُبزَى محمدًا                   ولما تَرَوْا يومًا لدى الشِّعْب قائمًا
قال ابن هشام: نبزى: نسلب. قال ابن هشام: وبقى منها بيت تركناه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سوادك: شخصك.

ص -16-         دخول أبي بكر في جوار ابن الدغنة ثم رده عليه:
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما حدثني محمد بن مُسلم الزهري عن عُروة عن عائشة رضي الله عنهما، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرًا، حتى إذا سار من مكة يومًا أو يومين، لقيه ابن الدُّغُنَّة، أخو بني عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش.
قال ابن إسحاق: والأحابيش: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خُزيمة بن مُدركة، وبنو المصطلق من خزاعة.
قال ابن هشام: تحالفوا جميعًا، فسُموا الأحابيش للحلف.
ويقال: ابن الدّغينة.
قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقال ابن الدُّغُنة: أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي وآذوني، وضيقوا عليَّ، قال: ولمَ؟ فوالله إنك لتَزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتُكعبِ المعدوم1، ارجع فأنت في جواري. فرجع معه، حتى إذا دخل مكة، قام ابن الدُّغنة فقال: يا معشر قريش؛ إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلا لِخير. قالت: فكفوا عنه.
قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جُمَح، فكان يصلي فيه، وكان رجلًا رقيقًا؟ إذا قرأ القرآن استبكى. قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء، يعجبون لما يرَوْن من هيئته. قالت: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدُّغنَّة، فقالوا: يابن الدغنة، إنك تُجِيرُ هذا الرجل ليؤذيَنا! إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكي؛ وكانت له هيئة ونحو؛ فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم؛ فأته فمرْه أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء. قالت: فمشى ابن الدغنة إليه؛ فقال له: يا أبا بكر؛ إني لم أجرْك لتؤذي قومَك؛ إنهم قد كرهوا مكانَك الذي أنت فيه وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك، فاصنع فيه ما أحببت قال: أو أرد عليك جوارَك وأرضى بجوار الله؟ قال فارددْ عليَّ جواري؛ قال: قد رددته عليك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تكسب غيرك ما هو معدوم عنده.

ص -17-         قالت: فقام ابن الدُّغنَّة، فقال، يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد ردَّ عليَّ جواري فشأنكم بصاحبكم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدُ الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد، قال: لقيه سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه ترابًا. قال: فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل. قال: فقال أبو بكر: ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلتَ ذلك بنفسك. قال: وهو يقول: أي رب، ما أحلمك! أي رب، ما أحلمك! أي رب، ما أحلمك!
حديث نقض الصحيفة:
قال ابن إسحاق: وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش علي بني هاشم وبني المطلب نفرٌ من قريش، ولم يُبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حُبيب بن نصر بن جُذَيمة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نَضْلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، فكان هشام لبني هاشم واصلًا، وكان ذا شرف في قومه، فكان -فيما بلغني- يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشِّعْب ليلًا، قد أوقره طعامًا حتى إذا أقبل به فم الشِّعْب خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه، فيدخل الشِّعْب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بزًا أو برًا، فيفعل به مثل ذلك.
قال ابن إسحاق: ثم إنه مشى إلى زُهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم. وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زُهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثيابَ، وتَنكح النساء، وأخوالُك حيث قد علمتَ، لا يُباعون ولا يُبتاع منهم، ولا يَنكحون ولا يُنكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوالَ أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا، قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضِها حتى أنقضَها، قال: قد وجدت رجلًا قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال له زُهير: أبغنا رجلًا ثالثًا.
فذهب إلى المطْعِم بن عدي، فقال له: يا مُطعم أقد رضيتَ أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها

ص -18-         منكم سراعًا، قال ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال: أبغنا ثالثًا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زُهَير بن أبي أمية، قال أبغنا رابعًا.
فذهب إلى البَخْتري بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمُطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زُهير بن أبي أمية، والمطم بن عدي، وأنا معك، قال أبغنا خامسًا.
فذهب إلى زَمْعَة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقَّهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم،ثم سمَّى له القوم.
فاتَّعدوا خطم الحجون1 ليلًا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك. فأجمعوا أمرَهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زُهير: أنا أبدؤكم، فأكون أولَ من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زُهير بن أبي أمية عليه حُلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهلَ مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثيابَ، وبنو هاشم هلْكَى لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعدُ حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل: وكان في ناحية المسجد: كذبتَ والله لا تُشق، قال زَمْعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيثُ كُتبت، قال أبو البختري: صدق زَمعة، لا نرضى ما كُتب فيها، ولا نقرّ به، قال المطعِم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كُتب فيها، قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قُضِيَ بليلٍ، تَشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطْعِم إلى الصحيفة ليشقَّها، فوجد الأرَضَة قد أكلتها، إلا "باسمك اللهم".
وكان كاتب الصحيفة منصور2 بن عكرمة. فشُلت يده فيما يزعمون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخطم: المقدمة. والحجون: موضع بأعلى مكة.
2 وللنساب من قريش في كاتب الصحيفة هو: بغيض بن عامر بن هشام بن عبد الدار، والقول الثاني: أنه منصور بن عبد شرحبيل بن هشام من بني عبد الدار أيضًا -انظر: "الروض الأنف، ج2 ص127".

ص -19-         قال ابن هشام: وذكر بعضُ أهل العلم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي طالب: يا عم؛ إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدعْ فيها اسْمًا هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان؛ فقال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم، قال: فوالله ما يدخل عليك أحدٌ، ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلمّ صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبًا دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك. ثم نظروا. فإذا هي كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فزادهم ذلك شرًّا. فعند ذلك صنع الرهْط من قريش في نقض الصحيفةِ ما صنعوا1.
قال ابن إسحاق: فلما مُزقت الصحيفة وبطل ما فيها. قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم:
ألا هل أتى بَحْرِيَّنا صُنْعُ ربنا على                     نأيهم واللهُ بالناسِ أرْوَدُ2
فيخبرهم أن الصحيفةَ مُزقت وأنْ كلُّ                 ما لم يَرْضه الله مُفسِد
تراوحها إفك وسحر مجمَّعٌ                               ولم يُلفَ سِحر آخر الدهر يَصْعَد
تداعى لها من ليس فيها بقرقر                        فطائرها في رأسها يتردد3
وكانت كفاء رقعة بأثيمة                                  ليقطع منها ساعد ومقلد4
ويَظْعنُ أهلُ المكَّتين فيهربوا                            فرائصُهم من خشيةِ الشرِّ تَرْعَد
ويُتْرَك حَرَّات يقلب أمرَه                                  أيتهِم منهم عند ذاك ويُنجِدُ5
وتصعد بين الأخْشَبَيْن كتيبةٌ                           لها حُدُج سهم وقوس ومِرْهد6
فمن يَنَش من حضَّار مكة عزه                         فعِزتنا في بطن مكة أتلدُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويذكر في الصحيح ما أصاب المسلمين من الجهد حتى إنهم كانوا يأكلون ورق السمر والجلود اليابسة وكل ما اتصل إليه أيديهم أي شيء كان.
2 بحرينا: يعني الذين بأرض الحبشة، نسبهم إلى البحر لركوبهم إياه. أود: أي: أرفق.
3 القرقر: الذليل.
4 المقلد: العنق.
5 الحراث المكتسب.
6 الحدج: الحمل. والمرهد: الناعم أي السيف الناعم بالري من الدماء.

ص -20-                                            نشأنا بها والناسُ فيها قلائل            فلم ننْفكك نزداد خيرًا ونُحمد
ونُطعم حتى يترك الناسُ فضلَهم                 إذا جعلت أيدي المُفيضين ترعَد1
جزى الله رهطًا بالحَجون تتابعوا                   على ملإِ يهدي لحزم ويُرشِد
قُعودًا لدى خَطْمِ الحَجون كأنهم                   مقاولةٌ بل هم أعزُّ وأمجدُ2
أعان عليها كلُّ صقر كأنه                           إذا ما مشى في رَفْرفِ الدرعِ أحردُ3
جرى على جُلَّى الخطوبِ كأنه                    شِهاب بكَفّيْ قابسٍ يتوقدُ4
من الأكرمين من لُؤيِّ بن غالب                   إذا سِيم خسفًا وجهُه يتربَّدُ
طويلُ النِّجاد خارجٌ نصف ساقِه                    على وجهِه يُسْقَى الغَمامُ ويُسْعَد
عظيمُ الرمادِ سيدٌ وابنُ سيدٍ                      يَحُضُّ على مَقرَى الضيوفِ ويحْشِدُ
ويبني لأبناءِ العشيرةِ صالِحًا                       إذا نحن طُفنا في البلادِ ويَمْهَدُ
ألَظَّ بهذا الصِلح كل مُبرإ                             عظيم اللواء أمره ثَمَّ يُحمدُ5
قَضَوْا ما قَضَوْا في ليلهم ثم أصبحوا              على مَهَلٍ وسائر الناس رُقَّدُ
همُ رَجعوا سهلَ بنَ بيضاء راضيًا                  وسُر أبو بكر بها ومحمدُ
متى شُرك الأقوامُ في جُل أمرِنا                  وكنا قديمًا قبلَها نتوددُ
وكنا قديمًا لا نقِرُّ ظلامةً                             وندرك ما شئنا ولا نتشددُ
فيا لَقُصيُّ هل لكم في نفوسِكم                 وهل لكم فيما يجيءُ به غد
فإني وإياكم كما قال قائل                           لديك البيانُ لو تكلمت أسودُ6

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المفيضون: الضاربون بقداح الميسر.
2 المقاولة: الملوك.
3 رفرف الدرع: ما فضل منه. والأحرد بطيء المشي لثقل ما عليه من لباس الحرب.
4 الجلى: الأمر العظيم.
5 ألظ: ألح.
6 أسود اسم جبل كان قد قتل فيه قتيل، فلم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول هذه المقالة فذهبت مثلًا. "الروض الأنف، 2/ 129".
ص -21-         وقال حسان بن ثابت: يبكي المطْعِم بن عدي حين مات، ويذكر قيامه في نقض الصحيفة:
أيا عينُ فابكي سيدَ القومِ واسفحي               بدمعٍ وإن أنزَفْتِه فاسكبي الدمَا
وبكِّي عظيمَ المُشعرين كليْهما                      على الناس معروفًا له ما تكلما
فلو كان مجدٌ يُخلد الدهرَ واحدًا                       من الناسِ، أبقى مجدُه اليومَ مُطْعِمَا
أجرتَ رسولَ الله منهم فأصبحوا                      عبيدَك ما لي مُهلّ وأحْرَمَا
فلو سُئلتْ عنه مَعَدٌّ بأسرِها                          وقحطانُ أو باقي بقيةِ جُرْهُمَا
لقالوا هو الموفِي بخُفْرَةِ جاره                        وذمتُه يومًا إذا ما تذمَّما1
فما تطلعُ الشمسُ المنيرةُ فوقَهم                   على مثلِه فيهم أعَزَّ وأعظمَا
وآبَى إذا يأبى وألْينَ شيمة                            وأنومَ عن جار إذا الليلُ أظلما
قال ابن هشام: قوله "كليهما" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن هشام: وأما قوله: "أجرْت رسول الله منهم"، فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، من تصديقه ونصرته، صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سُهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. فبعث إلى المطْعِم بن عدي فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهلُ بيته، وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله. فذلك الذي يعني حسان بن ثابت.
قال ابن إسحاق: وقال حسانُ بن ثابت أيضًا: يمدح هشام بن عمرو لقيامه في الصحيفة:
هل يُوفينَّ بنو أميةَ ذمةً                           عَقْدًا كما أوْفَى جِوارُ هشام
من معشر لا يَغْدِرون بجارِهم                    للحارث بن حُبَيِّب بن سُحَام
وإذا بنو حِسْلٍ أجاروا ذمةً                         أوفَوْا وأدَّوْا جارَهم بسلاَمَ
وكان هشام أحد سُحام.
قال ابن هشام: ويقال: سخام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخفرة: العهد.

ص -22-         إسلام الطفيل بن عمرو الدَّوْسي:
قريش تحذره من استماعه للرسول: قال ابن إسحاق: وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على ما يرى من قومه، يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه. وجعلت قريش، حين منعه الله منهم يحذِّرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب.
وكان الطُّفَيْل بن عَمرو الدوسي يحدث: أنه قدم مكةَ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطُّفيل رجلًا شريفًا شاعرًا لبيبًا، فقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادَنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضَل بنا1، وقد فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنما قوله كالسحرِ يفرِّق بين الرجلِ وبينَ أبيه، وبينَ الرجلِ وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجتِه، وإنا نخشى عليك وعلى قومِك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنَّه ولا تسمعنَّ منه شيئًا.
استماعه للرسول -صلى الله عليه وسلم: قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعتُ ألا أسمع منه شيئًا ولا أكلمه، حتى حشوتُ في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا2 فَرَقًا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أَسمعَه. قال: فغدوْت إلى المسجدِ، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ يصلي عند الكعبة. قال: فقمت منه قريبًا، فأبى الله إلا أن يسمعني بعضَ قولِه. قال: فسمعت كلامًا حَسَنًا. قال: فقلتُ في نفسي: واثُكْلَ أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليَّ الحسنُ من القبيح، فما يمنعني أن أسمعَ من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته.
قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومَك قد قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا؛ فوالله ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أعضل: اشتد أمره.
2 الكرسف: القطن.

ص -23-         بَرحوا يخوِّفونني أمرَك حتى سَددت أذني بكُرْسُف لئلا أسمعَ قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعني قولَك، فسمعته قولًا حسنًا، فاعرض عليَّ أمرَك. قال: فعرض عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلامَ، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولًا قطُّ أحسنَ منه، ولا أمرًا أعدلَ منه. قال: فأسلمتُ وشهدت شهادة الحقِّ، وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاعٌ في قومي وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإِسلام، فادعُ الله أن يجعلَ لي آيةً تكون لي عونًا عليهم فيما أدعوهم إليه فقال: اللهم اجعلْ له آيةً.
آية للطفيل ليصدقه قومه: قال: فخرجتُ إلى قومي، حتى إذا كنت بِثَنيَّة1 تُطلعني على الحاضر2 وقع نور بين عينيَّ مثل المصباح؛ فقلت: اللهم في غير وجهي، إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلةٌ وقعتْ في وجهي لفراقي دينَهم قال: فتحول فوقع في رأس سوطي. قال: فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سَوْطي كالقنديل المعلَّق، وأنا أهبط إليهم من الثَّنيةِ، قال: حتى جئتُهم فأصبحتُ فيهم.
إسلام والد الطُّفيل وزوجه: قال: فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخًا كبيرًا، قال: فقلت: إليكَ عني يا أبت، فلستُ منك ولستَ مني قال: ولم يا بني؟ قال: قلت: أسلمتُ وتَابعت دين محمد -صلى الله عليه وسلم: قال: أي بني، فديني دينُك؛ قال: فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت. قال: فذهب فاغتسل، وطهر ثيابه. قال: ثم جاء فعرضت عليه الإسلام، فأسلم.
قال: ثم أتتني صاحبتي، فقلتُ: إليك عني، فلستُ منك ولستِ مني؟ قالت: لم؟ بأبي أنت وأمي؟ قال: قلت: قد فرق بيني وبينَك الإِسلامُ، وتابعتُ دينَ محمد -صلى الله عليه وسلم- قالت: فديني دينك؛ قال: قلت: فاذهبي إلى حِنَا ذِي الشَّرَى -قال ابن هشام: ويقال: حِمَى ذي الشَّرَى- فتطهري منه.
قال: وكان ذو الشرى صنمًا لدوس، وكان الحمى حمى حموه له، وبه وَشَل3 من ماء يهبط من جبل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الثنية: ما انفرج بين الجبلين.
2 الحاضر: القبيلة النازلة على الماء.
3 الوشل: الماء القليل.

ص -24-         قال: فقالت: بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصِّبْية من ذي الشرى شيئًا؟ قال: قلت: لا، أنا ضامن لذلك، فذهبتْ فاغتسلت، ثم جاءت فعرضتُ عليها الإِسلام، فأسلمت.
ثم دعوت دَوْسًا إلى الإِسلام، فأبطئوا عليَّ، ثم جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة فقلت له: يا نبي الله، إنه قد غلبني على دوس الزِّنا، فادعُ الله عليهم؟ فقال: اللهم اهدِ دوسًا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم. قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإِسلام حتى هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دَوْس، ثم لحقنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين.
ثم لم أزل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا فتح الله عليه مكة، قال: قلت يا رسول الله، ابعثني إلى ذي الكفين، صنم عَمرو بن حُمَمة حتى أحرقه.
إحراق صنم ذي الكفين: قال ابن إسحاق: فخرج إليه، فجعل طفيل يوقد عليه النار ويقول:
يا ذا الكفين لستُ من عبادِكا                      ميلادُنا أقدمُ من ميلادِكا2
إني حشوتُ النارَ في فؤادِكا
قال: ثم رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان معه بالمدينة حتى قبض اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- فلما ارتدت العرب، خرج مع المسلمين، فسار معهم حتى فرغوا من طُلَيْحة، ومن أرض نجد كلها. ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة، ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة، فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبرُوها لي، رأيت أن رأسي حُلق، وأنه خرج من فمى طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجِها، وأرى ابني يطلبني حثيثًا ثم رأيته حُبس عني؛ قالوا: خيرًا؛ قال: أما أنا والله فقد أولتها: قالوا: ماذا؟ قال: أما حلق رأسي فوضعه، وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني فرجها فالأرض تُحفر لي، فأغيب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني. فقُتل رحمه الله شهيدًا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل3 منها، ثم قتل عام اليرموك في زمن عمر رضي الله عنه شهيدًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الزنا: لهو مع شغل القلب.
2 خفف الكفين لضرورة الشعر.
3 استبل: شفى.

ص -25-         قصة أعشى بني قيس بن ثعلبة:
قدومه على الرسول ومدحه: قال ابن هشام: حدثني خلاد بن قُرَّة بن خالد السُّدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم: أن أعشى بني قيس بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، خرج إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الإسلام، فقال يمدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
ألم تغتمضْ عيناك ليلةَ أرمدَا                 وبِتَّ كما بات السليمُ مُسهَّدَا1
وما ذاك من عشقِ النساءِ وإنما             تناسيتَ قبلَ اليوم خلةَ مهدداَ2
ولكن أرى الدهرَ الذي هو خائن              إذا أصلحتْ كفاي عاد فأفسدَا
كُهولًا وشبانا فقدت وثروة                      فللّهِ هذا الدهرُ كيف ترددَا
وما زلت أبغي المالَ مذ أنا يافع              وليدًا وكهلًا حين شبتُ وأمْردَا
وأبتذلُ العِيسَ المراقيلَ تُغْتلي               مسافةَ ما بينَ النُّجَيْر فصَرْخَدا3
ألا أيهذا السائلي أين يَمَّمتْ                 فإن لها في أهلِ يثربَ مَوْعدَا
فإن تسألي عني فيا رُبّ سائلٍ             حَفِي عن الأعشى به حيثُ أصعدا
أجدَّتْ برجليها النجاءَ وراجعتْ                يداها خِنافًا لينًا غيرَ أحْردَا4
وفيها إذا ما هجَّرَت عَجْرَفِيَّة                   إذا خِلْتَ حَرْباءَ الظهيرةِ أصْيدَا5
فآليتُ لا أرثي لها من كُلالةٍ                   ولا من حَفى حتى تُلاقي محمدَا6

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأرمد: من يشتكي الرمد. والسليم: الملدوغ، والمسهد الذي منع من النوم.
2 مهدد: اسم امرأة.
3 العيس: نوع من الإبل البيض التي تخالطها حمرة. والمراقيل: السريعة. وتغتلي: تتسابق.. والنجير والصرخة: مكانان بعينهما.
4 والنجاء: ضرب من السرعة. والخناف: لوي يديها في السير نشاطًا والأجرد الذي يبطئ في السير.
5 هجرت: مشت في الهاجرة وهي الظهيرة. والعجرفية: التي لا تهاب شيئًا. والحرباء: دويبة يدور وجهها مع الشمس أنا دارت والأصيد: المائل العنق.
6 أرثى: أشفق.

ص -26-                                               متى ما تُنَاخِي عندَ بابِ ابنَ هاشم           تُراحي وتَلْقَى من فواضلِه نَدَى
نبيًّا يرى ما لا تروْن وذِكْرُه                              أغار لَعَمْرِي في البلادِ وأنْجدَا
له صدقات ما تغِبُّ ونائِل                                وليس عطاءُ اليومِ مانعَه غدَا
أجِدُّك لم تسمعْ وَصَاةَ محمدٍ                          نبيّ الإِلهِ حيثُ أوْصَى وأشْهدَا
إذا أنت لم ترحلْ بزادٍ من التُّقَى                      وِلاقيْتَ بعدَ الموتِ من قَد تَزَوَّدَا
ندمتَ على ألا تكونَ كمثلِه                           فتُرْصِدُ للموتِ الذي كان أرْصَدا1
فإياك والميتَاتِ لا تقربنَّها                               ولا تأخذَنْ سهمًا حديدًا لتُفْصِدَا
ولا النَّصَب المنصوب لا تنسكُنَّه                      ولا تعبد الأوثانَ والله فاعبدا2
ولا تَقْرَبنْ حُرَّةً كان سِرُّها                              عليك حرامًا فانْكَحَنْ أو تأبدَا3
وذا الرحِمِ القُرْبَى فلا تَقْطعَنَّه                         لعاقبةٍ ولا الأسير المقيَّدَا
وسبِّح على حينِ العشياتِ والضُّحَى               ولا تَحْمَدِ الشيطانَ والله فاحمدَا
ولاتسْخرَنْ من بائسٍ ذي ضَرارَةٍ                      ولا تحسَبَنَّ المالَ للمرءِ مُخلِدَا4
نهاية الأعشى: فلما كان بمكة أو قريبًا منها، اعترضه بعضُ المشركين من قريش، فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسلم، فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرِّم الزنا، فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرَب، فقال له: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر، فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في النفس منها لعُلالات، ولكني منصرف فأتروَّى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسْلم5، فانصرف فمات في عامه ذلك، ولم يَعُدْ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أرصد: أعد.
2 وقف على النون الخفيفة بالألف ولذلك كتبت في الخط بالألف والوقف عليها بالألف وقيل إنه لم رد النون الخفيفة، وإنما خاطب الواحد بخطاب الاثنين.
3 تأبد: بعد عن النساء.
4 ضرارة ضرورة.
5 قال السهيلي: وهذه غفلة من ابن هشام، ومن قال بقوله: فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بالمدينة بعد أن مضت بدر وأحد، وحرمت في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل؛ وفي الصحيحين من ذلك قصة حمزة حين شربها، وغنته القينتان: ألا يا حمز، للشرف النواء، فبقر خواصر الشارفين، واجتب أسنمتها. فإن صح خبر الأعشى، وما ذكر له في الخمر، فلم يكن هذا بمكة، وإنما كان بالمدينة، ويكون القائل له: أما علمت أنه جرم الخمر، من المنافقين، أو من اليهود، فالله أعلم: وفي القصيدة ما يدل على هذا قوله: فإن لها في أهل يثرب موعدًا، وقد ألفيت للقالي رواية عن أبي عبيدة قال: لقي الأعشى عامر بن الطفيل في بلاد قيس، وهو مقبل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر له أنه يحرم الخمر، فرجع، فهذا أولى بالصواب.
ص -27-         أبو جهل يُذل للرسول: قال ابن إسحاق: وقد كان عدو الله أبو جهل بن هشام مع عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبغضه إياه، وشدته عليه، يُذلُّه اللهُ له إذا رآه.
أبو جهل والإِراشي:
قال ابن إسحاق: حدثني عبدُ الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثقفي، وكان واعيةً، قال: قدم رجل من إِرَاش -قال ابن هشام: ويقال إراشة- بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها. فأقبل الإراشي حتى وقف على نادٍ من قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش، من رجل يؤديني1 على أبي الحكم بن هشام فإني رجل غريب، ابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ قال: فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس –لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يهزءون به لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فإنه يؤديك عليه.
فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قِبَلَه، وأنا رجل غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه، يأخذ لي حقي منه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه، يرحمك الله؛ قال: انطلقْ إليه، وقام معه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأوه قام معه. قالوا لرجل ممن معهم: اتبعْه، فانظر ماذا يصنع.
قال: وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جاءه فضرب عليه بابه. فقال: من هذا؟ قال: محمد، فاخرج إليَّ، فخرج إليه وما في وجهه من رائحة2، قد انتُقع لونُه، فقال: اعط هذا الرجل حقه؛ قال: نعم، لا تبرحْ حتى أعطيَه الذي له، قال: فدخل، فخرج إليه قال: ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال للإراشي: الْحَق بشأنك، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد والله أخذ لي حقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يؤديني: يساعدني على استرداد حقي.
2 ليس فيه قطرة دم.

ص -28-         قال: وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا: ويحك! ماذا رأيت؟ قال عجبًا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابَه، فخرج إليه وما معه روحُه فقال له: أعط هذا حقه فقال: نعم، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه. فدخل فخرج إليه بحقه، فأعطاه إياه. قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا: ويلك! ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قطُّ! قال: ويحكم والله ما هو. إلا أن ضرب عليَّ بابي، وسمعت صوته، فملئت رعبًا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلًا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قَصَرته، ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني.
أمر ركانة المطلبي ومصارعته النبي، صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي: إسحاق بن يسار قال: كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن أشد قريش؛ فخلا يومًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ياركانة، ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك؛ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتك؛ أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم قال: فقم حتى أصارعك. قال: فقام إليه ركانة يصارعه فلما بطش به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أضجعه، وهو لا يملك من نفسه شيئًا، ثم قال: عد يا محمد، فعاد فصرعه، فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب أتصرعني؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه، إن اتقيت الله واتبعت أمري؛ قال: ما هو؟ قال: أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني، قال: ادعها، فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فقال لها ارجعي إلى مكانك. قال: فرجعت إلى مكانها.
قال: فذهب رُكانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف، ساحروا بصاحبكم أهلَ الأرض، فوالله ما رأيت أسحر منه قَطُّ، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.
قدوم وفد النصارى من الحبشة:
أبو جهل يحاول ردهم عن الإسلام: قال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص -29-         عما أرادوا دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسُكم عندَه، حتى فارقتم دينَكم وصدقتموه بما قال، ما نعلم ركْبًا أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نألُ أنفسَنا خيرًا.
ويقال: إن النفر من النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان. فيقال والله أعلم فيهم نزلت هؤلاء الآيات:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 52، 53]. إلى قوله: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
قال ابن إسحاق: وقد سألت ابنَ شهاب الزهريَّ عن هؤلاء الآيات فيمن أنزلن فقال لي: ما أسمع من علمائنا أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه. والآية من سورة المائدة من قوله:
{ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]. إلى قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس في المسجد، فجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خَبَّاب، وعمار، وأبو فَكيهة يسار مولى صفوان بن أمية بن مُحرّث، وصُهَيب، وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه، كما ترون؟ أهؤلاء مَنَّ اللهُ عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:
{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ، وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى مَبْيَعة غلام نصراني، يقال له: جبر، عبد لبني الحضرمي، فكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا

ص -30-         مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحَضْرمي، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.[النحل: 103].
قال ابن هشام: يُلحِدون إليه: يميلون إليه. والإلحاد: الميل عن الحق.
قال رؤبة بن العَجَّاج:
إذا تَبع الضحاكَ كُلُّ مُلْحِدِ
قال ابن هشام: يعني الضحاك الخارجي، وهذا البيت في أرجوزة له.
سبب نزول سورة الكوثر
قال ابن إسحاق: وكان العاص بن وائل السَّهْمي فيما بلغني إذا ذُكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عَقِب له لو مات لانقطع ذكرُه واسترحتم منه، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ما هو خير لك من الدنيا وما فيها والكوثر: العظيم.
معنى الكوثر: قال ابن إسحاق: قال لَبيد بن ربيعة الكلابي:
وصاحبُ مَلْحوبٍ فُجعنا بيومِه
وعندَ الرداعِ بيتُ آخر كوثر
يقول: عظيم.
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له. وصاحبُ ملحوبٍ: عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، مات بملحوب. وقوله: "وعند الرداع بيت آخر كوثر": يعني شُرَيح بن الأحْوص بن جعفر بن كلاب، مات بالرّداع. وكوثر: أراد: الكثير. ولفظه مشتق من لفظ الكثير. قال الكُميت بن زيد يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:
وأنت كثير يابنَ مروان طيب
وكان أبوك ابنَ العقائل كوْثرا

ص -31-         وهذا البيت في قصيدة له. وقال أمية بن أبي عائذ الهُذلي يصف حمار وحش:
يُحامي الحَقيقَ إذا ما احتدَمْن                  وحَمْحَمْنَ في كوثر كالجِلال1
يعني بالكوثر: الغبار الكثير، شبهه لكثرته عليه بالجلال. وهذا البيت في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: حدثني جعفر بن عمرو قال ابن هشام: هو جعفر بن عمرو بن أمية الضمْري عن عبد الله بن مسلم أخي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له يا رسول الله: ما الكوثر الذي أعطاك الله؟ قال:
"نهر كما بين صنعاء إلى أيْلة، آنيته كعدد نجوم السماء، ترده طيور لها أعناق كأعناق الإبل". قال: يقول عمرُ بن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة، قال: آكلُها أنعم منها.
قال ابن إسحاق: وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال صلى الله عليه وسلم: من شرب منه لا يظمأ أبدًا.
نزول:
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8].
قال ابن إسحاق: ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومَه إلى الإِسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال زَمَعَة بن الأسود، والنضْر بن الحارث، والأسود بن عبد يَغوث، وأبيُّ بن خلف، والعاص بن وائل: لو جُعل معك يا محمد مَلَك يحدث عنك الناس ويُرَى معك! فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9].
نزول:
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني بالوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف وبأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزءوا به، فغاظه ذلك. فأنزل الله تعالى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحقيق: ما يجب أن يحميه الإنسان ويريد هنا حماية أتنه، والاحتدام سرعة الجري. والجلال: ما تلبسه الدواب لحمايتها.

ص -32-         عليه في ذلك من أمرهم: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10].
ذكر الإِسراء والمعراج:
قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: ثم أسْري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام، بمكة في قريش، وفي القبائل كلها.
قال ابن إسحاق: كان من الحديث فيما بلغني عن مَسراه صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وعائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعاوية بن أبي سفيان، والحسن بن أبي الحسن البصري، وابن شهاب الزهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدِّث عنه بعض ما ذكر من أمرِه حين أسرى به صلى الله عليه وسلم، وكان في مسراه، وما ذكر عنه بلاء وتمحيص، وأمْر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه، فيه عِبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين، فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرتِه التي يَصنعُ بها ما يريد.
رواية ابن مسعود عن الإسراء: فكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول:
أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبراق وهى الدابة التي كانت تُحمل عليها الأنبياء قبلَه، تضع حافرَها في منتهى طرفِها فحُمل عليها، ثم خرج به صاحبُه، يرى الآياتِ فيما بين السماءِ والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيمَ الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جُمعوا له، فصلى بهم. ثم أتي بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فسمعت قائلا يقول حين عُرضتْ علي: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمتُه، وإن أخذ الخمر غَوي وغَوتْ أمتُه، وإن أخذ اللبن هُدِيَ وهُديت أمتُه". قال: "فأخذتُ إناء اللبن، فشربت منه، فقال لي جبريل عليه السلام: هُديتَ وهُدِيت أمتُك يا محمد".
رواية الحسن: قال ابن إسحاق: وحُدثت عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص -33-         "بينا أنا نائم في الحِجْر، إذ جاءني جبريل، فهمزني بقدمه، فجلست فلم أرَ شيئًا فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثانيةَ فهمزني بقدمه، فجلست، فلم أر شيئًا، فعدت إلى مضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست، فأخذ بعضدي، فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز1 بهما رجله، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته".
رواية قتادة: قال ابن إسحاق: وحُدثتُ عن قتادة أنه قال: حُدثت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لما دنوت منه لأركبه شمس2، فوضع جبريل يده على مَعْرفته، ثم قال: ألا تستحى يا براق3 مما تصنع، فوالله ما ركبك عبد للهِ قبل محمد أكرم عليه منه". قال: "فاستحيا حتى ارفضَّ4 عرقا، ثم قرَّ حتى ركبته".
عودة إلى رواية الحسن: قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومضى جبريل عليه السلام معه، حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمَّهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى بهم، ثم أتي بإناءين، في أحدهما خمر، وفى الآخر لبن. قال: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إناء اللبن، فشرب منه، وترك إناء الخمر. قال: فقال له جبريل: هُديت للفطرة، وهُديَتْ أمتك يا محمد، وحُرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر. فقال أكثر الناس: هذا والله الإِمْر5 البين، والله إن العير لتطرد، شهرًا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرًا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة؟! قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. قال: فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه؛ فقالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحفز: الدفع.
2 شمس: حرن.
3 وإنما نفر لبعد عهد البراق بركوب الأنبياء.
4 ارفضّ: سال.
5 الإمر: العجيب.

ص -34-         الناس؛ فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله. أحدَّثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: "نعم"؛ قال: يا نبي الله، فصفه لي، فإني قد جئته قال الحسن: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فرفع لي حتى نظرت إليه" فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئًا، قال صدقت، أشهد أنك رسول الله، حتى إذا انتهى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر الصِّدِّيقُ؛ فيومئذ سماه الصديق.
قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك:
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
فهذا حديث الحسن عن مَسرَى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وما دخل فيه من حديث قتادة.
رواية عائشة: قال ابن إسحاق: وحدثني بعض آل أبي بكر: أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن الله أسرى بروحه.
رواية معاوية: قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة.
الإسراء رؤيا: فلم ينكر ذلك من قولهما، لقول الحسن: إن هذه الآية نزلت في ذلك، قول الله تبارك وتعالى:
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، ولقول الله تعالى في الخبر عن إبراهيم عليه السلام إذ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي من الله يأتي الأنبياء أيقاظًا ونيامًا.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني يقول: تنام عيناي وقلبي يقظان. والله أعلم أي ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه ما عاين، من أمر الله، على أي حاليه كان نائمًا، أو يقظان، كل ذلك حق وصدق.

ص -35-         وصفه صلى الله عليه وسلم إبراهيم وموسى وعيسى: قال ابن إسحاق: وزعم الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصف لأصحابه إبراهيمَ وموسى وعيسى حين رآهم في تلك الليلة، فقال: "أما إبراهيمُ، فلم أر رجلًا أشبه قط بصاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه؛ وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى1 كأنه من رجال شنوءة2؛ وأما عيسى ابن مريم، فرجل أحمر، بين القصير والطويل، سبط الشعر، كثير خيلان3 الوجه، كأنه خرج من ديماس4: تخال رأسه يقطر ماء، وليس به ما أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفي".
علي يصف الرسول صلى الله عليه وسلم: قال ابن هشام: وكانت صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر عمر مولى غفرة عن إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام: إذا نعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لم يكن بالطويل الممغَّط5، ولا القصير المتردِّد، وكان رَبْعة من القوم، ولم يكن بالجعْد القطط6 ولا السبط: كان جعدًا رجلًا7، ولم يكن بالمطهَّم8 ولا المكلثم9. وكان أبيض مشربا: أدعج10 العينين، أهدب الأشفار11، جليل المشاش والكتد12، دقيق المسربة13، أجرد14، شثن15 الكفين والقدمين: إذا مشى. تقلع16، كأنما يمشى في صبب، وإذا التفت التفت معًا. بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين. أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضرب: خفيف اللحم والجعد المتكسر الشعر والأقنى المرتفع الأنف.
2 شنوءة: قبيلة.
3 الخيلان: الشامات السوداء.
4 الديماس: الحمام.
5: الممغط: الممتد.
6 القطط: الشديد خشونة الشعر.
7 رجلا: مسرح الشعر.
8 المطهم: كثير اللحم.
9 المكلثم: المستدير الوجه.
10 الدعج: سواد العيون.
11 أهدب الأشفار: طويلها.
12 المشاش: عظام رءوس المفاصل والكتد ما بين الكتفين.
13 المسربة: الشعر الممتد من الصدر إلى السرة.
14 الجرد: قلة شعر الجسم.
15 شثن: غليظ.
16 تقلع لم يثبت قدميه.

ص -36-         رواية أم هانئ عن الإسراء: قال محمد بن إسحاق: وكان فيما بلغني عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، واسمُها هند، في مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أنها كانت تقول ما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وهو في بيتي: نائم عندي تلك الليلة في بيتي، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبَّنا1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما صلى الصبح وصلينا معه، قال: يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين، ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه، فتكشف عن بطنه كأنه قبطية2 مطوية، فقلت له: يا نبي الله: لا تحدث بهذا للناس فيكذبوك ويؤذوك؛ قال: والله لأحدثنهموه. قالت: فقلت لجارية لي حبشية: ويحك اتبعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى تسمعي ما يقول للناس، وما يقولون له. فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس أخبرهم، فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط؛ قال: "آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فندَّ لهم بعير، فدللتهم عليه، وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان3 مررت بعير بني فلان: فوجدت القوم نيامًا، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه. ثم غطيت عليه كما كان؛ وآية ذلك أن عيرهم الآن يصوِّب4 من البيضاء، ثنية التنعيم، يقدمها جمل أورق، عليه غرارتان: إحداهما سوداء، والأخرى برقاء". قالت: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل5 كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءًا ماءً ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغصَّ كما غطوه، ولم يجدوا فيه ماء. وسألوا الآخرين وهم بمكة، فقالوا: صدق والله، لقد أنفرنا في الوادي الذي ذكر، وندّ لنا بعير فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه، حتى أخذناه.
قصة المعراج:
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يصعد إلى السماء الأولى: وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أتي بالمعراج، ولم أر شيئًا قط أحسن منه: وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حُضر؟ فأصعدني صاحبي فيه؛ حتى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أيقظنا.
2 القبطية: ثياب تنسج بمصر من الكتان.
3 جبل يبعد عن مكة حوالي 40 كيلو متر.
4 يصوب: ينزل. البيضاء: مكان قرب مكة.
5 أي كان الجمل المذكور أول ما لقيهم.

ص -37-         انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له: باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة، يقال له: إسماعيل، تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك"، قال: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حَدَّث بهذا الحديث: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] "فلما دُخل بي قال: من هذا يا جبريل؟ قال: محمد. قال: أوَقد بُعث؟ قال: نعم. قال: فدعا لي بخير: وقاله".
صفة مالك خازن النار:
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكًا مستبشرًا، يقول خيرًا ويدعو به حتى لقيني ملك من الملائكة، فقال مثل ما قالوا، ودعا بمثل ما دعوا به، إلا أنه لم يضحك، ولم أر منه البشر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت من غيره؟" قال: "فقال لي جبريل: أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكًا إلى أحد بعدك، لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك صاحب النار".
من صفات جهنم أعاذنا اللهّ منهما: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"فقلت لجبريل، وهو من الله تعالى بالمكان الذي وُصف لكم: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 31] ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال: بلى، يا مالك، أرِ محمدًا النار". قال: "فكشف عنها غطاءها"، فقال: "ففارت وارتفعت، حتى ظننت لتأخذن ما أرى". قال: "فقلت لجبريل يا جبريل، مره فليردها إلى مكانها". قال: "فأمره، فقال لها: اخْبِى، فرجعتْ إلى مكانها الذي خرجت منه. فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل. حتى إذا دَخلت من حيث خرجت رَد عليها غطاءَها".
قال أبو سعيد الخدري في حديثه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لما دخلت السماء الدنيا، رأيت بها رجلًا جالسًا تعرض عليه أرواح بني آدم، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرًا ويُسَر به، ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب ويقول لبعضها إذا عُرضت عليه: أفّ، ويعبس بوجهه ويقول: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث". قال: "قلت من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم، تُعرض عليه أرواح ذريته، فإذا مرت به روح المؤمن منهم سر بها وقال: روح طيبة خرجت من جسد طيب. وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها، وساءه ذلك، وقال: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث".
قال:
"ثم رأيت رجالًا لهم مشافر كمشافر الإِبل، في أيديهم قطع من نار كالأنهار، يقذفونها في أفواههم، فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلمًا".

ص -38-         قال: "ثم رأيت رجالًا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون1، يمرون عليهم كالإِبل المهيومة2 حين يُعرضون على النار، يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك". قال: "قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا".
قال:
"ثم رأيت رجالًا بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون السمين الطيب". قال: "قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن".
قال:
"ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم".
قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن عمرو، عن القاسم بن محمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فأكل حرائبهم3، وطلع على عوراتهم".
ثم رجع إلى حديث أبي سعيد الخدري، قال:
"ثم أصعدني إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة: عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، قال: ثم أصعدني إلى السماء الثالثة، فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر"، قال: "قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك يوسف بن يعقوب". قال: "ثم أصعدني إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل فسألته: من هو؟ قال: هذا إدريس"، قال: يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}، قال: "ثم أصعدني إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية، عظيم العثنون4، لم أر كهلا أجمل، منه"، قال: "قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا المحبَّب في قومه هارون بن عمران".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك أن آل فرعون أشد الناس عذابًا يوم القيامة. يقول الله سبحانه وتعالى:
{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]
2 المهيومة: العطاش.
3 الحرائب: الأموال.
4 عظيم اللحية.

ص -39-         قال: "ثم أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها رجل آدم1 طويل أقنى2، كأنه من رجال شنوءة؛ فقلت له: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران. ثم أصعدني إلى السماء السابعة، فإذا فيها كهل جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة. لم أر رجلًا أشبه بصاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه"، قال: "قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم". قال: "ثم دخل بي الجنة، فرأيت فيها جارية لعساء3 فسألتها: لمن أنت؟ وقد أعجبتني حين رأيتها؛ فقالت: لزيد بن حارثة"، فبشَّر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبى -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنى: أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن في دخولها: من هذا يا جبريل؟ فيقول: محمد؛ فيقولون: أوَقَدْ بعث إليه؟ فيقول: نعم؛ فيقولون: حيَّاه الله من أخ وصاحب، حتى انتهى به إلى السماء السابعة، ثم انتهى به إلى ربه، ففرض عليه خمسين صلاة في كل يوم.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"فأقبلت راجعًا، فلما مررت بموسى بن عمران، ونعم الصاحب كان لكم، سألني: كم فُرض عليك من الصلاة؟ فقلت: خمسين صلاة كل يوم؛ فقال: إن الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك، فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي، فوضع عني عشرًا. ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك؛ فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي، فوضع عني عشرًا. ثم انصرفت فمررت على موسى، فقال لي مثل ذلك؟ فرجعت فسألت ربي فوضع عني عشرًا. ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك، كلما رجعت إليه، قال: فارجع، فاسأل ربك حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عني، إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة. ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثل ذلك، فقلت: قد راجعت ربي وسألته، حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل، فمن أداهن منكم إيمانًا بهن، واحتسابًا لهن، كان له أجر خمسين صلاة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآدم: الأسود.
2 الأقنى: المرتفع قصبة الأنف.
3 اللعساء: من لها حمرة في شفتيها تضرب إلى السواد.

ص -40-         المستهزئون بالرسول وكفاية الله أمرهم:
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمر الله تعالى صابرًا محتسبًا، مؤديًا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى وكان عظماء المستهزئين، كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، خمسة نفر من قومهم، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم.
من بني أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَي بن كلاب: الأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: اللهم أعم بصره، وأثكله ولده.
ومن بني زهرة بن كلاب: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة.
ومن بني مخزوم بن يقظة بن مرة: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: العاص بن وائل بن هشام.
قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم.
ومن بني خزاعة: الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان.
فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الاستهزاء، أنزل الله تعالى عليه:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
ما فعل الله بالمستهزئين: قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء أن جبريل أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب، فرمي في وجهه بورقة خضراء فعمي. ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه فمات منه حَبْنا1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحبن: انتفاخ من داء.

ص -41-         ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، كان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجر سبله1، وذلك أنه مر برجل من خزاعة وهو يريش نَبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش في رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص رجله وخرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شبارقة2، فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحًا، فقتله.
قصة أبي أزيهر الدوسي:
قال ابن إسحاق: فلما حضرت الوليد الوفاة دعا بنيه وكانوا ثلاثة: هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، فقال لهم: أي بني، أوصيكم بثلاث، فلا تضيعوا فيهن: دمي في خزاعة فلا تطلنَّه3، والله إني لأعلم أنهم منه براء، ولكني أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري عند أبي أزيهر، فلا يفوتنكم به. وكان أبو أزيهر قد زوجه بنتًا، ثم أمسكها عنه، فلم يدخلها عليه حتى مات.
فلما هلك الوليد بن المغيرة وثب بنو مخزوم على خزاعة يطلبون منهم عقل الوليد، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم وكان لبني كعب حلف من بني عبد المطلب بن هاشم فأبت عليهم خزاعة ذلك، حتى تقاولوا أشعارًا، وغلظ بينهم الأمر وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلًا من بني كعب بن عمرو من خزاعة فقال عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم:
إني زعيم أن تسيروا فتهربوا                وأن تتركوا الظهرَان تعوي ثعالبُهْ4
وأن تتركوا ماءً بجزعة أطرقا                  وأن تسألوا أي الأراك أطايبه؟5
فإنا أناس لا تُطَلُّ دماؤنا                       ولا يتعالى صاعدًا من نحاربه6

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فضول ثيابه.
2 شجرة عالية.
3 لا تهدرنه.
4 الزعيم الضامن والظهران واد قريب من مكة.
5 الجزعة: ما انثنى من الوادي. أطرقا: اسم لموضع.
6 تطل: تهدر.

ص -42-         وكانت الظهران والأراك منازل بني كعب، من خزاعة. فأجابه الجون بن أبي الجون، أخو بني كعب بن عمرو الخزاعي، فقال:
والله لا نُؤتَى الوليد ظُلامةً                       ولما تروا يومًا تزول كواكبه
ويُصرع منكم مُسمن بعد مسمن              وتُفتح بعد الموت قسرًا مشاربه1
إذا ما أكلتم خبزكم وخزيركم                    فكلكم باكي الوليد ونادبه2
ثم إن الناس ترادوا وعرفوا إنما يخشى القوم السَّبة فأعطتهم خزاعة بعض العقل وانصرفوا عن بعض. فلما اصطلح القوم قال الجون بن أبي الجون:
وقائلةٍ لما اصطلحنا تعجبا                                لما قد حملنا للوليد وقائل
ألم تُقسموا تؤتوا الوليد ظلامة                          ولما تروا يومًا كثير البلابل3
فنحن خلطنا الحرب بالسلم فاستوت                 فأمَّ هواه آمنًا كل راحل
ثم لم ينته الجون بن أبي الجون حتى افتخر بقتل الوليد، وذكر أنهم أصابوه، وكان ذلك باطلًا. فلحق بالوليد وبولده وقومه من ذلك ما حذر، فقال الجون بن أبي الجون:
ألا زعم المغيرة أن كعبًا                    بمكة منهم قدر كبير
فلا تفخر مغير أن تراها                     بها يمشي المعلهج والمهير4
بها آباؤنا وبها وُلدنا                          كما أرسي بمثبته ثبير5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسمن: الشريف الظاهر بين الناس.
2 الخزير: نوع من الحساء.
3 تؤتوا: أراد: أن تؤتوا، ومعناه: ألا تؤتوا كما جاء في التنزيل:
{يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 76] أي: ألا تضلوا والبلابل: الوساوس الفكرية.
4 المعلهج: المتردد في الإماء كأنه منحوت من أصلين: من العلج؛ لأن الأمة: عالجة، ومن اللهج: كأن واطئ الأمة قد لهج بها. والمهير ابن المهيرة الحرة.
5 ثبير: جبل بمكة.

ص -43-                                              وما قال المغيرةُ ذاك إلا      ليعلمَ شأنَنا أو يستثير
فإن دمَ الوليد يُطَلُّ إنا                                  نطل دماء أنت بها خبير
كساه الفاتك الميمون سهمًا                        زعافًا وهْو ممتلئ بهير1
فخر ببطن مكة مُسلحبًّا                              كأنه عند وجبته بعير
سيكفيني مطال أبي هشام                        صغار جعدة الأوتار خور
قال ابن هشام: تركنا منها بيتًا واحدًا أقذع فيه.
قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر، وهو بسوق ذي المجاز وكانت عند أبي سفيان بن حرب عاتكة؛ بنت أبي أزيهر، وكان أبو أزيهر رجلًا شريفًا في قومه، فقتله بعقر الوليد الذي كان عنده، لوصية أبيه إياه، وذلك بعد أن هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ومضى بدر، وأصيب به من أصيب من أشراف قريش من المشركين، فخرج يزيد بن أبي سفيان، فجمع بني عبد مناف، وأبو سفيان بذي المجاز، فقال الناس: أخفر أبو سفيان في صهره، فهو ثائر به. فلما سمع أبو سفيان بالذي صنع ابنه يزيد –وكان أبو سفيان رجلًا حليمًا منكرًا يحب قومه حبًّا شديدًا- انحط سريعًا إلى مكة، وخشي أن يكون بين قريش حدث في أبي أزيهر، فأتى ابنه وهو في الحديد، في قومه من بني عبد مناف والمطيبين، فأخذ الرمح من يده، ثم ضرب به على رأسه ضربة هدَّه منها، ثم قال له: قبحك الله! أتريد أن تضرب قريشًا بعضَهم ببعض في رجل من دَوْس. سنؤتيهم العَقْل إن قبلوه، وأطفئ لك الأمرَ.
فانبعث حسانُ بن ثابت يحرض في دم أبي أزَيْهر، ويعير أبا سفيان خُفْرَته ويُجْبِنه، فقال:
غدا أهلُ ضَوْجَىْ ذى المجاز كليهما              وجار ابنِ حربٍ بالمغمَّس ما يغدُو2
ولم يمنع العيرُ الضَّروطُ ذمارَه                       وما منعت مخزاةَ والدِها هندُ3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البهير: منقطع النفس.
2 ضوجي: ما انعطف من الوادي والمغمس موضع بطريق الطائف.
3 الذمار: ما تجب رعايته. وهند بنت أبي سفيان.
ص -44-                                     كساك هشام بنُ الوليد ثيابَه     فأبْلِ وأخْلِفْ مثلَها جددًا بَعْدُ
قضى وطرًا منه فأصبح ماجدًا                وأصبحتَ رخوًا ما تُخبُّ وما تعدُو1
فلو أن أشياخًا ببدرٍ تشاهدوا                لَبَلَّ نعالَ القومِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ2
فلما بلغ أبا سفيان قول حسان قال: يريد حسان أن يضرب بعضنا ببعض في رجل من دوس، بئس والله ما ظن.
ولما أسلم أهلُ الطائف كلَّم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- خالدُ بنُ الوليد في ربا الوليد، الذي كان في ثقيف، لما كان أبوه أوصاه به.
قال ابن إسحاق: فذكر لي بعضُ أهلِ العلم أن هؤلاء الآيات من تحريم ما بقي من الربا بأيدي الناس نزلن في ذلك من طلب خالد الربا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] إلى آخر القصة فيها.
دوس تحاول الثأر لأبي أزيهر: ولم يكن في أبي أزيهر ثأر نعلمه، حتى حجز الإسلام بين الناس إلا أن ضرار بن الخطاب بن مِرْداس الفِهْري خرج في نفر من قريش إلى أرض دَوْس، فنزلوا على امرأة يقال لها أمُّ غَيْلان، مولاة لدوس، وكانت تمشِّط النساء، وتجهِّز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر، فقامت دونهم أمُّ غيلان ونسوة معها، حتى منعتهم، فقال ضرار بن الخطاب في ذلك:
جزى اللهُ عنا أمَّ غَيْلان صالحًا                       ونسوَتها إذ هن شُعْثٌ عواطلُ
فهن دفعن الموتَ بعدَ اقترابِه                        وقد برزتْ للثائرين المقاتلُ
دعت دعوةً دوسًا فسالت شعابُها3                بعز وأدَّتها الشَّراجُ القوابلُ4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخبب: ضرب من السير.
2 المعتبط الورد: الدم العبيط وهو الطري.
3 الشعاب: جمع شعب وهو مسيل الماء في الحرة.
4 الشراج: جمع شرج: مسيل الماء. والقوابل: المتقابلة.
ص -45-                                   وعَمرًا جزاه اللهُ خيرًا فما وَنَى        وما بردتْ منه لديَّ المفاصلُ فجردت
سيفى ثم قمتُ بنصلِه                     وعن أيِّ نفسٍ بعدَ نفسي أقاتل
أم غيلان وأم جميل: قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة: أن التي قامت دون ضرار أمّ جميل، ويقال أم غيلان؛ قال: ويجوز أن تكون أم غيلان قامت مع أم جميل فيمن قام دونه.
فلما قام عمر بن الخطاب أتته أم جميل، وهي ترى أنه أخوه. فلما انتسبت له عرف القصة فقال: إني لست بأخيه إلا في الإسلام، وهو غازٍ، وقد عرفت منَتّكَ عليه، فأعطاها على أنها ابنة سبيل.
قال الراوي: قال ابن هشام: وكان ضِرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد، فجعل يضربه بعَرض الرمح ويقول: انج يابن الخطاب لا أقتلك؛ فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه.
وفاة أبي طالب وخديجة، وما عاناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدهما
قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته: أبا لهب، والحَكم بن العاص بن أمية، وعُقْبة بن أبي مُعَيْط، وعَدِي بن حمراء الثقفى، وابن الأصْداء الهذلي؛ وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم –فيما ذكر لي– يطرح عليه -صلى الله عليه وسلم- رحِم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في بُرْمته1 إذا نُصبت له، حتى اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حِجْرًا2 يستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا طرحوا عليه ذلك الأذى –كما حدثني عُمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن عروةبن الزبير– يخرج به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا! ثم يلقيه في الطريق.
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البرمة: القدر من الحجر.
2 الحجر كل ما حجرته من حائط ونحوه.
ص -46-         رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المصائب بهُلْك خديجة، وكانت له وزير صِدْق على الإسلام، يشكو إليها؛ وبُهلْك عمه أبي طالب، وكان له عَضَدًا وحِرْزًا في أمره، ومَنَعة وناصرًا على قومه، وذلك قبل مُهاجره إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابًا.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال:
لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك التراب، دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لها:
"لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك". قال: ويقول بين ذلك: "ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه، حتى مات أبو طالب".
المشركون يطلبون عهدًا بينهم وبين الرسول قبل موت أبي طالب: قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشًا ثِقَلُه، قالت قريش بعضُها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلِّها، فانطلِقوا بنا إلى أبي طالب، فيأخذ لنا على ابن أخيه، وليعطِه مِنَّا، والله ما نأمَن أن يبتزُّونا1 أمرَنا.
قال ابن إسحاق: فحدثني العباس بن عبد الله بن مَعْبد بن عباس عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: مشوا إلى أبي طالب فكلموه؛ وهم أشرافُ قومه: عُتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمتَ، وقد حضرك ما ترى، وتخوَّفْنا عليك، وقد علمتَ الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادْعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكفَّ عنا، ونكفَّ عنه، وليدعَنا ودينَنَا، وندَعه ودينَه؛ فبعث إليه أبو طالب، فجاءه، فقال: يابن أخي، هؤلاء أشرافُ قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نعم، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم". قال: فقال أبو جهل: نعم وأبيكَ، وعشر كلمات؛ قال: "تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابتزه أمره: غلبه عليه.

ص -47-         من دونه". قال: فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهةَ إلهًا واحدًا، إن أمرَك لعَجب! قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلِقُوا وامضُوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه. قال: ثم تفرقوا.
رجاء الرسول إسلام أبي طالب: فقال أبو طالب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: والله يابن أخي، ما رأيتك سألتهم شططًا، قال: فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إسلامه، فجعل يقول له: "أي عمّ، فأنت فقُلْها أستحلّ لك بها الشفاعة يومَ القيامة"، قال: فلما رأى حِرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه، قال: يابن أخي، والله لولا مخافة السُّبَّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جَزعًا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرّك بها. قال: فلما تقارب من أبي طالب الموت قال: نظر العباس إليه يحرك شفتيه، قال: فأصغى إليه بأذنِه، قال: فقال يابن أخى، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أسمعْ".
ما نزل فيمن طلبوا العهد على الرسول عند أبي طالب. قال: وأنزل الله تعالى في الرهط الذين كانوا قد اجتمعوا إليه، وقال لهم ما قال، وردوا عليه ما ردوا:
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1، 2] إلى قوله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 57] يعنون النصارى، لقولهم: {إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} ثم هلك أبو طالب.
سعي الرسول إلى الطائف وموقف ثقيف منه:
قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحدَه.
الثلاثة الذين نزل بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي، قال: لما انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، عَمَد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم،

ص -48-         وهم إخوة ثلاثة: عبد يَالِيل بن عَمرو بن عُمَير، ومسعود بن عَمرو بن عُمَير، وحبيب بن عمرو بن عُمَير بن عوف بن عُقدة بن غِيَرَة بن عَوْف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جُمَح، فجلس إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يَمْرُط1 ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم -فيما ذكر لي: "إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني"، وكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغ قومه عنه، فيُذْئرهم2 ذلك عليه.
قال ابن هشام: قال عَبيد بن الأبْرص:
ولقد أتاني عن تميمٍ أنهم                       ذَئِروا لقَتْلى عامر وتعصبوا
فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدَهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط3 لعُتبة بن ربيعة وشَيْبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حَبَلة4 من عنب، فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء أهل الطائف، وقد لقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي، المرأة التي من بني جُمَح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال – فيما ذكر لي:
"اللهم إليك أشكو ضَعْفَ قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيد يتجَهَّمني5؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلماتُ، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سُخْطُك، لك العُتْبَى حتى ترضَى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يمرطه: ينزعه ويرمي به.
2 يذئرهم: يثيرهم.
3 الحائط: الحديقة.
4 حبلة: شجرة العنب.
5 تجهم فلانًا: استقبله بوجه كريه.

ص -49-         قال: فلما رآه ابنا ربيعة، عُتبة وشَيْبة، وما لقى، تحركت له رحمهما1، فدعوَا غلامًا لهما نصرانيًّا، يقال له عَدَّاس، فقالا له: خذ قِطفًا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل عَدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يديْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه يده، قال: "باسم الله"، ثم أكل، فنظر عَدَّاس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ومن أهل أي البلاد أنت يا عَدَّاس، وما دينُك؟" قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نِينَوى؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى"؛ فقال له عَدَّاس: وما يُدريك ما يونس بن مَتَّى؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبي"، فأكب عَدَّاس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامُك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عَداس قالا له: ويلك يا عَدَّاس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي؛ قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينَك خير من دينه.
وفد جن نصيبين: قال: ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة، حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنَخْلة2 قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم فيما ذُكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته وَلَّوْا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل:
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29]. إلى قوله تعالى: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] وقال تبارك وتعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}. [الجن: 1]. إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرحم: الصلة والقرابة.
2 هناك واديان بهذا الاسم على ليلة من مكة أحدهما نخلة الشامية والثاني نخلة اليمانية.

ص -50-         عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه على القبائل:
عرض نفسه في المواسم: قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة: وقومه أشدُّ ما كانوا عليه من خلافِه وفراق دينه، إلا قليلًا مستضعَفين ممن آمن به. فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَعْرِض نفسَه في المواسم، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مُرْسَل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبينَ لهم ما بعثه به الله.
قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا، من لا أتهم، عن زيد بن أسلم عن ربيعة بن عِبَاد الدِّيَلي، أو من حدثه أبو الزناد عنه قال ابن هشام: ربيعة بن عِبَاد.
قال ابن إسحاق: وحدثني حُسين بن عبد الله بن عُبيد الله بن عباس، قال سمعت ربيعة بن عِبَاد، يحدثه أبي، قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به. قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان1 عليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقَيْش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه.
قال: فقلت لأبي: يا أبت، من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب.
قال ابن هشام: قال النابغة:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غديرتان: ذؤابتان من شعر.

ص -51-                                          كأنك من جمال بني أقَيْشٍ    يُقَعْقِعُ خلفَ رجْليه بِشَن1
قال ابن إسحاق: حدثنا ابن شهاب الزهرى: أنه أتى كِنْدة في منازلهم، وفيهم سيد لهم يقال: مُلَيْح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فأبَوْا عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حُصين: أنه أتى كلبًا في منازلهم، إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن الله عز وجل قد أحسن اسمَ أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليهم ردًا منهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسَه، فقال رجل منهم يقال له: بَيْحَرة بن فراس. قال ابن هشام: فراس بن عبد الله بن سلمة الخير بن قُشَير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصعة: والله، لو إني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيتَ إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفَتُهدَف2 نحورُنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك؛ فأبوا عليه.
فلما صدر الناسُ رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كانت أدركته السنُّ، حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تَلافٍ، هل لذُنَاباها من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشن: القربة الخلق ويريد بالقعقعة حدوث الصوت لتفزع الإبل.
2 تهدف: تصير هدفًا يرمى عليه، والهدف الغرض.
ص -52-         مَطْلب1، والذي نفس فلان بيده، ما تقوَّلها إسماعيلي قط وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم.
قال ابن إسحاق: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإِسلام، ويَعْرض عليهم نفسه، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف، إلا تصدَّى له، فدعا إلى الله، وعرَض عليه ما عنده.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، ثم الظَّفري عن أشياخ من قومه قالوا:
قدم سُويد بن صامت، أخو بني عمرو بن عَوْف، مكة حاجًّا أو معتمرًا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم: الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذي يقول:
ألا رُبَّ من تدعو صديقًا ولوترى               مقالتَه بالغيب ساءك ما يَفْري2
مقالتُه كالشهدِ ما كان شاهدًا              وبالغيبِ مأثورٌ على ثُغْرَةِ النحرِ3
يَسرك باديه وتحت أديمه                      نميمةُ غش ِّتبتري عَقَبَ الظهرِ4
تُبين لك العينان ما هو كاتمٌ                  من الغلِّ والبغضاءِ بالنظرِ الشَّزْرِ
فرِشْنِي بخير طالَما قد بَرَيْتَني              وخيرُ الموالي من يَريشُ ولايَبْرِي5
وهو الذي يقول ونافر رجلا من بني سُلَيم، ثم أحد بني زِعْب بن مالك على مائة ناقة، إلى كاهنة من كهان العرب، فقضت له، فانصرف عنها هو والسَّلَمي، ليس معهما غيرها، فلما فرقت بينهما الطريق، قال: مالي يا أخا بني سُلَيم قال: أبعث إليك به، قال: فمن لي بذلك إذا فُتَّني به؟ قال: كلا، والذي نفس سُوَيد بيده، لا تفارقني حتى أوتَى بمالي، فاتَّخذا فضرب به الأرض، ثم أوثقه رباطًا، ثم انطلق به إلى دار بني عَمرو بن عوف، فلم يزل عنده حتى بعثت إليه سُلَيم بالذي له، فقال في ذلك:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل يضرب لما فات، وأصله من ذنابي الطائر إذا أفلت من حباله فطلبت الأخذ بذناباه.
2 يفري: يختلق.
3 المأمور: السيف الموشى.
4 تبتري عقبه: تقطع ظهره.
5 يريش يقوي. وينبري يضعف.

ص -53-                                         لا تحسبنِّي يابنَ زِغْبِ بن مالك           كمن كُنت تُرْدِي بالغيوبِ وتَخْتِلُ
تحولت قِرْنا إذ صُرِعْت بعزةٍ                       كذلك إن الحازمَ المتحوِّل
ضربتُ به إبْطَ الشمال فلم يزلْ                  على كلِّ حالٍ خدُّه هو أسفلُ
في أشعار كثيرة كان يقولها.
فتصدى له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سُوَيد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"وما الذي معك؟" قال: مجلة لُقمان1 –يعني حكمة لقمان– فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اعرضها علي"، فعرضها عليه، فقال له: "إن هذا لكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ، هو هُدى ونور"، فتلا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يَبْعُد منه، وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإذا كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بُعاث2.
إسلام إياس بن معاذ وقصة أبي الحيسر:
قال ابن إسحاق: وحدثني الحُصَيْن بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن ُمعاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحَيْسَر، أنس بن رافع، مكة ومعه فِتية من بني عبد الأشْهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحِلْف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجلة لقمان، وهي الصحيفة، وكأنها مفعلة من الجلال والجلالة، أما الجلالة فمن صفة المخلوق، والجلال من صفة الله تعالى، وقد أجاز بعضهم أن يقال في المخلوق جلال وجلالة وأنشد:
فلا ذا جلال هبنه لجلالة                     ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر
ولقمان كان نوبيًّا من أهل أيلة وهو لقمان بن عنقاء بن سرور فيما ذكروا وابنه الذي ذُكر في القرآن هو ثأران فيما ذكر الزجاج وغيره، وقد قيل في اسمه غير ذلك، وليس بلقمان بن عاد الحميري.
2 بعاث: يوم من أيام العرب كان بين الأوس والخزرج.
ص -54-         فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: "هل لكم في خير مما جئتم له؟" فقالوا له: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول الله بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليَّ الكتاب". قال: ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: فقال إياس بن معاذ، وكان غلامًا حدثًا: أي قوم، وهذا والله خيرٌ مما جئتم له. قال: فيأخذ أبو الحَيْسر، أنس بن رافع، حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن مُعاذ، وقال: دَعْنا منك فلَعَمْري لقد جئنا لغير هذا. قال: فصمت إياس، وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكان وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج.
قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته: أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما سمع.
إسلام الأنصار:
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإنجاز موعده له، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقي رهطًا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قَتادة، عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم:
"من أنتم؟" قالوا نفر من الخزرج، قال: "أمن موالي يهود؟" قالوا: نعم؛ قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟" قالوا: بلَى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإِسلام، وتلا عليهم القرآن قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهلَ كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم1 ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًّا مبعوثٌ الآنَ، قد أظل زمانُه، نتبعه فنقتلكم معه قتلَ عاد وإرَم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عزوهم: غلبوهم.

ص -55-         أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تَعلَّموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقُنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإِسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومَنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا.
أسماء من التقوا به صلى الله عليه وسلم من الخزرج: قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لي: ستة نفر من الخزرج، منهم من بني النجار وهو تَيْم الله، ثم من بني مالك بن النجار بن ثعلبة بن عَمرو بن الخزرج بن حارثة بن عمرو بن عامر: أسعد بن زُرارة بن عُدَس بن عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة؛ وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سَوَاد بن مالك بن غُنْم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء.
قال ابن هشام: وعفراء بنت عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار.
قال ابنِ إسحاق: ومن بني زُرَيْق بن عامر بن زُرَيْق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جُشم بن الخزرج: رافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيْق.
قال ابن هشام: ويقال عامر بن الأزرق.
قال ابن إسحاق: ومن بني سَلِمة بن سعد بن على بن ساردة بن تزيد بن جُشَم بن الخزرج، ثم من بني سواد بن غَنْم بن كعب بن سلمة: قُطْبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غَنْم بن سَواد.
قال ابن هشام: عمرو بن سواد، وليس لسواد ابن يقال له: غَنْم.
قال ابن إسحاق: ومن بني حرام بن كعب بن غَنْم بن كعب بن سَلمة: عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام.
ومن بني عُبَيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سَلَمة: جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عُبَيد.
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

ص -56-         بيعة العقبة الأولى:
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا، فلقُوه بالعقبة: قال: وهى العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بيعةِ النساءِ1، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.
منهم من بني النجار، ثم من بني مالك بن النجار: أسعد بن زُرارة بن عُدَس بن عُبَيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة؛ وعوف، ومعاذ، ابنا الحارث بن رفاعة بن سَواد بن مالك بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهما ابنا عفراء. ومن بني زُرَيق بن عامر رافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيْق، وذَكْوان بن عبد قيس بن خَلَدة بن مُخْلِد بن عامر بن زُريْق.
قال ابن هشام: ذَكْوان، مهاجري أنصاري.
ومن بني عَوْف بن الخزرج، ثم من بني غَنْم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وهم القواقل: عُبادة بن الصامت بن قيس بن أصْرم بن فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم؛ وأبو عبد الرحمن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ذكر الله تعالى بيعة النساء في القرآن فقال:
{يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الآية، فأراد ببيعة النساء أنهم لم يبايعوه على القتال، وكانت مبايعته للنساء أن يأخذ عليهن العهد والميثاق، فإذا أقررن بألسنتهن قال: قد بايعتكن، وما مسَّت يده يد امرأة في مبايعة كذلك قالت عائشة، وقد روي أنهن كن يأخذن بيده في البيعة من فوق ثوب، وهو قول عامر والشعبي، ذكره عنه ابن سلام في تفسيره، والأول أصح. وقيل في قوله عز وجل في الآية السابقة خبرًا عن بيعة النساء: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ} أنه الولد تنسبه إلى بعلها، وليس منه، وقيل: هو الاستمتاع بالمرأة فيما دون الوطء كالقبلة والجسة ونحوها، والأول يشبه أن يبايع عليه الرجال، وكذلك قيل في قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] أنه النوح، وهذا أيضًا ليس من شأن الرجال، فدل على ضعف قول من خصه بالنوح، وخص البهتان بإلحاق الولد بالرجل، وليس منه، وقيل. "يفترينه بين أيديهن" يعني: الكذب وعيب الناس بما ليس فيهم، "وأرجلهن" يعني المشي في معصية، {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]، أي: في خير تأمرهن به، والمعروف اسم جامع لمكارم الأخلاق، وما عرف حسنه ولم تنكره القلوب، وهذا معنى يعم الرجال والنساء، وذكر ابن إسحاق في رواية يونس فيما أخذه عليهن، أن قال: ولا تغششن أزواجكن، قالت إحداهن: وما غش أزواجنا؟ فقال: أن تأخذي من ماله فتحابي به غيره.

ص -57-         وهو يزيد بن ثعلبة بن خَزْمة بن أصْرم بن عَمرو بن عَمَّارة، من بني غُصَيْنة، من بَلِيّ حليف لهم.
قال ابن هشام: وإنما قيل لهم القواقل؛ لأنهم كانوا إذا استجار بهم الرجل دفعوا له سهمًا وقالوا له: قوقل به بيثرب حيث شئتَ.
قال ابن هشام: القوقلة: ضرب من المشي.
قال ابن إسحاق: ومنِ بني سالم بن عمرو بن الخزرج، ثم من بني العَجْلان بن زيد بن غنْم بن سالم: العباس بن عبادة بن نَضَلة بن مالك بن العَجْلان.
ومن بني سَلَمة بن علي بن أسد بن سارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن الخزرج، ثم من بني حرام بن كعب بن غَنْم بن سلمة: عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام.
ومن بني سواد بن غَنْم بن كعب بن سلمة: قُطبة بن عامر بن حَديدة بن عمرو بن غَنْم بن سواد. وشهدها من الأوس ابن حارثة بن ثعلبة بن عَمرو بن عامر، ثم من بني عبد الأشهل بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس: أبو الهيثم بن التَّيِّهان، واسمه مالك.
قال ابن هشام: التيهان: يخفف ويثقل، كقوله ميْت وميِّت.
ومن بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس: عُوَيْم بن ساعدة.
نص البيعة: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مَرْثد بن عبد الله اليزَني، عن عبد الرحمن بن عُسَيلة الصنابحي، عن عُبادة بن الصامت، قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلًا، فبايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بيعة النساء، وذلك قبل أن تُفترض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف: "فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء عَذَّب وإن شاء غفر".
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عائذ الله بن عبد الله الخَوْلاني أبي إدريس أن عبادة بن الصامت حدثه أنه قال: بايعنا، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة الأولى على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف: "فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك فأخذتم بحدِّه في الدنيا، فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب، وإن شاء غفر".

ص -58-         إرسال مصعب بن عمير مع وفد العقبة: قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله -صلي الله عليه وسلم- معهم مُصْعَب بن عُميْر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة مصعب. وكان منزَله1 على أسعد بن زُرارة بن عدس، أبي أمامة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قَتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.
أول جمعة أقيمت بالمدينة:
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف، عن أبيه أبي أمامة، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائد أبي: كعبِ بن مالك، حين ذهب بصرُه، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذانَ بها صلى على أبي أمامة، أسعد بن زرارة. قال: فمكث حينًا على ذلك لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له. قال: فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز، ألا أساله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة أسعد بن زُرارة؟ قال: فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة صلى عليه واستغفر له. قال فقلت له: يا أبتِ، ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟ فقال: أي بُنَيَّ، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هَزم النبيت، من حَرَّة بني بَياضة، يقال له: نَقيع الخَضمات، قال: قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلًا.
إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وبني عبد الأشهل: قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن مُعَيْقب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم: أن أسعد بن زُرارة خرج بمصْعَب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظَفَر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل ابن خالة أسعد بن زُرارة، فدخل به حائطًا من حوائط بني ظَفَر.
قال ابن هشام: واسم ظفر: كعب بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس قالا: على بئر يقال لها: بئر مَرَق فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم وسعد بن معاذ، وأسَيْد بن حُضَيْر، يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المنزل هنا وفي كل ما شابهه بفتح الزاي لا غير وذلك لأنه يريد المصدر ولم يرد المكان.

ص -59-         على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حُضَير: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا داريْنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرْهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد ابن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدمًا. قال: فأخذ أسيد بن حُضَير حربته ثم أقبل إليهما؛ فلما رآه أسعد بن زُرارة، قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه؛ قال مصعب: إن يجلس أكلمْه. قال فوقف عليهما مُتشتِّما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءَنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مُصْعَب بالإِسلام، وقرأ عليه القرآن؛ فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلامَ قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهُّله، ثم. قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهَّر وتطهر ثوبيك، ثم تصلي. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلًا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من في قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن مُعاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم؛ فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدِّثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك1. قال: فقام سعد مغضَبًا مبادرًا، تخوُّفا للذي ذُكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما؛ فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف سعد أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره -وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مُصْعب، جاءك والله سيد مَن وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان: قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وأن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلم، لإِشراقه وتسهُّله، ثم قال لهما: وكيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لينقضوا عهدك.

ص -60-         قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدًا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.
قال: فلما رآه قومه مقبلًا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم قالوا: سيدُنا وأفضلُنا رأيًا، وأيمنُنا نقيبةً قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله.
قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمةً، ورجع أسعد ومُصْعَب إلى منزل أسعد بن زُرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخَطْمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله، وهم من الأوْس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسْلَت، وهو صيفي، وكان شاعرًا لهم وقائدًا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإِسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، وقال فيما رأى من الإِسلام، وما اختلف الناس فيه من أمره:
أربَّ الناسِ أشياخ ألمَّتْ                   يُلَفُّ الصعبُ منها بالذَّلولِ
أربَّ الناسِ أما إذ ضللنا                    فيسِّرْنا لمعروفِ السبيلِ
فلولا ربُّنا كنا يهودًا                          وما دينُ اليهودِ بذي شُكولِ1
ولولا ربُّنا كنا نصارى                         مع الرهبانِ في جبلِ الجليلِ2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشكول: جمع شكل وشكل الشيء بالفتح هو مثله والشكل بالكسر الدل والحسن فكأنه أراد أن دين اليهود بدع، فليس له شكول أي: ليس له نظير في الحقائق، ولا مثيل يعضده من الأمر المعروف المقبول، وقد قال الطائي:
وقلت: أخي قالوا: أخ من قرابة                فقلت لهم: إن الشكول أقارب
قريبي في رأيي وديني ومذهبي             وإن باعدتنا في الخطوب المناسب
انظر: "الروض الأنف، بتحقيقنا ج2 ص200".

ص -61-                                          ولكنا خُلقنا إذ خُلقنا            حنيفًا دينُنا عن كلِّ جيلِ
نسوق الهَدْي تَرسُف مُذْعِناتٍ                   مُكثَّفة المناكبِ في الجُلولِ1
قال ابن هشام: أنشدني قوله: فلولا ربنا، وقوله: لولا ربنا، وقوله: مكشفة المناكب في الجلول، رجل من الأنصار، أو من خزاعة.
أمر العقبة الثانية:
قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقبة، من أوسط أيام التشريق، حين أراد من كرامته؛ والنصرِ لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
البراء بن معرور يصلي إلى الكعبة: قال ابن إسحاق: حدثني مَعْبَد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القَيْن، أخو بني سَلَمة، أن أخاه عبد الله بن كعب، وكان من أعلم الأنصار، حدثه أن أباه كعبًا حدثه، وكان كعب ممن شهد العقبة وبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقِهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا. فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء، إني قد رأيت رأيا، فوالله ما أدري، أتوافقونني عليه، أم لا؟ قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت ألا أدع هذه البَنِيَّة مني بظهر -يعني: الكعبة- وأن أصلي إليها. قال: فقلنا، والله ما بلغنا أن نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. قال؛ فقال: إني لمصلٍ إليها. قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.
قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة. قال: وقد كنا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما قدمنا مكة قال لي: يابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نسألَه عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله قد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك فلقينا رجلًا من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا؛ قال: فهل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ترسف: تمشي مشي المقيد، والجلول: جمع جل وهو ما تلبسه الدابة لتُصان به.
ص -62-         تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قال: قلنا: نعم قال: كنا نعرف العباس، وكان لا يزال يقدم علينا تاجرًا قال: فإن دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس. قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: "هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟" قال: نعم، هذا البَراء بن معرور، سيد قومه، وهذا كعب بن مالك قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الشاعر؟" قال: نعم، قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإِسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البَنيَّة مني بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: "كنت على قبلة لو صبرت1 عليها". قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.
قال ابن هشام: وقال عَوْن بن أيوب الأنصاري:
ومنا المصلِّي أولَ الناس مُقبلًا               على كعبةِ الرحمنِ بينَ المشاعرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"قد كنت على قبلة لو صبرت عليها"، فقه قوله: "لو صبرت عليها"، أنه لم يأمره بإعادة ما قد صلى؛ لأنه كان متأولا.
وفي الحديث: دليل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، وهو قول ابن عباس، وقالت طائفة: ما صلى إلى بيت المقدس إلا مذ قدم المدينة سبعة عشر شهرًا أو ستة عشر شهرًا، فعلى هذا يكون في القبلة نسخان نسخ سنة بقرآن، وقد بين حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه المسألة، فروي عنه من طرق صحاح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما كان عليه السلام يتحرى القبلتين جميعًا لم يبن توجهه إلى بيت المقدس للناس، حتى خرج من مكة والله أعلم. قال الله تعالى له في الآية الناسخة:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149] أي: من أي جهة جئت إلى الصلاة، وخرجت إليها فاستقبل الكعبة كنت مستدبرًا لبيت المقدس، أو لم تكن؛ لأنه كان بمكة يتحرى في استقباله بيت المقدس أن تكون الكعبة بين يديه، وتدبر قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} وقال لأمته: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.

ص -63-         يعني البراء بن معرور. وهذا البيت في قصيدة له.
إسلام عبد الله بن عمرو بن حرام: قال ابن إسحاق: حدثني مَعْبِد بن كعب، أن أخاه عبد الله بن كعب حدثه أن أباه كعب بن مالك حدثه، قال كعب: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة من أوسط أيام التشريق. قال: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، ومعنا عبد الله بن عَمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من سادتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إيانا العقبة. قال: فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبًا. امرأتان في البيعة: قال: فنمنا تلك الليلة مع قومِنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثُلثُ الليل خرجنا من رحالنا لمعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلل تسلل القَطا مُستَخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نُسَيْبة بنت كعب، أم عُمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نَابِي، إحدى نساء بني سَلَمة، وهي أم مَنيع.
العباس يستوثق من الأنصار: قال: فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضُرَ أمر ابن أخيه ويتوثَقَ له. فلما جلس كان أول مُتكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوْسها: إن محمدًا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم تَرَوْن أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم تَرَوْن أنكم مُسْلِموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدَعَوْه، فإنه في عِز ومَنَعة من قومه وبلده. قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت فتكلمْ يا رسول الله، فخذْ لنفسك ولربك ما أحببت.
عهد الرسول عليه الصلاة والسلام على الأنصار: قال: فتكلم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا القرآنَ، ودعا إلى الله ورغَّب في الإسلام، ثم قال:
"أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءَكم وأبناءَكم". قال: فأخذ البَراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك

ص -64-         بالحق لنمنَعنَّك مما نمنع منه أزُرَنا1 فبايعْنا يا رسول الله فنحن والله أبناءُ الحروب، وأهل الحلْقة، ورثناها كابرًا عن كابر. قال: فاعترض القولَ والبراء يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التَّيِّهان، فقال يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنّا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك اللهُ أن ترجع إلى قومك وتَدَعنا؟ قال: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: بل الدم الدم، والهَدْم الهَدْم2، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم.
قال ابن هشام: ويقال: الهَدَم الهدَم: يعني الحرمة. أي ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم.
قال كعب بن مالك: وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا، ليكونوا على قومِهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوْس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العرب تكني عن المرأة بالإزار وتكني أيضًا بالإزار عن النفس، وتجعل الثوب عبارة عن لابسه كما قال:
رموها بأثواب خفاف فلا ترى                      لها شبهًا إلا النعام المنفَّرا
2 قال ابن قتيبة: كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك وهدمي هدمك، أي: ما هدمت من الدماء هدمته أنا، ويقال أيضًا: بل اللدم اللدم والهدم الهدم وأنشد:
ثم الحقي بهدمي ولدمي
فاللدم: جمع لادم، وهم أهله الذين يلتدمون عليه إذا مات، وهو من لدمت صدره: إذا ضربته. والهدم، قال ابن هشام: الحرمة، وإنما كنى عن حرمة الرجل وأهله بالهدم؛ لأنهم كانوا أهل نجعة وارتحلوا. ولهم بيوت يستخفونها يوم ظعنهم فكلما ظعنوا هدموها، والهدم بمعنى المهدوم كالقبض بمعنى المقبوض، ثم جعلوا الهدم وهو البيت المهدوم عبارة عما حوى، ثم قال: هدمي هدمك أي: رحلتي مع رحلتك أي لا أظعن وأدعك وأنشد يعقوب:
تمضي إذا زجرت عن سوأة قدمًا                  كأنها هدم في الجفر منقاض

ص -65-         أسماء النقباء الاثني عشر:
نقباء الخزرج: قال ابن هشام: من الخزرج فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكَّائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي أبو أمامة أسعد بن زُرارة بن عُدَس بن عُبَيْد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجار، وهو تَيْم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زُهَيْر بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رَوَاحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج. ورافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيق بن عبد حارثة بن مالك بن غَضب بن جُشَم بن الخزرج، والبَرَاء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن الخزرج؛ وعبد الله بن عَمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن سَلَمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن تَزيد بن جُشَم بن الخزرج، وعُبادة بن الصامت بن قَيْس بن أصْرم بن فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عَوْف بن عَمرو بن عَوْف بن الخزرج.
قال ابن هشام: هو غَنْم بن عوف، أخو سالم بن عَوْف بن عمرو بن الخزرج.
قال ابن إسحاق: وسعد بن عُبادة بن دُلَيْم بن حارثة بن أبي حَزِيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خُنيس بن حارثة بن لَوْذان بن عبد وُدّ بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج.
قال ابن هشام: ويقال: ابن خُنَيس.
نقباء الأوس: ومن الأوْس: أسُيْد بن حُضَير بن سِمَاك بن عَتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وسعد بن خَيثُمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النَّحَّاط بن كعب بن حارثة بن غَنْم بن السَّلَم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زَنْبَر بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.
شعر كعب بن مالك في النقباء: قال ابن هشام: وأهل العلم يعدُّون فيهم أبا الهيثم بن التيهان، ولا يعدون رفاعة، وقال كعب بن مالك يذكرهم، فيما أنشدني أبو زيد الأنصاري:

ص -66-                                     أبلغْ أبَيا أنه قال رأيه      وحان غداة الشِّعْب والحينُ واقعُ1
أبى الله ما منَّتك نفسُك إنه                 بمرصادِ أمرِ الناسِ راءٍ وسامعُ
وأبلغ أبا سفيان أنْ قد بدا لنا                بأحمدَ نور من هُدَى اللهِ ساطعُ
فلا ترغبنْ في حشدِ أمر تريدُه              وألِّبْ وجَمِّعْ كلَّ ما أنت جامعُ
ودونَك فاعلم أن نقضَ عهودِنا               أباه عليك الرهطُ حين تبايعُوا
أباه البَراء وابن عَمرو كلاهما                 وأسعدُ يأباه عليك ورافعُ
وسعد أباه الساعديُّ ومُنذِر                  لأنفِك إن حاولتَ ذلك جادعُ
وما ابنُ ربيعٍ إن تناولت عهدَه                بمسلمِه لا يطمعنْ ثَمَّ طامعُ
وأيضًا فلا يُعطيكه ابنُ رَواحَة                  وإخفارُه من دونِه السمُّ ناقعُ
وفاءً به والقَوْقلي بن صامتٍ                  بمندوحةٍ عما تحاولُ يافعُ2
أبو هَيْثمٍ أيضًا وفىّ بمثلها                   وفاء بما أعطى من العهد خانع3
وما ابن حضير إن أردت بمطمع              فهل أنت عن أحموقة الغي نازع
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه              ضروح لما حاولت ملأمر مانع4
أولاك نجوم لا يغبك منهم                     عليك بنحس في دجى الليل طالع
فذكر كعب فيهم "أبا الهيثم بن التيهان" ولم يذكر "رفاعة".
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي -يعني: المسلمين- قالوا: نعم.
ما قاله العباس بن عبادة للخزرج: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فال: بطل.
2 اليافع: العالي.
3 الخانع: الذليل.
4 ضروح: أي دافع عن نفسه.
ص -67-         إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلًا أسلمتموه؛ فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خِزيُ الدنيا والآخرة، وإن كنتم تَرَوْن أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهكَةِ الأموال1، وقتْل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتْل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفَّينا. قال: الجنة. قالوا: أبسطْ يدك، فبسط يده فبايعوه.
وأما عاصم بن عُمر بن قتادة فقال: والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أعناقهم.
وأما عبد الله بن أبي بكر فقال: ما قال ذلك العباس إلا ليؤخر القوم تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول، فيكون أقوى لأمر القوم. فالله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن هشام: سلول: امرأة من خزاعة،. وهى أم أبي بن مالك بن الحارث.
أول من ضرب على يد الرسول في بيعة العقبة الثانية: قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعُمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أول من ضرب على يده، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التَّيِّهان.
قال ابن إسحاق: فأما معبد بن كعب بن مالك فحدثني في حديثه، عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك، قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم.
الشيطان يصرخ بعد بيعة العقبة: فلما بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجَباجِب والجباجب المنازل2 هل لكم في مُذَمَّم والصُّباة معه، قد اجتمعوا على حربكم؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أزْبُ3 العقبة، هذا ابن أزْيب"، قال ابن هشام. ويقال: ابن أزَيْب أتسمع أي عدو الله أما والله لأفرغنَّ لك.
الأنصار تستعجل الحرب: قال: ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"ارفَضُّوا إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نهكة الأموال: نقصها.
2 المنازل: منازل منى.
3 أزب العقبة: اسم شيطان.

ص -68-         رحالكم". قال: فقال له العباس بن عُبادة بن نَضلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنَّ على أهلِ منى غدًا بأسيافنا؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم نُؤمرْ بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم". قال: فرجعنا إلي مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا.
قريش تجادل الأنصار: قال: فلما أصبحنا غدت علينا جِلَّة قريش، حتى جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا، أن تنشب الحرب بيننا وبينِهم، منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه. قال؛ وقد صدقوا، لم يعلموه. قال: وبعضنا ينظر إلى بعض، قال: ثم قام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان له جديدان. قال: فقلت له كلمة –كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا-: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا، مثل نعلَيْ هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث، فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إليَّ، وقال: والله لتَنْتعَلَنَّهُما. قال: يقول: أبو جابر: مَهْ، أحفظتَ والله الفتى، فاردد إليه نعليه، قال: قلت: والله لا أردّهما، قال: والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلُبَنَّه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول، فقالوا له مثل ما قال كعب من القول، فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليَّ بمثل هذا، وما علمتُه كان، قال: فانصرفوا عنه.
قريش تأسر سعد بن عُبادة: قال: ونفر الناس من مِنى، فتنطَّس القومُ الخبرَ1، فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عُبادة بأذَاخر، والمنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيبًا، فأما المنذر فأعجز القومَ؛ وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنِسْعِ2 رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه، ويجذبونه بجُمته، وكان ذا شعر كثير.
خلاص سعد: قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء أبيض، شَعْشاع، حلو من الرجال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دققوا في البحث عنه.
2 النسع: الشراك الذي يشد به الرحل.

ص -69-         قال ابن هشام: الشَّعْشاع الطويل الحسن. قال رؤبة:
يمطوه من شَعْشاعٍ غيرِ مُودن
يعني: عنق البعير غير قصير، يقول: مودن اليد، أي ناقص اليد. قال: فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خيرٌ، فعند هذا قال: فلما دنا مني رفع يدَه فلكمني لكمةً شديدة قال: فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير قال: فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذا أوى1 لي رجل ممن كان معهم، فقال: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟ قال: قلت: بلَى، والله، لقد كنت أجير لجُبير بن مُطْعِم بن عَدِي بن نَوْفل بن عبد مناف تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف؛ قال: ويحك! فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينَك وبينهما: قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يُضرب بالأبطح ويَهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جوارًا؛ قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارَنا، ويمنعهم أن يُظلموا ببلده. قال: فجاءا فخلَّصا سعدًا من أيديهم فانطلق، وكان الذي لكم سعدًا سُهَيْل بن عَمرو، أخو بني عامر بن لؤي.
قال ابن هشام: وكان الرجل الذي أوى إليه، أبا البَخْتَري بن هشام.
قال ابن إسحاق: وكان أول شعر قيل في الهجرة بيتين، قالهما ضرار2 بن الخطاب بن مرداس، أخو بني محارب بن فهر:
تداركتَ سعدًا عَنوةً فأخذته                     وكان شفاءً لو تداركتَ مُنذِرَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أوى: رحم.
2 كان شاعر قريش وفارسها، ولم يكن في قريش أشعر منه ثم ابن الزبعرى بن قيس بن عدى، وكان جده مرداس رئيس بني محارب بن فهر في الجاهلية يسير فيهم بالمرباع، وهو ربع الغنيمة، وكان أبوه أيام الفجار رئيس بني محارب بن فهر. أسلم ضرار عام الفتح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Share to:

معجبين برنامج تحفيظ القران الكريم على الفايسبوك