الثلاثاء، 3 مارس 2015

جزء أول من ص 239/150

ص -150-      حديث حليمة: كانت حليمة بنت أبي ذُؤيب السَّعْدية، أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي أرضعته1، تُحدِّث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها، وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء، قالت: وذلك في سنة شهباء، لم تُبقِ لنا شيئًا: قالت: فخرجت على أتان لي قمْراء، معنا شارف لنا، والله ما تَبِضُّ بقطرة، وما ننام لَيلَنا أجمعَ من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغدِّيه -قال ابن هشام: ويقال: يغذِّيه2- ولكنا كنا نرجو الغَيْث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فلقد أدَمْتُ3 بالرَّكْب، حتى شقَّ ذلك عليهم ضعفًا وعَجَفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتأباه، إذا قيل لها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأرضعته -عليه السلام- ثُوَيبَة قبل حليمة. أرضعته، وعمه حمزة، وعبد الله بن جحش، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف ذلك لثويبة، ويصلها من المدينة، فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح، فأخبر أنهما ماتا، وسأل عن قرابتها، فلم يجد أحدًا منهم حيًّا. وثويبة كانت جارية لأبي لهب.
2 وقول ابن هشام: ما يغذِّيه بالذال المنقوطة، وهو أتم في المعنى من الاقتصار على ذكر الغذاء دون العشاء، وليس في أصل الشيخ رواية ثالثة، وعند بعض الناس رواية غير هاتين وهي يُعذِبه بعين مهملة وذال منقوطة وباء معجمة بواحدة، ومعناها عندهم: ما يقنعه حتى برفع رأسه، وينقطع عن الرضاع، يقال منه: عذبته وأعذبته: إذا قطعته عن الشرب ونحوه، والعَذُوب: الرافع رأسه عن الماء، وجمعه: عُذوب بالضم، ولا يعرف فَعُولا جمع على فعول غيره: قاله أبو عبيد والذي في الأصل أصح في المعنى والنقل.
3 أي أطلت عليهم المسافة، وتروى أذْمَمْتُ بالركب، تريد: أنها حبستهم، وكأنه من الماء الدائم، وهو الواقف، ويروى: حتى أذَمّت. أى: أذمت الأتان، أي: جاءت بما تذم عليه، أو يكون من قولهم: بر ذَمَّة، أي: قليلة الماء، وليست هذه عند أبي الوليد، ولا في أصل الشيخ أبي بحر، وقد ذكرها قاسم فى الدلائل، ولم يذكر رواية أخرى، وذكر تفسيرها عن أبي عبيدة: أذم بالركب: إذا أبطأ، حتى حبستهم: من البئر الذَّفَةِ، وهى القليلة الماء.

ص -151-      إنه يتيم، وذلك: أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم؟! وما عسى أن تصنع أمه وجَدُّه؟ فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلتُ لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم، فلآخذنَّه، قال: لا عليكِ أن تفعلي، عسى الله أن يجعلَ لنا فيه بركةً. قالت: فذهبتُ إليه فأخذتُه، وما حملني على أخذِه إلا أنى لم أجد غيرَه.
الخير الذي أصاب حليمة: قالت: فلما أخذتُه، رجعتُ به إلى رحلي فلما وضعته في حِجْري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن2، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل، فحلب منها ما شَرِب، وشربتُ معه حتى انتهينا رِيًّا وشبعًا، فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلَّمي والله يا حليمةُ، لقد أخذتِ نَسمةً مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبتُ أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعتْ بالرَّكْبِ ما يقدر عليها شيء من حُمُرِهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذُؤيْب، ويحكِ! أربعي علينا، أليستْ هذه أتانَك التي كنتِ خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله. إنها لهي هي فيقلْنَ: والله إن لها لشأَنًا. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد. وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدبَ منها، فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شِبَاعًا لُبَّنا. فنحلب ونشرب. وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضَرْع. حتى كان الحاضرون من قومنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودًا عند أكثر نساء العرب، حتى جرى المثل: "تجوع المرأة ولا تأكل بثدييها" وكان عند بعضهن لا بأس به، فقد كانت حليمة وسيط في بني سعد، كريمة من كرائم قومها، بدليل اختيار الله تعالى إياها لرضاع نبيه -صلى الله عليه وسلم- كما اختار له أشرف البطون والأصلاب والرضاع كالنسب؛ لأنه يغير الطباع.
وفي المسند عن عائشة –رضي اللَه عنها– ترفعه: "لا تسترضعوا الحمقى، فإن اللبن يورث" ويحتمل أن تكون حليمة ونساء قومها طلبن الرضعاء اضطرارًا للأزمة التي أصابتهم، والسنة الشهباء التي اقتحمتهم.
2 وذكر غير ابن إسحاق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقبل إلا على ثديها الواحد، وكانت تعرض عليه الثدي الآخر، فيأباه كأنه قد أشعر -عليه السلام- أن معه شريكًا في لبانها، وكان مفطورًا على العدل، مجبولا على المشاركة والفضل -صلى الله عليه وسلم.

ص -152-      يقولون لرعيانهم: ويلكم أسرحوا حيث يسرحُ راعي بنت أبي ذُؤيب فتروح أغنامُهم جياعًا ما تَبِضُّ بقطرة لبن، وتروح غنمي شِباعا لُبَّنًا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلتُه؛ وكان يشِبُّ شبابًا لا يشبُّه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جَفرًا.
رجوع حليمة به إلى مكة أول مرة: قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرصُ شيء على مكثه فينا؛ لما كنا نرى من بركته؛ فكلمنا أمَّه، وقلتُ لها: لو تركت بُنَيَّ عندي حتى يغلُظَ، فإني أخشى عليه وباء مكة قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا.
حديث الملكين اللذين شقا بطنه: قالت: فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا بشهر مع أخيه لفي بَهْم لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشى قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقا بطنه، فهما يَسُوطانه1، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعًا وجْهُه. قالت: فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: ما لك يا بُنَيّ، قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعانى وشقَّا بطني، فالتمسا شيئا لا أدري ما هو. قالت: فرجعنا إلى خِبائنا.
حليمة ترد محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى أمه: قالت: وقال لي أبوه: يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، قالت: فاحتملناه، فقدمنا به على أمّه، فقالت: ما أقدمك به يا ظِئْرُ، وقد كنتِ حريصة عليه، وعلى مكثه عندك؟ قالت: فقلت: فقد بلغ الله بابني وقضيت الذي عليَّ، وتخوفتُ الأحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين. قالت: ما هذا شأنك، فأصدُقيني خبرك. قالت: فلم تَدَعْني حتى أخبرتُها. قالت: أفتخوفتِ عليه الشيطانَ؟ قالت: قلت: نعم، قالت: كلا. والله ما للشيطان عليه من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال: سِطت اللبن أو الدم، أو غيرها، أسوطه: إذا ضربت بعضه ببعض. والمسْوَط:عود يُضْرَب به.
وفى رواية أخرى، عن ابن إسحاق أنه نزل عليه كُرْكيان، فشق أحدهما بمنقاره جوفَه، ومج الآخر بمنقاره فيه ثلجًا، أو بردًا، أو نحو هذا، وهي رواية غريبة ذكرها يونس عنه، واختصر ابن إسحاق حديث نزول الملكين عليه، وهو أطول من هذا.

ص -153-      سبيل، وإن لِبُنَيّ لشأنا، أفلا أخبرك خبره. قالت: قلت: بلى. قالت: رأيت حين حملتُ به: أنه خرج مني نور أضاء قصور بُصْرَى من أرض الشام. ثم حملت به، فوالله ما رأيت: من حمل قطُّ كان أخفَّ ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرضِ، رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك، وانطلقي راشدة.
الرسول يُسأل عن نفسه وإجابته –صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني ثَوْر بن يزيد عن بعض أهل العلم، ولا أحسبه إلا عن خالد بن مَعْدان الكَلاعي: أن نفرًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟ قال: "نعم، أنا دعوةُ أبي إبراهيم، وبُشْرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصورَ الشام1، واسْتُرضِعْتُ في بني سعد بن بكر. فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بَهْما لنا: إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطَسْت من ذهب مملوءة ثلجًا. ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي، فشقَّاه فاستخرجا منه عَلَقَةً سوداء فطرحاها. ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه2، ثم قال أحدُهُما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بهم فوزنتُهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك بما فتح الله عليه من تلك البلاد، حتى كانت الخلافة فيها مدة بني أمية، واستضاءت تلك البلاد وغيرها بنوره -صلى الله عليه وسلم- وكذلك رأى خالد بن سعيد بن العاص قبل المبعث بيسير نورًا يخرج من زمزم، حتى ظهرت له البُسر فى نخيل يثرب، فقصها على أخيه عمرو، فقال له: إنها حفيرة عبد المطلب، وإن هذا النور منهم، فكان ذلك سبب مبادرته إلى الإسلام.
2 كان هذا التقديس وهذا التطهير مرتين.
الأولى: في حال الطفولية لينقى قلبه من مغمز الشيطان، وليطهر ويُقدس من كل خلق ذميم، حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، وحتى لا يكون في قلبه شيء إلا التوحيد؛ ولذلك قال: "فوليا عني"، يعني: الملكين، وكأني أعاين الأمر معاينة.
والثانية: في حال الاكتهال، وبعد ما نُبئ، وعندما أراد الله أن يرفعه إلى الحفرة المقدَّسة التي لا يصعد إليها إلا مقدس.
وعرج به هناك ليفرض عليه الصلاة، وليصلي بملائكة السموات، من شأن الصلاة: الطهور؛ فقُدس ظاهرًا وباطنًا، وغُسل بماء زمزم.

ص -154-      ثم قال: زنه بمائة من أمته. فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزننى بهم فوزنتهم. فقال: دعه عنك، فوالله لو وزنته بأمته لوزنها".
رعيه -صلى الله عليه وسلم- الغنم وافتخاره بقرشيته: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من نبي إلا وقد رعَى الغنم"، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: "وأنا"1.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لأصحابه:
"أنا أعربكم، أنا قرشي، واستُرضعت في بني سعد بن بكر".
افتقاد حليمة له صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وزعم الناس فيما يتحدثون -والله أعلم- أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلَّها في الناس، وهي مُقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب، فقالت له: إني قد قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلَّني، فوالله ما أدري أين هو، فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده، فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل بن أسد، ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب، فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فجعله على عنقه، وهو يطوف بالكعبة يُعَوِّذه ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمه آمنة.
سبب آخر لرجوع حليمة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة: قال ابن إسحاق: وحدثنى بعضُ أهل العلم، أن مما هاج أمه السعدية على رده إلى أمه، مع ما ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه، أن نفرًا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه، وسألوها عنه وقلبوه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى مَلِكنا وبلدنا؛ فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره، فزعم الذي حدثني أنها لم تكد تنفلت به منهم2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وإنما أراد ابن إسحاق بهذا الحديث رعايته الغنم في بني سعد مع أخيه من الرضاعة، وقد ثبت في الصحيح أنه رعاها بمكة أيضًا على قراريط لأهل مكة، ذكره البخاري.
2 وكان رد حليمة إياه إلى أمه وهو ابن خمس سنين وشهرًا، فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر، ثم لم تره بعد ذلك إلا مرتين:
إحداهما بعد تزويجه خديجة -رضي الله عنها- جاءته تشكو إليه السنة، وأن قومها قد أسنتوا -أجدبوا- فكلم لها خديجة، فأعطتها عشرين رأسًا من غنم وبكرات، والمرة الثانية: يوم حُنَين وسيأتي ذكرها -إن شاء الله.

ص -155-      وفاة آمنة: وحال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع جده عبد المطلب بعدها
وفاة أمه صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أمه آمنة بنت وهب، وجدِّه عبد المطلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتًا حسنًا، لما يريد به من كرامته، فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستَّ سنين، تُوفيت أمه آمنة بنت وهب.
عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وفاة أمه: قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم:
أن أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آمنة تُوفيت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم– ابنُ ستِّ سنين بالأبواء، بين مكة، والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله، من بني عدي بن النجار تُزيره إياهم، فماتت، وهى راجعة به إلى مكة1.
قال ابن هشام: أم عبد المطلب بن هاشم: سَلْمى بنت عَمرو النَّجَّارية، فهذه الخئولة التى ذكرها ابن إسحاق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال القرطبي في كتابه التذكرة فى أحوال الموتى وأمور الآخرة: جزم أبو بكر الخطيب في كتاب: السابق واللاحق، وأبو حفص عمر بن شاهين في كتاب: الناسخ والمنسوخ، له في الحديث بإسناديهما عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: حج بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فمر على قبر أمه، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه -صلى الله عليه وسلم- ثم نزل فقال: يا حميراء استمسكي، فاستندت إلى جانب البعير، فمكث عني طويلا مليًّا، ثم إنه عاد إلي، وهو فرح مبتسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله نزلت من عندي، وأنت باك حزين مغتم؛ فبكيت لبكائك، ثم عدت إليَّ، وأنت فرح مبتسم، فمم ذا يا رسول الله، فقال: "ذهبت لقبر آمنة أمي، فسألت أن يحييها، فأحياها فأمنت بي"، أو قال: "فآمنت. وردها الله عز وجل".

ص -156-      إجلال عبد المطلب له "صلى الله عليه وسلم": قال ابن إسحاق: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يُوضعَ لعبد المطلب فِراش في ظلِّ الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فِراشه ذلك، حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتى، وهو غلام جَفْر، حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه، ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا، ثم يجلسه معه على الفراش ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع.
وفاة عبد المطلب وما رُثي به من الشعر:
فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثماني سنين هلك عبد المطلب بن هاشم، وذلك بعد الفيل بثماني سنين.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن مَعْبد بن عباس، عن بعض أهله: أن عبد المطلب توفي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن ثماني سنين.
عبد المطلب يطلب من بناته أن يرثينه: قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن سعيد بن المسيب: أن عبد المطلب لما حضرته الوفاة، وعرف أنه ميت جمع بناته، وكُنَّ ستَّ نسوة: صَفية، وبَرَّة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وأمَيْمة، وأرْوَى، فقال لهن: ابكين عليَّ حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت.
قال ابن هشام: ولم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر، إلا أنه لما رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب، كتبناه:
رثاء صفية بنت عبد المطلب لأبيها: فقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أباها:
أرِقتُ لصوتِ نائحةٍ بليلٍ       على رَجلٍ بقارعة الصَّعيدِ
ففاضت عندَ ذلكُمُ دموعي                     على خدي كَمُنْحَدِر الفريدِ1

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يروى: كمنحدر بكسر الدال أي: كالدر المنحدر، ومنحدر بفتح الدال فيكون التشبيه راجعًا للفيض، فعلى رواية الكسر: شبهت الدمع بالدر الفريد، وعلى رواية الفتح شبهت الفيض بالانحدار.

ص -157-                      على رجلٍ كريمٍ غيرِ وَغْلٍ      له الفضلُ المُبينُ على العبيدِ
على الفيَّاض شَيْبَةَ ذي المعالي                أبيكِ الخيرِ وارثِ كلَّ جودِ1
صدوقٍ في المواطِن غير نِكْسٍ                   ولا سَخْت المقامِ ولا سَنيد2
طويلِ الباع، أرْوَعِ شَيْظَمِىٍّ      مُطَاعٍ في عشيرته حميدِ
رفيعِ البيت أبلَج ذي فُضول      وغيثِ الناس في الزمن الحَرودِ
كريمِ الجدِّ ليس بذي وُصُومٍ     يروقُ على المُسوَّد والْمَسُودِ
عظيم الحِلمِ من نفرٍ كرام       خَضَارِمة مَلَاوِثَةٍ أسودِ3
فلو خَلَد امرؤ لقديم مجد        ولكن لا سبيل إلى الخلودِ
لكان مُخَلَّدًا أخرى الليالى       لفضلِ المجدِ والحسبِ التليدِ
رثاء بَرَّة بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت بَرَّة بنت عبد المطلب تبكي أباها:
أعَيْنيَّ جودا بدمعٍ درر               على طَيِّب الخِيم والمعتصرْ
على ماجد الجَدِّ واري الزنادِ       جميل المُحَيَّا عظيم الخطرْ
على شَيْبةِ الحمدِ ذي المَكْرُمات                   وذي المجد والعزِّ والمفتخرْ
وذي الحلمِ والفصْلِ في النائبات                    كثيرِ المكارَمِ، جَمِّ الفَخَرْ
له فَضْلُ مجدٍ على قومِه            مُنير، يلوحُ كضوءِ القمرْ
أتته المنايا، فلم تُشْوِه              بصرْفِ الليالى، ورَيْب القدَرْ4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قولها: أبيك الخيْر. أرادت: الخيِّر فخففت، كما يقال: هيْن وهيِّن، وفى التنزيل:
{خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70].
2 الشخت: ضد الضخم، تقول: ليس كذلك، ولكنه ضخم المقام ظاهره. والسنيد: الضعيف الذي لا يستقل بنفسه، حتى يسند رأيه إلى غيره.
3 ملاوثة: جمع ملواث من اللوثة، وهي القوة، كما قال المُكَعْبَر:
عند الحفيظة إن ذو لوثة لاثا
وقد قيل: إن اسم الليث منه أخذ، إلا أن واوه انقلبت ياء؛ لأنه فيعل، فخفف.
4 لم تشوه: أي لم تصب الشوى -ما لا تقتل الإصابة فيه كاليدين والرجلين- بل أصابت المقتل، وقد تقدم في حديث عبد المطلب وضربه بالقداح على عبد الله، وكان يرى أن السهم إذا خرج على غيره أنه قد أشوي، أي: قد أخطأ مقتله، أي: مقتل عبد المطلب وابنه، ومن رواه: أشوَى بفتح الواو فالسهم هو الذي أشوى وأخطأ، وبكلا الضبطين وجدته، ويقال أيضًا: أشوى الزرع: إذا أفرك فالأول من الشوى، وهذا من الشي بالنار، قاله أبو حنيفة.
ص -158-      رثاء عاتكة بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت عاتكة بنت عبد المطلب تبكي أباها:
أعَيْنيَّ جودَا، ولا تَبْخَلا          بدمعِكما بعدَ نَوْم النيام
أعَيْنيَّ واسحَنْفرا واسكُبا      وشوبا بكاءَكما بالْتِدام
أعَيْنيَّ، واستخرطا واسجُما                     على رَجُلٍ غير نِكْس كَهام
كريم المساعي، وفيّ الذمام1                 على شَيْبةِ الحمد، واري الزناد
وذي مَصْدَق بعدُ ثَبْت المُقام                    وسيْفٍ لدى الحرب صَمْصامة
ومُرْدِي المخاصمَ عند الخصام2                 وسهل الخليقة طَلْق اليديْن
وفٍ عُدْمِلىٍّ صميم لُهَام3      تَبَنَّك في باذخ بيته
رفيع الذؤابةِ صَعْب المرام
رثاء أم حكيم بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب تبكي أباها:
ألا يا عينُ جودي واستهلِّي    وبَكِّي ذا النَّدَى والمَكْرُماتِ
ألا يا عينُ ويْحَك أسعفيني     بدمعٍ من دموعٍ هاطلاتِ
وبَكِّي خَيرَ من رَكبَ المطايا     أباكِ الخيرَ تيَّار الفُراتِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 على الجحفل. جعلته كالجحفل، أي: يقوم وحده مقامه، والجحفل: لفظ منحوت من أصلين، من: جحف وجفل: وذلك أنه يجحف ما يمر عليه أي: يقشره، ويجفل: أي يقلع ونظيره نهشل للذئب، هو عندهم منحوت من أصلين أيضًا، من نهشت اللحم ونشلته.
2 المردى: مُفْعَل من الردى، وهو الحجر الذي يقتل من أصيب به، وفى المثل "كل ضب عنده مرداته".
3 قولها: وَف. أي: وَفيّ، وخفف للضرورة، وقولها: عُدْمُلِيّ. العدملي: الشديد. واللهام: فعال من لهمت الشيء. ألهمه: إذا ابتلعته، قال الراجز:
كالحوت لا يرويه شيء يلهمه                  يصبح عطشانًا وفي البحر فمه
ومنه سمي الجيش: لُهامًا.

ص -159-                    طويلَ الباع شَيْبة ذا المعالي  كريمَ الْخَيم محمودَ الهِباتِ
وَصُولًا للقرابة هِبْرِزِيّا            وغَيْثا في السنين المُمْحِلاتِ
ولَيْثًا حين تَشْتجرُ العَوالي     تروق له عيونُ الناظرات
عَقيلَ بني كِنانةَ والمُرَجَّى    إذا ما الدهرُ أقبلَ بالهِناتِ
ومَفْزَعَها إذا ما هاج هَيْج       بِداهيةٍ، وخَصْمَ المُعْضِلاتِ
فبكِّيه ولا تَسَمِي بحُزْنٍ        وبكِّي ما بقيتِ الباكياتِ
رثاء أميمة بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت أميمة بنت عبد المطلب تبكي أباها:
ألا هلك الراعي العشيرةَ ذو الفَقْدِ                 وساقي الحجيجَ، والمحامي عن المجدِ
ومن يُؤْلف الضيفَ الغريبَ بيوتَه                     إذا ما سماءُ الناسِ تبخلُ بالرعدِ
كسبتَ وليدًا خير ما يكسبُ الفتى               فلم تَنْفكك تزدادُ يا شَيْبةَ الحمدِ
أبو الحارث الفياض، خلَّى مكانَه                   فلا تبعدنْ، فكلُّ حي إلى بُعْدِ
فإني لباك ما بقيتُ ومُوجع        وكان له أهلًا لما كان من وَجْدِي
سقاك وليّ الناس في القبر مُمطرًا               فسوف أبَكِّيه، وإن كان في اللحْدِ
فقد كان زَيْنا للعشيرةِ كلِّها       وكان حميدًا حيثُ ما كان مِنْ حَمْدِ
رثاء أروى بنت عبد المطلب لأبيها: وقالت أروى بنت عبد المطلب تبكي أباها:
بكت عيني، وحُقَّ لها البكاءُ       على سَمْحٍ، سجيتُه الحياءُ
على سَهلِ الخليقةِ أبطَحي       كريم الخيم، نيته العَلاءُ
على الفياضِ شيبةَ ذي المعالي                   أبيك الخير ليس له كِفاء
طويلِ الباع أمْلس، شَيْظميّ      أغرّ كأن غرتَه ضياءُ
أقب الكَشْحِ، أروعَ ذي فُضولٍ       له المجدُ المقدَّمُ والسناءُ
أبيِّ الضيْمِ، أبلج هِبْرِزيّ            قديم المجد ليس له خَفاءُ
ومَعْقَلِ مالكٍ، وربيعِ فِهْرٍ             وفاصِلِها إذا التُمِس القَضَاءُ1

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومعقل مالك وربيع فهد. تريد: بني مالك بن النضر بن كنانة.
ص -160-                      وكان هو الفتى كرمًا وجودا   وبأسًا حين تنسَكب الدماءُ
إذا هاب الكُماةُ الموتَ حتى     كأن قلوبَ أكثرهم هواءُ
مضى قُدُمًا بذي رُبَدٍ خَشيب    عليه حين تُبْصره البهاءُ1
إعجاب عبد المطلب بالرثاء: قال ابن إسحاق: فزعم لي محمد بن سعيد بن المسيّب أنه أشار برأسه، وقد أصمت: أن هكذا فابكينني.
نسب المسيِّب بن حَزْن: قال ابن هشام: المسيِّب بن حَزْن بن أبى وَهْب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
رثاء حذيفة بن غانم لعبد المطلب: قال ابن إسحاق: وقال حذيفة2 بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤيّ يبكي عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ويذكر فضله، وفضل قُصي على قريش، وفضل ولده من بعده عليهم، وذلك أنه أخذ بغرم أربعة آلاف درهم بمكة، فوقف بها فمر به أبو لهب: عبد العزى بن عبد المطلب، فافتكه:
أعينيّ جودا بالدموع على الصدر             ولا تسأما أسْقِيتُما سَبَل القَطر
وجودا بدمع، واسفحا كل شارق              بكاء امرئ لم يُشْوِه نائب الدهر
وسُحَّا، وجُمَّا، واسجما ما بقيتما             على ذي حياء من قريش، وذي سِتر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قولها: بذي ربد: تريد: سيفًا ذا طرائق، والربد: الطرائق. وقال صخر الغي:
وصارم أخلصت خشبته        أبيض فهو في متنه ربد
2 وهو والد أبي جَهْم بن حُذيفة، واسم أبي جهم: عبيد، وهو الذي أهدى الخميصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى علمها". الحديث. وقد روي أيضًا هذا الحديث على وجه آخر، وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بخميصتين، فأعطى إحداهما أبا جهم، وأمسك الأخرى، وفيها علم، فلما نظر إلى علمها في الصلاة أرسلها إلى أبي جهم، وأخذ الأخرى بدلا منها، هكذا رواه الزبير: وأم أبي جهم: يُسيرة بنت عبد الله بن أذاة بن رباح، وابن أذاة: هو خال أبي قحافة، وسيأتي نسب أمه، وقد قيل: إن الشعر لحذافة بن غانم، وهو أخو حذيفة والد خارجة بن حذافة.
ص -161-            على رجل جَلْدِ القُوى، ذي حفيظة         جميل المحيَّا غير نِكْس ولا هذْرِ1
على الماجدِ البُهلول ذي الباع واللهى                 ربيع لُؤيّ في القُحُوط وفي العُسْر
على خير حافٍ من مَعَد وناعل         كريم المساعي، طيّب الخِيم والنحْرِ
وخيرهمُ أصلًا وفرعًا ومعدنا              وأحظاهم بالمُكرمات وبالذكر
وأولاهمُ بالمجدِ والحلمِ والنُّهى        وبالفضْل عند المُجْحِفات من الغُبْر
على شيبةِ الحمدِ الذي كان وجهُه                     يضيءُ سوادَ الليل كالقمر البدْرِ
وساقي الحجيجَ ثم للخُبز هاشمٌ     وعبد مناف، ذلك السيد الفِهْري
طوى زمزمًا عند المقام، فأصبحتْ     سقايتُه فخرًا على كلِّ ذي فَخْر
لِيَبْكِ عليه كلُّ عانٍ بكرُبةٍ                آل قُصي من مُقلّ وذي وَفْرِ
بنوه سَراة، كهلُهم وشبابُهم            تفيَّق عنهمْ بيضةُ الطائر الصقر
قُصَي الذي عادى كنانةَ كلَّها            ورابط بيتَ الله في العُسر واليسر
فإن تكُ غالته المنايا وصرفُها            فقد عاش ميمونَ النقيبةِ والأمرِ
وأبقى رجالًا سادةً غيرَ عُزَّلٍ             مصاليتَ، أمثالَ الرُّدَيْنيَّة السُّمْرِ
أبو عتبة الملقَى إليَّ حباؤه            أغرُّ، هِجانُ اللونِ من نَفر غُرِّ
وحمزةُ مثلُ البدرِ، يهتز للنَّدَى          نقيُّ الثيابِ والذّمامِ من الغَدْرِ
وعبدُ منافٍ ماجد ذو حَفيظةٍ            وَصولٌ لذي القربى رحيم بذي الصهرِ
كهولُهم خيرُ الكهولِ، ونسلُهم          كنسلِ الملوكِ، لا تبورُ ولا تحرى2
متى ما تُلاقي منهمُ الدهرَ ناشئًا     تجدْه بإجْريَّا أوائله يَجْري
هُمُ ملئوا البطحَاء مجدًا وعزَّةً           إذا استُبق الخيراتُ في سالف العصر
وفيهم بناة للعُلا وعِمارة                  وعبدُ مناف جَدُّهمْ، جابرُ الكسر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النكس من السهام: الذي نكس فى الكنانة ليميزه الرامي، فلا يأخذه لرداءته. وقيل: الذي انكسر أعلاه؛ فنكس ورُد أعلاه أسفله، وهو غير جيد للرمي.
2 لا تبور ولا تحرى، أي: لا تهلك ولا تنقص، ويقال للأفعى: حارية لرقتها. وفي المأثور: ما زال جسم أبي بكر يحرى حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: ينقص لحمه، حتى مات.
ص -162-                       بإنكاحِ عوفي بنتَه ليجيرَنا    من أعدائنا إذ أسلمتنا بنو فِهر
فسرنا تِهامِي البلادِ ونجدَها     بأمنِه حتى خاضت العيرُ في البحر
وهم حضروا والناسُ بادٍ فريقُهم                   وليس بها إلا شيوخ بني عمرو1
بنوْها ديارًا جَمةً، وطَوَوْا بها       بئارًا تسُحُّ الماءَ من ثَبَجِ البحرِ
لكي يشربُ الحجاجُ منها، وغيرُهم              إذا ابتدروها صُبح تابعة النحر
ثلاثة أيام تظلُّ ركابهُمُ             مُخيسةً بين الأخاشبِ والحِجْرِ
وقِدْما غَنِينا قبلَ ذلك حِقبةً       ولا نستَقي إلا بخُمَّ أو الحَفْرِ
وهم يغفرون الذنبَ يُنقَم دونَه                     ويعفون عن قولِ السفاهةِ والهُجْرِ
وهم جمعوا حلفَ الأحابيش كلِّها                 وهم نكَّلوا عنا غُواةَ بني بكرِ
فخارجَ إما أهلكنَّ، فلا تزل        لهم شاكرًا حتى تُغيَّب في القبرِ
ولا تنس ما أسدَى ابنُ لُبنى؛ فإنه               قد أسدى يدًا محقوقةً منك بالشكرِ
وأنت ابن لبنى من قصي إذا انتموا               بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر
وأنت تناولت العُلا، فجمعتها      إلى مَحتدٍ للمجدِ ذي ثَبَج جَسْرِ
سبقتَ وفُتَّ القومَ بَذْلًا ونائلًا    وسُدْتَ وليدًا كلَّ ذي سؤددٍ غَمْرِ
وأمُّك سِر من خُزاعة جوهرٌ       إذا حَصَّل الأنسابَ يوما ذوو الخُبْرِ
إلى سبأ الأبطال تُنْمَى، وتنتمى                 فأكرمْ بها منسوبةً في ذُرا الزُّهرِ
أبو شَمِر منهم، وعمرُو بنُ مالك                   وذو جَدَنٍ من قومها وأبو الجبر2
وأسعدُ قادَ الناسَ عشرين حِجةً                  يؤيدُ في تلك المواطنِ بالنصر3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد: بني هاشم؛ لأن اسمه عمرو.
2 أبو شمر، وهو شمر الذي بنى سمرقند، وأبوه: مالك، يقال له: الأملوك، ويحتمل أن يكون أراد أبا شمر الغساني والد الحارث بن أبي شمر.
وعمرو بن مالك الذي ذكر: أحسبه عمرًا ذا الأذعار، وقد تقدم في التبابعة، وهم من ملوك اليمن، وإنما جعلهم مفخرًا لأبي لهب؛ لأن أمه خزاعية من سبأ، والتبابعة كلهم من حمير بن سبأ.
وأبو جبر الذي ذكره في هذا الشعر: ملك من ملوك اليمن، ذكر القتبي أن سمية أم زياد، كانت لأبي جبر من ملوك اليمن، دفعها إلى الحارث بن كلدة المتطبب من طب طبه.
3 أسعد أبو حسان بن أسعد، وقد تقدم في التبابعة.
ص -163-      قال ابن هشام: "أمك سِرٌّ من خُزاعة"، يعني أبا لهب، أمه: لبنى بنت هاجر الخزاعي، وقوله: "بإجريا أوائله" عن غير ابن إسحاق.
رثاء مطرود الخزاعي لعبد المطلب: قال ابن إسحاق: وقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكي عبد المطلب وبني عبد مناف:
يا أيها الرجلُ المُحَوِّل رحلَه                  هلا سألتَ عن آلِ عبد منافِ
هَبَلَتْكَ أمُّك، لو حَللتَ بدارِهم              ضَمِنُوك من جُرْم ومن إقْرافِ1
الخالطين غنيَّهم بفقيرِهمً                  حتى يعودَ فقيرُهم كالكافي
المنعِمين إذا النجوم تغيَّرت                 والظاعنين لرحلةِ الِإيلافِ
والمطعمينَ إذا الرياحُ تناوحتْ               حتى تغيبَ الشمسُ في الرّجَّاف2
إمَّا هَلَكْتَ أبا الفِعالِ فما جرى              من فوقِ مثلك عَقْد ذاتِ نطافِ3
إلا أبيك أخي المكارم وحدَه                 وَالفيض مُطَّلب أبي الأضيافِ4
قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي زمزم والسقاية عليها بعده العباس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: منعوك من أن تنُكح بناتك أو أخواتك من لئيم، فيكون الابن مقرفًا للؤم أبيه، وكرم أمه، فيلحقك وصم من ذلك، ونحو منه قول مهلهل:
أنكحها فقدُها الأراقم في     جنب، وكان الحباء من أدم
أي: أنكحت لغربتها من غير كفء.
2 يعني البحر لأنه يرجف. ومن أسمائه أيضًا: خضارة، والدأماء وأبو خالد.
3 النطف: اللؤلؤ الصافي. ووصيفة منطفة أي: مقرطة بتوأمتين والنطف في غير هذا: التلطخ بالعيب، وكلاهما من أصل واحد، وإن كانا في الظاهر متضادين في المعنى؛ لأن النطفة هي الماء القليل، وقد يكون الكثير، وكأن اللؤلؤ الصافي أخذ من صفاء النطفة. والنطف الذي هو العيب: أخذ من نطفة الإنسان، وهي ماؤه، أي: كأنه لطخ بها.
4 والفيض مطلب أي الأضياف.يريد: أنه كان لأضيافه كالأب. والعرب تقول لكل جواد: أبو الأضياف: كما قال مرة بن محكان:
أدعى أباهم، ولم أقرِف بأمهم                 وقد عَمِرْتُ ولم أعرف لهم نسبًا

ص -164-      ابن عبد المطلب، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنًّا1، فلم تزل إليه، حتى قام الإسلام وهي بيده. فأقرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له على ما مضى من ولايته، فهي إلى آل العباس، بولاية العباس إياها، إلى اليوم.
كفالة أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد عبد المطلب مع عمه أبي طالب، وكان عبد المطلب -فيما يزعمون- يوصي به عمَّه أبا طالب؛ وذلك لأن عبد الله أبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا طالب أخوان لأبٍ وأم. أمهما: فاطمة بنت عَمرو بن عائذ بن عَبْد بن عمران بن مخزوم.
قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم.
قال ابن إسحاق: وكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد جده، فكان إليه ومعه.
اللهبي العائف: قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه: أن رجلاً من لِهْبٍ قال ابن هشام: ولهْب: من أزد شَنُوءة2، كان عائفًا، فكان إذا قَدِم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم، ويعتافُ3 لهم فيهم. قال: فأتى به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقول السهيلي مما منعه النحويون أن يقال: زيد أفضل إخوته، وليس بممتنع، وهو موجود في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وغيره، وحسن؛ لأن المعنى: زيد يفضل إخوته، أو يفضل قومه؛ ولذلك ساغ فيه التنكير، وإنما الذي يمتنع بإجماع: إضافة أفعل إلى التثنية مثل أن تقول: هو أكرم أخويه، إلا أن تقول: الأخوين، بغير إضافة.
2 وقال غيره: وهو لهب بن أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. وهي القبيلة التي تُعرف بالعيافة والزجر.
3 يعتاف لهم: هو يفتعل من العيْف. يقال: عفت الطير. واعتفتها عيافة واعتيافًا: وعفت الطعام أعافه عَيْفًا. وعافت الطير الماء عيافًا.

ص -165-      أبو طالب، وهو غلام مع من يأتيه، فنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال: الغلام. عليَّ به فلما رأى أبو طالب حرصَه عليه غيَّبه عنه، فجعل يقول: ويلكم! رُدوا عليَّ الغلامَ الذي رأيت آنفًا، فوالله ليكوننَّ له شأن. قال: فانطلق أبو طالب.
قصة بحيرى:
محمد -صلى الله عليه وسلم- يخرج مع عمه إلى الشام: قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في رَكْب تاجرًا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع المسير صَبَّ1 به رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما يزعمون- فرقَّ له، وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدًا، أو كما قال. فخرج به معه2.
بحيرى يحتفي بتجار قريش: فلما نزل الركب بُصْرَى من أرض الشام، وبها راهب يقال له: بَحيرَى3 في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قطُّ راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها -فيما يزعمون- يتوارثونه كابرًا عن كابر. فلما نزلوا ذلك العام ببحِيرى، وكانوا كثيرًا ما يمرون به قبل ذلك، فلا يكلمهم، ولا يَعْرِض لهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصبابة: رقة الشوق، يقال: صَبِبْت -بكسر الباء-أصَبُّ، ويذكر عن بعض السلف أنه قرأ: "أصَبُّ إليهن وأكن من الجاهلين" وفي غير رواية أبي بحر: ضبث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: لزمه. قال الشاعر:
كأن فؤادي في يد ضَبَثَتْ به                  مُحاذِرة أن يَقضِب الحبل قاضبه
2 كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك ابن تسع سنين فيما ذكر بعض من ألَّف السير، وقال الطبري: ابن اثنتي عشرة سنةً.
3 وقع في سيرة الزهري أن بَحِيرَى كان حبرًا من يهود تيماء، وفي المسعودي: أنه كان من عبد القيس، واسمه: سَرجِس، وفى المعارف لابن قتيبة، قال: سُمِع قبل الإسلام بقليل هاتف يهتف: ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة: بحيرى، ورباب بن البراء الشِّني، والثالث: المنتظر، فكان الثالث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال القتبي: وكان قبر رباب الشني، وقبر ولده من بعده، لا يزال يُرى عليها طَشُّ، والطش: المطر الضعيف.

ص -166-      حتى كان ذلك العام. فلما نزلوا به قريبًا من صومعته صنع لهم طعامًا كثيرًا، وذلك -فيما يزعمون- عن شيء رآه في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تُظِلُّه من بين القوم. قال: ثم أقبلوا فنزلوا في ظلِّ شجرةٍ قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلَّت الشجرةَ، وتهصَّرت أغصانُ الشجرةِ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى استظلَّ تحتها، فلما رأى ذلك بَحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصُنع، ثم أرسل إليهم، فقال: إني قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا، كلكم صغيرُكم وكبيركم وعبدُكم وحرُّكم، فقال له رجل منهم: والله يا بَحيرَى إن لك لشأنًا اليوم! ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرًا، فما شأنك اليومَ؟! قال له بَحيرَى: صدقتَ، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببتُ أن أكرمَكم، وأصنعَ لكم طعامًا، فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم– من بين القومِ، لحداثة سنِّه، في رحالِ القوم تحت الشجرة، فلما نظر بَحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش! لا يتخلفنَّ أحدٌ منكم عن طعامي، قالوا له: يا بَحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيَك إلا غلام، وهو أحدث القوم سِنًّا، فتخلف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا، ادعوه، فليحضرْ هذا الطعام معكم. قال: فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان لَلُؤمٌ بنا أن يتخلف ابنُ عبد الله بن عبد المطب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه، وأجلسه مع القوم.
بحيرى يتثبت من محمد صلى الله عليه وسلم: فلما رآه بَحيرى، جعل يلحظه لحظًا شديدًا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القومُ من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال: يا غلامُ، أسالك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بَحيرى ذلك؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قال: لا تسألني باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغضتُ شيئًا قط بغضهما، فقال له بَحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله: من نومه وهيئته وأمورِه، فجعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم– يخبره، فيوافق ذلك ما عند بَحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهرهِ؛ فرأى خَاتَمَ النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.

ص -167-      قال ابن هشام: وكان مثلَ أثرِ المِحْجَم1.
بَحيرى يوصي أبا طالب بمحمد صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بَحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حُبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهودَ، فوالله لئن رأوْه، وعرفوا منه ما عرفت لَيَبْغُنه شرًّا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرعْ به إلى بلاده.
بعض من أهل الكتاب يريدون بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وسلم الشر:
فخرج به عمه أبو طالب سريعًا، حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام فزعموا فيما روى الناس: أن زرَيْرًا وتَمامًا ودَريسًا -وهم نفر من أهل الكتاب- قد كانوا رأوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه، فردهم عنه بَحيرى، وذكَّرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكرِه وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، ولم يزل بهم، حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.
محمد صلى الله عليه وسلم يشب على مكارم الأخلاق:
فشب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى يكلؤه ويحفظُه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لِمَا يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضلَ قومه مروءة، وأحسنَهم خُلقًا، وأكرمَهم حسبًا، وأحسنَهم جوارًا، وأعظمهم حِلمًا، وأصدقَهم حديثًا، وأعظمَهم أمانةً، وأبعدهم من الفُحش والأخلاق التي تدنِّس الرجال تنزُّها وتكرمًا، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لِمَا جمع الله فيه من الأمورِ الصالحة.
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدث عن حفظ الله له: وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذُكر لي يحدِّث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني: أثر المحجمة القابضة على اللحم، حتى يكون ناتئًا. وفى الخبر أنه كان حوله خِيلَان فيها شعرات سود، وفي صفته أيضًا أنه كان كالتفاحة، وكزر الحجلة. وفي حديث آخر: كان كبيضة الحمامة. وفي حديث عياذ بن عبد عمرو: قال، رأيت خاتم النبوة، وكان كركبة العنز.

ص -168-      "لقد رأيتُني في غلمانِ قريش ننقل حجارةً لبعضِ ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرَّى، وأخذ إزارَه، فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارةَ، فإني لأقْبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم -ما أراه- لكمةً وجيعةً ثم قال: شُدَّ عليك إزارَك. قال: "فأخذته وشددته عليَّ، ثم جعلت أحملُ الحجارةَ على رقبتي وإزاري عليَّ من بين أصحابي"1.
حرب الفِجَار:
قال ابن هشامٍ: فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعَ عشْرةَ سنةً، أو خَمسَ عشْرةَ سنة -فيما حدثني أبو عُبيدة النحوي، عن أبي عَمْرو بن العَلاء-هاجت حرب الفِجَار2 بين قريش ومن معها من كِنانة، وبين قَيْس عَيْلان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح فى حين بنيان الكعبة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ينقل الحجارة مع قومه إليها، وكانوا يجعلون أزُرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحملها على عاتقه، وإزاره مشدود به، فقال له العباس رضي الله عنه: يابن أخي! لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل فسقط مغشيًّا عليه، ثم قال: إزاري إزاري! فشُد عليه إزاره، وقام بحمل الحجارة، وفي حديث آخر: أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن شأنه فأخبره أنه نُودي من السماء: أن اشدد عليك إزارك يا محمد، قال: وإنه لأول ما نودي، وحديث ابن إسحاق إن صح أن كان في حال صغره إذا كان يلعب مع الغلمان فمحمله أن هذا الأمر كان مرتين، مرة في حال صغره ومرة في أول اكتهاله عند بنيان الكعبة. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص208-209".
2 الفجار بكسر الفاء بمعنى: المُفَاجَرة كالقتال والمقاتلة، وذلك أنه كان قتالا في الشهر الحرام، ففجروا فيه جميعًا، فسمي: الفجار.
فجارات العرب: وكانت للعرب فجارات أربع، ذكرها المسعودي، آخرها: فجار البراض المذكورة في السيرة وكان لكنانة ولقيس فيه أربعة أيام مذكورة: يوم شَمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ، ويوم الشَّرِب، وهو أعظمها يومًا، وفيه قيد حرب بن أمية وسفيان، وأبو سفيان أبناء أمية أنفسهم كي لا يفروا، فسُموا: العنابس، ويوم الحريرة عند نخلة، ويوم الشرب انهزمت قيس إلا بني نضر منهم، فإنهم ثبتوا، وإنما لم يقاتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه، وكان ينبل عليهم، وقد كان بلغ سن القتال؛ لأنها كانت حرب فجار، وكانوا أيضًا كلهم كفارًا، ولم يأذن الله تعالى لمؤمن أن يقاتل إلا لتكون كلمة الله هي العليا.

ص -169-      سببها: وكان الذي هاجها أن عُروةَ الرَّحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بن هوازن، أجار لَطيمةً1 للنعمان بن المُنذِر، فقال له البرَّاض بن قيس، أحد بني ضَمرة بن بكر بن عبد مَناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم، وعلى الخلق، فخرج فيها عروة الرحَّال، وخرج البرَّاض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتَيْمَن ذي طِلال بالعالية، غفل عُروة، فوثب عليه البراض، فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سُمِّي: الفجار. وقال البراض في ذلك:
وداهيةٍ تُهمُّ الناسَ قبلي                     شَدَدْتُ لها -بني بكر- ضُلوعي
هدمتُ بها بيوتَ بني كلابٍ                  وأرضعتُ المواليَ بالضُّروع2
رفعتُ له بذي طَلَّالَ كفِّي                     فَخَرَّ يميدُ كالجِذْعِ الصريع3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اللطيمة: عير تحمل البز والعطر.
2 الضروع: جمع ضرع، هو في معنى قولهم: لئيم راضع، أي: ألحقت الموالي بمنزلتهم من اللؤم ورضاع الضروع، وأظهرت رذالتهم وهتكت بيوت أشراف بني كلاب وصرحائهم.
3 قول البراض: رفعت له بذي طلال كفي. فلم يصرفه، يجوز أن يكون جعله اسم بقعة، فترك صرف الاسم للتأنيث والتعريف، فإن قلت: كان يجب أن يقول: بذات طلال، أي: ذات هذا الاسم المؤنث، كما قالوا: ذو عمرو أي: صاحب هذا الاسم، ولو كانت أنثى، لقالوا: ذات هند، مثلًا. فالجواب: أن قوله: "بذي" يجوز أن يكون وصفًا لطريق، أو جانب مضاف إلى طلال اسم البقعة. وأحسن من هذا كله أن يكون "طلال" اسمًا مذكرًا علمًا، واسم العلم يجوز ترك صرفه في الشعر كثيرًا. ووقع في شعر البراض مشددًا وفي شعر لبيد الذي بعد هذا مخففًا؛ نقول: إن لبيدًا خففه للضرورة، ولم نقل: إنه شدد للضرورة، وإن الأصل فيه التخفيف؛ لأنه فَعال من الطل. كأنه موضع يكثر فيه الطل فطلال بالتخفيف لا معنى له، وأيضًا؛ فإنا وجدناه في الكلام المنثور مشددًا.
ص -170-      وقال لَبيد بنُ مالك بن جعفر بن كلاب:
أبلغْ -إن عَرَضْتَ- بني كلابٍ    وعامرَ والخطوبُ لها مَوَالِي
وبلِّغ -إن عَرَّضْتَ- بني نُمَيْر    وأخوالَ القتيل بني هلالِ
بأن الوافدَ الرَّحَّالَ أمسى       مُقيمًا عند تَيْمَنَ ذِي طِلَالِ
وهذه الأبيات في أبيات له فيما ذكر ابن هشام.
قتال هوازن لقريش: قال ابن هشام: فأتى آتٍ قريشًا، فقال: إن البرَّاض قد قتل عُروةَ، وهم في الشهر الحرام بعُكَاظ، وهَوازن لا تشعر، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم، فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، ودخلوا الحرمَ، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم أيامًا، والقوم متساندون، على كل قبيلٍ من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيسٌ منهم.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشهد القتال وهو صغير: وشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: كنت أنَبِّلُ على أعمامي، أي أردّ عنهم نَبْلَ عدوِّهم، إذا رموهم بها.
سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحرب: قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفِجَار، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن عشرين سنة.
سبب تسمية هذا اليوم بالفجار: وإنما سُمي يومَ الفجار، بما استحلَّ هذان الحيان: كنانة وقَيْس عَيْلان فيه من المحارم بينهم.
قائد قريش وكنانة: وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس.
قال ابن هشام: وحديث الفجار أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان آخر أمر الفجار أن هوازن وكنانة تواعدوا للعام القابل بعكاظ فجاءوا للوعد. وكان حرب بن أمية رئيس قريش وكنانة، وكان عتبة بن ربيعة يتيمًا في حجره، فضَنَّ به حرب، وأشفق من خروجه معه، فخرج عتبة بغير إذنه، فلم يشعروا إلا وهو على بعيره بين الصفين ينادى: يا معشر مضر، علام تقاتلون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ فقال: الصلح؛ على أن ندفع إليكم دية قتلاكم، ونعفو عن دمائنا، قالوا: وكيف؟ قال: ندفع إليكم وهنا منا، قالوا. ومن لنا بهذا؟ قال: أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ورضيت كنانة. ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا، فيهم: حكيم بن حزام، فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن فى أيديهم، عَفَوا من الدماء، وأطلقوهم وانقضت حرب الفجار، وكان يقال: لم يَسُد من-قريش مُملِق إلا عتبة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال.

ص -171-      حديث تزويج رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-
خديجة رضي اللّه عنها:
سنه صلى الله عليه وسلم حين زواجه: قال ابن هشام: فلما بلغ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وعشرين سنة1، تزوج خديجة2 بنتَ خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب، فيما حدثني غيرُ واحد من أَهل العلم عن أبي عَمرو المدني.
خروجه صلى الله عليه وسلم إلى التجارة بمال خديجة: قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة، ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه، بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بلغها: من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقيل كان سنُّه صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين وقيل ثلاثين.
2 خديجة بنت خوَيلد تسمى؛ الطاهرة في الجاهلية والإسلام، وفي سير التيمى: أنها كانت تُسمى: سيدة نساء قريش. وكانت قبل رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- عند هند بن زرارة وكانت قبله عند عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ولدت له عبد مناف بن عتيق، وقال الزبير: ولدت لعتيق جارية اسمها: هند، وولدت لهند: ابنًا اسمه: هند أيضًا مات بالطاعون: طاعون البصرة، ولخديجة من هند ابنان غير هذا، اسم أحدهما: الطاهر، واسم الآخر: هالة.

ص -172-      صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرجَ في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضَلَ ما كانت تُعطي غيرَه من التجار، مع غلام لها يقال له: مَيْسَرة، فقبله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامُها ميسرة، حتى قدم الشام.
حديثه صلى الله عليه وسلم مع الراهب: فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظلِّ شجرةٍ قريبًا من صومعة راهب من الرهبان، فاطَّلع الراهبُ إلى ميسرة، فقال له: مَنْ هذا الرجل الذي نزل تحتَ هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلا نبيٌّ1.
ثم باع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلعتَه التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتريَ، ثم أقبل قافلا إلى مكةَ، ومعه ميسرةُ، فكان ميسرةُ -فيما يزعمون- إذا كانت الهاجرة، واشتد الحرُّ، يرَى ملكين يظلَّانه من الشمس، وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبًا. وحدَّثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلالِ الملكين إياه.
خديجة ترغب في الزواج منه صلى الله عليه وسلم: وكانت خديجةُ امرأةً حازمةً شريفة لبيبة، مع ما أراد اللّهُ بها من كرامته، فلما أخبرها ميسرة مما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. يريد: ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد: ما نزل تحتها قط إلا نبي؛ لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك، وإن كان في لفظ الخبر: قط، فقد تكلم بها على جهة التأكيد للنفي، والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدري أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى، أو غيره من الأنبياء –عليهم السلام– ويبعد في العادة أيضًا أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد، حتى يجيء نبي، إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث: لم ينزل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم – عليه السلام– وهي رواية عن غير ابن إسحاق، فالشجرة على هذا مخصوصة بهذه الآية واللّه أعلم. وهذا الراهب ذكروا أن اسمه نسطور وليس هو بَحيرى المتقدم ذكره.

ص -173-      -صلى الله عليه وسلم- فقالت له فيما يزعمون: يابنَ عمّ، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسِطَتِكَ1 في قومِك وأمانتك، وحسنِ خُلقك، وصدق حديثك، ثم عرضتْ عليه نفسَها،
وكانت خديجةُ يومئذ أوسطَ نساء قريش نسبًا، وأعظمهنَّ شرفًا، وأكثرهن مالا، كُلُّ قومِها كان حريصًا على ذلك منها لو يقدُرُ عليه.
نسب خديجة رضي الله عنها: وهى خديجة بنت خُوَيْلد بن أسَد بن عبد العُزَّى بن قصَي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر، وأمها: فاطمةُ بنتُ زائدةَ بنِ الأصمِّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السِّطَةُ: من الوسط، مصدر كالعِدة والزِّنة، والوسط من أوصاف المدح والتفضيل، ولكن في مقامين: في ذكر النسب، وفي ذكر الشهادة. أما النسب؛ فلأن أوسط القبيلة أعرفها، وأولاها بالصميم وأبعدها عن الأطراف، وأجدر أن لا تضاف إليه الدعوة؛ لأن الآباء والأمهات قد أحاطوا به من كل جانب، فكان الوسط من أجل هذا مدحًا في النسب بهذا السبب. وأما الشهادة فنحو قوله سبحانه:
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 134] فكان هذا مدحًا في الشهادة؛ لأنها غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطًا كالميزان، لا يميل مع أحد، بل يصمم على الحق تصميمًا، لا يجذبه هوى، ولا يميل به رغبة، ولا رهبة. من ههنا، ولا من ههنا، فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية والتعديل، وظن كثير من الناس أن معنى الأوسط: الأفضل على الإطلاق، وقالوا: معنى الصلاة الوسطى: الفُضْلى، وليس كذلك، بل هو في جميع الأوصاف لا مدح ولا ذم، كما يقتضي لفظ التوسط، فإذا كان وسطًا في السِّمَن، فهي بين المُمِخةِ –السمينة– والعجفاء، والوسط في الجمال بين الحسناء والشَّوهاء،.. إلى غير ذلك من الأوصاف، لا يعطي مدحًا، ولا ذمًا، غير أنهم قد قالوا في المثل: أثقل من مُغَن وسط على الذم؛ لأن المغنى إن كان مجيدًا جدًّا أمتع وأطرب، وإن كان باردًا جدًّا أضحك وألهى، وذلك أيضًا مما يُمْتع. قال الجاحظ: "وإنما الكرب الذي يَجْثُمُ على القلوب، ويأخذ بالأنفاس، الغناء الفاتر الوسط الذي لا يمتع بحُسن، ولا يضحك بلهو.." وإذا ثبت هذا فلا يجوز أن يقال في رسول اللَه -صلى الله عليه وسلم- هو: أوسط الناس. أي: أفضلهم، ولا يوصف بأنه وسط في العلم، ولا في الجود، ولا في غير ذلك إلا في النسب والشهادة، كما تقدّم والحمد للّه، والله المحمود. عن: "الروض الأنف من تحقيقنا ج1 ص212-213".

ص -174-      ابن رواحة بن حَجَر بن عبد بن مَعِيص بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فهر.
وأمُّ فاطمة: هالةُ بنتُ عبد مناف بن الحارث بن عَمرو بن مُنْقِذ بن عَمرو بن مَعيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فِهْر.
وأم هالة: قِلابةُ بنتُ سُعَيْد بن سَعْد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتزوج من خديجة بعد استشارة أعمامه: فلما قالت ذلك لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك لأعمامِه، فخرج معه عمه حمزةُ1 بنُ عبد المطلب -رحمه الله- حتى دخل على خُوَيْلد2 بن أسَد فخطبها إليه، فتزوجها.
صداق خديجة: قال ابن هشام: وأصدقها رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- عشرين بَكْرة، وكانت أولَ امرأة تزوجها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولم يتزوجْ عليها غيرَها حتى ماتت، رضي الله عنها.
أولاده -صلى الله عليه وسلم- من خديجة: قال ابنُ إسحاق: فولدت لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ولدَه كُلَّهم إلا إبراهيم: القاسمَ، وبه كان يُكْنَى -صلى الله عليه وسلم- والطاهرَ والطيب3، وزينبَ ورقيةَ، وأمَ كلثوم، وفاطمةَ، عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويقال: إن أبا طالب هو الذي نهض مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي خطب خطبة النكاح، وكان مما قاله في تلك الخطبة: "أما بعد: فإن محمدًا ممن لا يُوازَن به فتى من قريش إلا رجح به شرفًا ونُبْلًا وفضلًا وعقلًا، وإن كان في المال قل، فإنما المالُ ظل زائل، وعارية مُسترجَعة. وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك".
2 وعن ابن عباس، وعن عائشة -رضي الله عنهم كلهم -قال: إن عمرو بن أسد هو الذي أنكح خديجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن خويلدا كان قد هلك قبل الفجار.
3 الطاهر والطيب لقبان للقاسم، سمي بالطاهر والطيب؛ لأنه وُلد بعد النبوة، الذي سمي به أول هو: عبد الله، وبلغ القاسم المشي، غير أن رضاعته لم تكن كملت وقد وقع في مسند الفريابي أن خديجة دخل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موت القاسم، وهي تبكي: فقالت: "يا رسول الله دَرّت لُبَيْنةُ القاسم فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعته لهون عليَّ، فقال: إن له مرضعًا في الجنة تستكمل رضاعته، فقالت: لو أعلم ذلك لهوّن علي، فقال؛ إن شئت سمعتك صوته في الجنة، فقالت: بل أصدق الله ورسولَه".

ص -175-      ترتيب ولادتهم: قال ابن هشام: أكبر بنيه: القاسمُ، ثم الطيبُ، ثم الطاهرُ، وأكبر بناته: رقيةُ، ثم زينبُ، ثم أمُّ كلثوم، ثم فاطمةُ.
قال ابن إسحاق: فأما القاسم، والطيب، والطاهر فهلكوا في الجاهلية. وأما بناتُه: فكلُّهنَّ أدركْنَ الإسلامَ، فأسلمن وهاجرنَ معه صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم وأمه: قال ابن هشام: وأما إبراهيمُ فأمه: ماريةُ القبطيةُ. حدثنا عبد الله بنُ وهب عن ابن لَهِيعة، قال: أمّ إبراهيم: مارية سرية النبي -صلى الله عليه وسلم- التي أهداها إليه المقوقس من حَفْن من كورة أنْصِنَا.
ورقة يتنبأ له صلى الله عليه وسلم بالنبوة: قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد قد. ذكرت لورقة1 بنِ نَوْفل بن أسَد بن عبد العُزَّى -وكان ابنَ عمها، وكان نصرانيًّا قد تتبع الكتبَ، وعَلِمَ من عِلْمِ الناس- ما ذكر لها غلامُها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه، إذ كان الملكان يظلانه، فقال ورقة: لئن كان هذا حقًّا يا خديجة، إن محمدًا لنبي هذه الأمة، وقد عرفتُ أنه كائنٌ لهذه الأمة نبي يُنتظر، هذا زمانُه، أو كما قال:
شعر لورقة: فجعل ورقة يستبطئ الأمرَ ويقول: حتى متى؟ فقال ورقة في ذلك:
لَجِجْتُ وكنتُ في الذكرى لَجوجًا     لِهَمّ طالما بعثَ النَّشيجَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأم ورقة: هند بنت أبي كبير بن عبد بن قصي، ولا عقب له، وهو أحد من آمن وأسلم -قبل البعثة- راجع: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص216-217".

ص -176-                     ووصفٍ من خديجةَ بعدَ وصف  فقد طال انتظاري يا خديجَا
ببطنِ المَكَّتَيْنِ على رجائي    حديثك أن أرى منه خُروجَا1
بما خَبَّرْتنا من قول قس         من الرُهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدًا سيسود فينا        ويخصِمُ من يكونُ له حجيجا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثَنَّى مكة، وهي واحدة؛ لأن لها بطَاحًا وظواهر، وقد ذكرنا من أهل البطاح، ومن أهل الظواهر فيما قبل، على أن للعرب مذهبًا في أشعارها في تثنية البقعة الراحدة، وجمعها، نحو قوله: وميت بغزات، يريد: بغزة، وبغادين في بغداد، وأما التثنية فكثير نحو قوله:
بالرقمتين له أجر وأعراس                     والحمتين سقاك اللّه من دار
وقول زهير: "ودار لها بالرقمتين" وقول ورقة من هذا: "ببطن المكتين". لا معنى لإدخال الظواهر تحت هذا اللفظ، وقد أضاف إليها البطن، كما أضافه المبرق حين قال:
"ببطن مكة مقهور ومفتون"
وإنما يقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو الإضارة إلى أعلى البلدة وأسفلها، فيجعلونها اثنين على هذا المغزى، وقد قالوا: "صدنا بقنوين"، وهو هنا اسم جبل، وقال عنترة:
شربت بماء الدِّحرضين
وهو من هذا الباب في أصح القولين، وقال عنترة أيضًا:
بعنيزتين وأهلنا بالعيلم
وعنيزة اسم موضع، وقال الفرزدق:
عشية سال المربدان كلاهما
وإنما هو مربد البصرة. وقولهم:
تسألني برامتين سلجما
وإنما هو رامة. وهذا كثير. وأحسن ما تكون هذه التثنية إذا كانت في ذكر جنة وبستان، فتسميها جنتين في فصيح الكلام، إشعارًا بأن لها وجهين، وأنك إذا دخلتها، ونظرت إليها يمينًا وشمالًا رأيت من كلتا الناحيتين ما يملأ عينيك قوة، وصدرك مسرة، وفي التنزيل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} [سبأ: 15] إلى قوله سبحانه: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] وفيه: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} [الكهف: 32] الآية. وفي آخرها: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [الكهف: 35]
ص -177-                  ويظهرُ في البلادِ ضياءُ نورٍ          يُقيمُ به البريةَ أن تموجا1
فيلْقَى من يحاربُه خَسارًا                     ويلقى من يسالمه فُلوجَا
فيا ليتي إذا ما كان ذَاكمْ    شَهِدْتُ فكنتُ أوَّلَهم وُلوجَا
وُلوجا في الذي كرهتْ قريشٌ                ولو عجَّت بمكتِها عجيجَا
أرَجِّي بالذي كرِهوا جميعًا                    بمن يختار مَنْ سَمَكَ البروجَا
وهل أمرُ السَّفالةِ غيرُ كُفر                    إلى ذي العرشَ إن سفلوا عُروجَا
فإن يبقوا وَأبقَ تكنْ أمورٌ    يَضُجُّ الكافرون لها ضَجيجَا
وإن أهلكْ فكلُّ فتى سَيَلْقَى                 من الأقدارِ مَتْلَفةً حَرُوجَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فأفرد بعد ما ثنى وهي هي، وقد حمل العلماء على هذا المعنى قوله سبحانه:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] والقول في هذه الآية يتسع.
وفي البيت: حديثك أن أرى منه خروجا. قوله "منه": الهاء راجعة على الحديث، وحرف الجر متعلق بالخروج، وإن كره النحويون ذلك؛ لأن ما كان من صلة المصدر عندهم، فلا يتقدم عليه؛ لأن المصدر مقدَّر بأن والفعل، فما يعمل فيه هو من صلة "أن" فلا يتقدم، فمن أطلق القول في هذا الأصل؛ ولم يخصص مصدرًا من مصدر، فقد أخطأ المفصل وتاه في تضلل؛ ففي التنزيل:
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس: 2] ومعناه: أكان عجبًا للناس أن أوحينا، ولا بد للام ههنا أن تتعلق بعجب؛ لأنها ليست في موضع صفة، ولا موضع حال لعدم العامل فيها، انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص218، 219، 220".
1 هذا البيت يوضح لك معنى النور ومعنى الضياء، وأن الضياء هو المنتشر عن النور، وأن النور هو الأصل للضوء، ومنه مبدؤه، وعنه يصدر، وفي التنزيل:
{فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}. وفيه: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}؛ لأن نور القمر لا ينتشر عنه من الضياء ما ينتشر من الشمس، ولا سيما في طرفي الشهر. وفي الصحيح: "الصلاة نور، والصبر ضياء" وذلك أن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصبر عن المنكرات، والصبر على الطاعات هو: الضياء الصادر عن هذا النور الذي هو القرآن، والذكر. وفي أسماء الباري سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولا يجوز أن يكون الضياء من أسمائه سبحانه.
ص -178-      حديث بنيان الكعبة وحكم رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- بين قريش في وضع الحجر
سبب هذا البنيان: قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة1، وكانوا يهمُّون بذلك، ليسقفوها ويهابون هدمَها، وإنما كانت رَضْمًا2 فوق القامة، فأرادوا رفعَها وتسقيفَها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنزًا للكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وُجد عنده الكنز دُوَيْكًا مولى لبني مُلَيْح بن عمرو من خزاعة. قال ابن هشام: فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دُوَيْك، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدَّة لرجل من تجار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكان بناؤها في الدهر خمس مرات الأولى: حين بناها شيث بن آدم، والثانية: حين بناها إبراهيم على القواعد الأولى، والثالثة: حين بنتها قريش قبل الإسلام بخمسة أعوام، والرابعة: حين احترقت في عهد ابن الزبير بشرارة طارت من أبي قُبَيْس، فوقعت في أستارها، فاحترقت، وقيل إن امرأة أرادت أن تجمرها، فطارت شرارة من الجمر في أستارها، فاحترقت، فلما قام عبد الملك بن مروان، قال لسنا من تخليط أبي خبيث بشيء "كذا" فهدمها وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وأما المسجد الحرام فأول من بناه عمر بن الخطاب، وذلك أن الناس ضيقوا على الكعبة، وألصقوا دورهم بها، فقال عمر: إن الكعبة بيت اللّه، ولا بد للبيت من فناء، فاشترى تلك الدور من أهلها وهدمها، وبنى المسجد المحيط بها، ثم كان عثمان، فاشترى دورًا أخرى، وأغلى في ثمنها، وزاد في سعة المسجد، فلما كان ابن الزبير زاد في إتقانه، لا في سعته، وجعل فيه عمدًا من الرخام، وزاد في أبوابه، وحسنها، فلما كان عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع حائط المسجد، وحمل إليه السواري في البحر إلى جدة.
2 الرضم: أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط كما قال:
رُزْئتُهم في ساعة جَرَّعتُهُم كئوس    المنايا تحت صخر مُرَضَّمِ

ص -179-      الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار1، فتهيأ لهم في أنفسهم بعضُ ما يُصلحها، وكانت حَيَّةٌ تخرجُ من بئر الكعبة التي كان يُطرَح فيها ما يُهدَى لها كل يوم، فتتشرق2 على جدار الكعبة، وكانت مما يَهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَألَّتْ وَكَشَّتْ3، وفتحت فاها، وكانوا يهابونها، فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها، فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضَى ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحيةَ.
أبو وهب-خال أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم- وما حدث له عند بناء الكعبة: فلمّا أجمعوا أمرَهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بنُ عَمرو بن عائذ بن عَبْد بن عمران بن مخزوم.
قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كَسْبِكم إلا طَيِّبًا، لا يدخل فيها مَهر بَغِي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، والناس ينحلون هذا الكلام الوليدَ بنَ المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي أنه حُدِّث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي أنه رأى ابنا لجَعْدة بن هُبَيْرة بن أبي وهب بن عَمرو يطوف بالبيت، فسُئل عنه، فقيل: هذا ابن لجَعْدة بن هُبَيْرة، فقال عبد الله بن صفوان عند ذلك: جَدُّ هذا، يعني: أبا وهب الذي أخذ حجرًا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها، فوثب من يده، حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيِّبًا. لا تدخلوا فيها مهرَ بغي ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحد من الناس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر غيره أنه كان علجًا -الكافر من العجم-في السفينة التي قذفتها الريح إلى الشعَيْبة، وأن اسم ذلك النجار: يا قوم، وكذلك روي أيضًا في اسم النجار الذي عمل منبر رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- من طرفاء الغابة، ولعله أن يكون هذا، فالله أعلم.
2 تتشرق: تبرز للشمس.
3 احزألَّت، أي رفعت ذنبها، وكشَّت، أي: صوتت.

ص -180-      شعر في أبي وهب: قال ابن إسحاق: وأبو وهب: خال أبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان شريفًا، وله يقول شاعر من العرب:
ولو بأبي وِهبٍ أنختُ مَطيِتي                   غَدَتْ من نَدَاه رحلُها غيرَ خائبِ
بأبيضَ من فرْعَىْ لؤيِّ بن غالب               إذا حُصِّلت أنسابُها في الذوائبِ
أبيٍّ لأخذ الضيم يرتاحُ للنَّدَى                   توسَّطَ جَدَّاه فروعَ الأطايبِ
عظيم رَمادِ القِدْرِ يملأ جفانَه                   من الخبزِ يعلوهنَّ مثلُ السبائبِ
نصيب قبائل قريش في تجزئة الكعبة: ثم إن قريشًا تجزأت الكعبة، فكان شِقُّ الباب لبني عبد مناف وزُهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمح وسَهْم، ابنيْ عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي، وكان شِقُّ الحِجْر لبني عبد الدار بن قُصَي، ولبني أسد بن عبد العُزَّى بن قُصي، ولبني عَدِي بن كعب بن لُؤَي وهو الحَطيم.
الوليد بن المغيرة يبدأ بهدم الكعبة: ثم إن الناس هابوا هدمها وفَرِقُوا منه. فقال الوليدُ بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المِعْوَلَ، ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترَعْ1 - قال ابن هشام: ويقال: لم نزغ– اللهم إنا لا نريدُ إلا الخيرَ، ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناسُ تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء، فقد رضي اللهُ صنعَنا، فهدمنا!! فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساسِ إبراهيِم عليه السلام، أفضوا إلى حجارةٍ خُضْر كالأسْنمةٍ2 آخذٍ بعضُها بعضًا:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اللهم لم تُرَعْ، وهي كلمة تقال عند تسكين الرَّوع، وإظهار اللين والبر في القول، ولا روع في هذا الموطن فيُنْفى، ولكن الكلمة تقتضي إظهار قصد البر؛ فلذلك تكلموا بها، وعلى هذا يجوز التكلم بها في الإسلام، وإن كان فيها ذكر الرَّوع الذي هو محال في حق الباري تعالى، ولكن لما كان المقصود ما ذكرنا، جاز النطق بها.
2 وليست هذه رواية السيرة الأصلية: إنما الصحيح في الكتاب: كالأسنة وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق واللّه أعلم؛ فإنه لا يوجد في غير هذا الكتاب بهذا اللفظ لا عند الواقدي ولا غيره، وقد ذكر البخاري في بنيان الكعبة هذا الخبر، فقال فيه عن يزيد بن رومان: فنظرت إليها، فإذا هي كأسنمة الإبل، وتشبيهها بالأسنة لا يشبه إلا في الزرقة وتشبيهها بأسنمة الإبل أولى لعظمها.

ص -181-      امتناع قريش عن هدم الأساس وسببه: قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديثَ: أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حَجرين منها ليقلعَ بها أحدَهما، فلما تحرك الحجرُ تنقَّضت مكةُ بأسْرِها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
الكتاب الذي وُجد في الركن: قال ابن إسحاق: وحُدثت أن قريشًا وجدوا في الركن كتابًا بالسريانية، فلم يدروا ما هو، حتى قرأه لهم رجلٌ من يهودَ، فإذا هو: "أنا اللّهُ ذو بكةَ، خلقتها يومَ خلقتُ السمواتِ والأرضَ، وصورتُ الشمسَ والقمرَ، وحففتها بسبعةِ أملاكٍ حُنفاء، لا تزول حتى يزولَ أخشباها، مُبَارك لأهلها في الماءِ و اللبن"1.
قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها.
الكتاب الذي وجد في المقام: قال ابن إسحاق: وحُدثت أنهم وجدوا في المقام كتابًا فيه: "مكةُ بيت اللّه الحرام يأتيها رزقُها من ثلاثةِ سُبلٍ، لا يحلُّها أولُ مِنْ أهلِها"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى مَعمَرُ بن راشد في الجامع عن الزهري أنه قال: بلغني أن قريشًا حين بَنوْا الكعبة، وجدوا فيها حجرًا، وفيه ثلاث صُفُوح، في الصفح الأول: "أنا اللّه ذو بكة صغتها يوم صغت الشمس والقمر.."، إلى آخر كلام ابن إسحاق، وفي الصفح الثاني: "أنا اللّه ذو بكة، خلقت الرحم، واشتققت لها اسْمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتَتُّه"، وفي الصفح الثالث: "أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه".
2 لا يُحلّها أولُ من أهلها، يريد -واللّه أعلم- ما كان من استحلال قريش القتال فيها أيام ابن الزبير، وحُصَيْنِ بن نُمَيْر، ثم الحجاج بعده، ولذلك قال ابن أبي ربيعة:
ألا مَن لقلب مُعَنى غَزِلْ      بِحُبِّ المُحِلَّة أخت المُحِلّ
يعنى بالمحل: عبد اللّه بن الزبير، لقتاله في الحرم.

ص -182-      حجر الكعبة المكتوب عليه العظة: قال ابن إسحاق: وزعم ليث بن أبي سُلَيْم أنهم وجدوا حجرًا في الكعبة قبل مَبْعثِ النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعين سنةً إن كان ما ذُكر حقًّا، مكتوبًا فيه: "من يزرع خيرًا، يحصد غبطةً، ومن يزرع شرًّا، يحصد ندامة، تعملون السيئاتِ، وتُجزَوْن الحسنات؟! أجل، كما لا يُجتنى من الشوك العنب".
الاختلاف بين قريش في وضع الحجر: قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حِدَةٍ، ثم بَنَوْها، حتى بلغ البنيانُ موضعَ الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعَه إلى موضعِه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا؛ وأعدُّوا للقتال.
لعقَة الدم: فقرَّبتْ بنو عبد الدار جَفْنة مملوءة دمًا؛ ثم تعاقدوا هم وبنو عَدي بن كعب بن لُؤَي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجَفْنة، فسُمُّوا: لَعَقَةَ الدم، فمكثت قريش على ذلك أربعَ ليالٍ أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجدِ، وتشاوروا وتناصفوا.
أبو أمية بن المغيرة يجد حلا: فزعم بعضُ أهل الرواية: أن أبا أميَّة بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، وكان عَامئذٍ أسنَّ قريش كلِّها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم -فيما تختلفون فيه- أولَ من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم فيه ففعلوا.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضع الحجر: فكان أولَ داخل عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلما رَأوْه قالوا: هذا الأمين، رَضِينا، هذا محمدٌ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبرَ قال -صلى الله عليه وسلم: "هَلُمّ إليَّ ثوبًا"، فأتي به، فأخذ الركنَ فوضعه فيه بيده، ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوْب، ثم ارفعوه جميعًا"، ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنى عليه1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر غيره أن إبليس كان معهم في صورة شيخ نجدي، وأنه صاح بأعلى صوته: يا معشر قريش: أرضيتم أن يضع هذا الركن -وهو شرفكم- غلام يتيم دون ذوي أسنانكم؟ فكاد يثير شرًّا فيما بينهم، ثم سكَنوا ذلك. وأما وضع الركن حين بُنيت الكعبة في أيام ابن الزبير، فوضعه في الموضع الذي هو فيه الآن حمزة بن عبد اللّه بن الزبير، وأبوه يصلي بالناس في المسجد اغتنم شغل الناس عنه بالصلاة لما أحسَّ منهم التنافس في ذلك وخاف الخلاف، فأقره أبوه.

ص -183-      وكانت قريش تُسمِّي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين.
شعر الزبير في الحية التي كانت تمنع قريش من بنيان الكعبة: فلما فرغوا من البنيان، وبَنَوْها على ما أرادوا، قال الزبيرُ بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيانَ الكعبة لها:
عَجِبْتُ لِمَا تصَوَّبتِ العقاب    إلى الثعبانِ وهْيَ لها اضطرابُ
وقد كانت يكون لها كشيش                    وأحيانًا يكونُ لها وِثابُ
إذا قُمنا إلى التأسيسِ شدت                  تُهيِّبنا البناءَ وقد تُهابُ
فلما أن خَشينا الرِّجزَ جاءت                    عقابُ تَتْلَئِبُّ لها انصبابُ1
فضمَّتها إليها ثم خلت         لنا البنيانَ ليس له حجابُ
فقمنا حاشدين إلى بناء      لنا منه القواعدُ والترابُ
غَداةَ نُرَفِّع التأسيسَ منه      وليس على مُسَوِّينا ثيابُ2
أعزَّ به المليكُ بني لؤي       فليس لأصلِه منهم ذهابُ
وقد حَشَدَتْ هناك بنوعدى                     ومُرة قد تقدَّمها كلابُ
فَبَوَّأنا المليكُ بذاكَ عزًا         وعندَ اللهِ يُلتَمس الثوابُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تَتْلَئِبُّ، يقال: اتلأبَّ على طريقه إذا لم يُعَرج يَمْنَة ولا يَسْرة، وكأنه منحوت من أصلين من تلا: إذ اتبع، وألَبَ: إذا أقام.
2 أي: مُسَوي البنيان. وهو في معنى الحديث الصحيح في نقلانهم الحجارة إلى الكعبة أنهم كانوا ينقلونها عراة، ويرون ذلك دِينًا، وأنه من باب التشمير والجد في الطاعة.

ص -184-      قال ابن هشام: ويروى:
وليس على مَساوِينا ثياب1
ارتفاع الكعبة وكسوتها: وكانت الكعبةُ على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثماني عَشرةَ ذِراعًا، وكانت تُكْسى القِباطيَّ، ثم كُسيت البرودَ، وأولُ من كساها الديباج: الحجاجُ بن يوسف.
حديث الحُمس:
قريش تبتدع الحُمس: قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش -لا أدري أقبل الفيل أم بعده- ابتدعت رأي الْحُمْس2 رأيًّا رأوه وأداروه فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحُرمة، ووُلاة البيت، وقُطَّان مكة وساكنُها، فليس لأحد من العرب مثلُ حقِّنا، ولا مثلُ منزلتنا، ولا تعرفُ له العرب مثلَ ما تعرِفُ لنا، فلا تعظِّموا شيئًا من الحِلِّ كما تُعظمون الحرمَ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفَّت العربُ بحُرمتِكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ويَرَوْن لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهلُ الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرجَ من الحرمة، ولا نعظم غيرَها، كما نعظمها نحن الحُمْس، والحمس: أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم، بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويَحرُم عليهم ما يَحرُم عليهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقول ابن هشام: ويروى: على مَساوِينا، يريد السوءات، فهو جمع مساءة، مفعلة من السَّوءة والأصل مساوئ، فسهلت الهمزة.
2 والتحمس: التشدد، وكانوا قد ذهبوا في ذلك مذهب التزهد والتأله، فكانت نساؤهم لا ينسجن الشَعْر ولا الوبر، وكانوا لا يَسْلَئون السمن، وسلأ السمن أن يُطْبخ الزبد، حتى يصير سمنا، قال أبرهة:
إن لنا صْرمَةً مُخَيَّسَةَ         نشرب ألبانها ونسلؤها

ص -185-      القبائل التي آمنت مع قريش بالْحُمْس: وكانت كِنانة وخُزَاعة قد دخلوا معهم في ذلك.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عُبَيْدة النحوي: أن بني عامر بن صعصَعة بن معاوية بن بكر بن هَوازن دخلوا معهم في ذلك، وأنشدني لعَمْرو بن مَعْدِ يكَرِب:
أعباسُ لو كَانتْ شِيَارًا جيادُنا               بتثليثِ ما ناصَيْتَ بعدي الأحامِسا
قال ابن هشام: تثليث: موضع من بلادهم. والشِّيَار: الحسان. يعني بالأحامس: بني عامر بن صَعْصَعة. وبعباس: عباس بن مِرْداس السُّلَميّ، وكان أغار على بنى زُبَيْد بتثليث. وهذا البيت في قصيدة لعمرو. وأنشدني للَقِيط بن زُرارة الدَّارَمِي في يوم جَبَلة1:
أجْذِمْ إليك إنها بنو عَبْس               المعْشَرُ الحِلَّةُ في القَوْمِ الحُمْس2
لأن بني عَبْس كانوا يوم جَبَلة حلفاء في بني عامر بن صصَعة.
يوم جبلة: ويومُ جَبَلة: يوم كان بين بني حَنْظلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم، وبين بني عامر بن صصَعة، فكان الظَّفَر فيه لبني عامر بن صعصعة على بني حَنْظلة، وقُتل يومئذ لَقِيطُ بن زُرارة بن عُدُس، وأسر حاجبُ بن زُرارة بن عُدُس3، وانهزم عَمرو بن عمرو بن عُدُس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة. ففيه يقول جرير للفرزدق:
كأنك لم تشهدْ لَقيطًا وحاجبًا               وعَمرو بنَ عَمروٍ إذا دَعَوْا: يا لَدَارِمِ
وهذا البيت في قصيدة له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وجبلة هضبة عالية، كانوا قد أحرزوا فيها عيالهم وأموالهم، وكان معهم في ذلك اليوم رئيس نجران، وهو ابن الجَونِ الكندي، وأخ للنعمان بن المنذر، واسمه: حسان بن وبرة، وهو أخو النعمان لأمه، وفي أيام جبلة كان مولد رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم.
2 أجذِم: زَجرٌ معروف للخيل وكذلك: أرحب، وهَبْ وهِقِط وهِقَط وهِقَبْ.
3 هو: عُدُس بضم الدال عند جميعهم إلا أبا عُبَيدة، فإنه كان يفتح الدال منه، وكل عَدَس في العرب سواه فإنه مفتوح الدال.

ص -186-      يوم ذي نَجَب: ثم التَقوا يومَ ذي نَجَب فكان الظَّفر لحنظلة على بني عامر، وقُتل يومئذٍ حسانُ بن معاوية الكِنْديُّ وهو أبو كَبْشة. وأسر يزيد بن الصَّعِق الكلابي وانهزم الطُّفيْل بن مالك بن جعفر بن كلاب، أبو عامر بن الطفَيْل. ففيه يقول الفرزدق:
ومنهنَّ إذ نجَّى طُفَيل بن مالك                على قُرْزُل رَجْلا ركوضَ الهزائم1
ونحن ضربنا هامةَ ابنِ خُوَيْلدٍ                   نزيدُ على أم الفِراخ الجواثم2
وهذان البيتان في قصيدة له.
فقال جرير:
ونحن خَضَبْنا لابنِ كبشةَ تاجَه            ولاقى امرءًا في ضَمةِ الخيلِ مِصقَعَا3
وهذا البيت في قصيدة له.
وحديث يوم جَبَلة، ويوم ذي نَجَب أطولُ مما ذكرنا. وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت في حديث يومِ الفِجَار.
ما زادته قريش في الحُمْس: قال ابن إسحاق: ثم ابتدعوا في ذلك أمورًا لم تكن لهم، حتى قالوا: لا ينبغي للحُمْس أن يأتَقِطوا الأقِط، ولا يَسْلَئُوا السمنَ وهم حُرم، ولا يدخلوا بيتًا من شعر، ولا يستظلوا-إن استظلوا- إلا في بيوت الأدَم ما كانوا حُرُمًا، ثم رفعوا في ذلك، فقالوا: لا ينبغي لأهل الحِلِّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قُرْزُل: اسم فرسه، وكان طُفَيل يسمى: فارس قُرْزل، وقرزل: القيد سمي الفرس به، كأنه يقيِّد ما يسابقه كما قال امرؤ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
2 على أم الفراخ الجواثم. يعني: الهامة، وهي البرم، وكانوا يعتقدون أن الرجل إذا قُتل خرجت من رأسه هامة تصيح: اسقوني، اسقوني، حتى يؤخذ بثأره. قال ذو الإصبع العدواني:
أضْرِبكَ حتى تقولَ الهامةُ اسقوني
3 المعروف في اللغة أن المِصْقَع: الخطيب البليغ، وليس هذا موضعه، لكن يقال في اللغة: صقعه: إذا ضربه على شيء مُصْمت يابس، قاله الأصمعي.

ص -187-      من الحِلِّ إلى الحَرم إذا جاءوا حُجاجًا أو عُمَّارًا، ولا يطوفون بالبيت إذا قَدِموا أولَ طوافهمِ إلا في ثياب الحُمْس. فإن لم يجدوا منها شيئًا طافوا بالبيت عُراةَ.
اللَّقىَ عند الحمس: فإن تكرَّمنهم متُكرِّم من رجل أو امرأة، ولم يجدوا ثياب الحمس؛ فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحِل، ألقاها إذا فرغِ من طوافه، ثم لم ينتفعْ بها، ولم يَمَسَّها هو، ولا أحدٌ غيرُه أبدا.
وكانت العرب تُسمى تلك الثياب: اللَّقَى، فحملوا على ذلك العربَ.
فدانت به، ووقفوا على عرفات، وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عُراةً، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحْدَاهن ثيابَها كلَّها إلا درعًا مُفَرَّجًا عليها، ثم تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب1، وهى كذلك تطوف بالبيت:
اليومَ يَبْدو بَعْضُهُ، أو كله            وما بدا منه فلا أحِلُّه
ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها؛ فلم ينتفع بها هو ولا غيره. فقال قائل من العرب يذكر شيئًا تركه من ثيابه، فلا يقربه، وهو يحبه:
كفى حَزَنًا كَرِّي عليها كأنها                   لقى بين أيدي الطائفين حَريمُ
يقول: لا تمس2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المرأة هي: ضُبَاعة بنت عامر بن صعصعة، ثم من بني سلمة بن قُشَيْر. وذكر محمد بن حبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها، فذُكرت له عنها كبرة، فتركها، فقيل: إنها ماتت كمدًا وحُزنًا على ذلك. قال ابن حبيب: إن كان صح هذا، فلما أخرها عن أن تكون أمًّا للمؤمنين، وزوجًا لرسول رب العالمين إلا قولها: اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه، تَكرِمة من الله لنبيه وعِلمًا منه بغَيْرته، والله أغير منه.
2 ومن اللَّقَى: حديث فاختة أم حكيم بن حزام، وكانت دخلت الكعبة وهي حامل مُتِمُّ بحكيم بن حزام، فأجاءها المخاض، فلم تستطع الخروج من الكعبة، فوضعته فيها، فلُفَّت في الأنطاع هي وجنينها، وطرح مثبرها وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقَى لا تُقرب.
ولم يذكر الطَّلْس من العرب، وهم صنف ثالث غير الحلة والحمس، كانوا يأتون من أقصى اليمن طُلْسًا من الغبار، فيطوفون بالبيت في تلك الثياب الطُّلْس، فسُموا بذلك. ذكره محمد بن حبيب.

ص -188-      الإسلام يبطل عادات الحمس: فكانوا كذلك حتى بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه حين أحكم له دينه، وشرع له سنن حجه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] يعني قريشًا، والناس: العرب، فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها.
وأنزل اللّه عليه فيما كانوا حرَّموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت، حين طافوا عُراةً، وحرَّموا ما جاءوا به من الحل من الطعام:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31، 32]1، فوضع اللّه تعالى أمر الحُمْس، وما كانت قريش ابتدعت منه، عن الناس بالإسلام، حين بعث اللّه به رسولَه صلى الله عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف الحمْس قبل الرسالة: قال ابن إسحاق: حدثني عبد اللّه بن أبى بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم، عن عثمان بن أبي سليمان بن جُبَيْر بن مُطْعِم، عن عمه نافع بن جبير عن أبيه جُبير بن مُطْعم. قال: لقد رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي، وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفعَ معهم منها توفيقًا من اللّه له، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: وكلوا واشربوا إشارة إلى ما كانت الحمس حرمته من طعام الحج إلا طعام أحمس، وخذوا زينتكم: يعني اللباس، ولا تتعروا، ولذلك افتتح بقوله:
{يَا بَنِي آدَم}، بعد أن قص خبر آدم وزوجه. إذ يخصفان عليهما من ورق الجنة، أي: إن كنتم تحتجون بأنه دين آبائكم، فآدم أبوكم، ودينه: ستر العورة.
2 حتى لا يفوته ثوابَ الحج، والوقوف بعرفة. قال جُبَيْر بن مُطْعم حين رآه واقفًا بعرفة مع الناس: هذا رجل أحمس، فما باله لا يقف مع الحمس حيث يقفون؟

ص -189-      إخبار الكهان من العرب، والأحبار من يهود والرهبان من النصارى:
الكهان والأحبار والرهبان يتحدثون بمبعثه: قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبلَ مبعثه، لما تقاربَ من زمانه.
أما الأحبارُ من يهودَ، والرهبان من النصارى، فعمَّا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه. وأما الكهانُ من العرب: فأتتهم به الشياطين من الجنِّ فيما تسترق من السمع إذ كانت هي لا تُحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكرُ بعضِ أمورِه، لا تلقى العرب لذلك فيه بالًا، حتى بعثه اللّه تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون؛ فعرفوها.
قذف الجن بالشُّهُب دلالةً على مبعثه صلى الله عليه وسلم: فلما تقارب أمرُ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وحضر مبعثُه، حُجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينَها وبين المقاعد التي كانت تقْعدُ لاستراقِ السمع فيها فرُموا بالنجوم، فعرفت الجنُّ أن ذلك لأمر حدث من أمر اللّه في العباد1 يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه، وهو يقص عليه خبرَ الجنِّ إذ حُجبوا عن السمع، فعَرفوا ما عَرَفوا، وما أنكروا من ذلك حين رَأوْا ما رَأوْا:
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ2 فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رُوي في مأثور الأخبار أن إبليس كان يخترق السموات قبل عيسى، فلما بُعث عيسى، أو وُلد، حجب عن ثلاث سموات، فلما وُلد محمد حجب عنها كلها، وقذفت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش حين كثر القذف بالنجوم: قامت الساعة، فقال عتبة بن ربيعة: انظروا إلى العيوق فإن كان رُمي به، فقد آن قيام الساعة، وإلا فلا، وممن ذكر هذا الخبر الزبير بن أبي بكر.
2 وفي الحديث أنهم كانوا من جن نصيبين. وفي التفسير أنهم كانوا يهودًا؛ ولذلك قالوا: من بعد موسى، ولم يقولوا من بعد عيسى، ذكره ابن سلام. وكانوا سبعة قد ذكروا بأسمائهم في التفاسير والمسندات، وهم: شاصر، وماصر، ومنشي، ولاشى والأحقاب، وهؤلاء الخمسة ذكرهم ابن دريد ومسروق وعمرو.

ص -190-      عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 1-6] إلى قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 9، 10].
فلما سمعت الجنُّ القرآنَ عَرفتْ أنها إنما مُنعت من السمع قبل ذلك؛ لئلا يُشْكل الوحيُ بشيء من خبر السماء، فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من اللّه فيه، لوقوع الحجَّة، وقطْع الشُّبْهة1. فآمنوا وصدقوا، ثم:
{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29، 30] الآيات.
وكان قولُ الجن:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] أنه كان الرجل من العرب من قريش وغيرهم إذا سافر فنزل فيَ وادٍ من الأرض ليبيتَ فيه، قال: إني أعوذُ بعزيزِ هذا الوادي من الجنِّ الليلةَ من شرِّ ما فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي يظهر من كلامه أن القذف بالنجوم -وجد بظهور الإسلام، لكن القذف بالنجوم قد كان قديمًا، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجاهلية. منهم: عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي حازم، وكلهم جاهلي، وقد وصفوا الرمي بالنجوم، وأبياتهم في ذلك مذكورة في مشكل ابن قتيبة في سورة الجن، وذكر عبد الرزَّاق في تفسيره عن معمر عن ابن شهاب أنه سُئل عن هذا الرمي بالنجوم: أكان في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنه إذا جاء الإسلام غلظ وشدد، وفي قول الله سبحانه:
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] ولم يقل: حُرست دليل على أنه قد كان منه شيء، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا، وذلك لينحسم أمر الشياطين، وتخليطهم، ولتكون الآية أبين، والحجة أقطع.

ص -191-      قال ابن هشام: الرَّهَق: الطغيان والسَّفَه. قال رُؤبة بن العَجَّاج:
إذ تَسْتَبي الهيَّامة المُرَهَّقَا
وهذا البيت في أرجوزة له. والرَّهق أيضًا: طلبك الشيء حتى تدنوَ منه، أو لا تأخذه. قال رُوُبة بن العَجَّاج يصف حمير وحش:
بَصْبَصْنَ واقْشَعرَرْنَ من خَوف الرَّهَقْ
وهذا البيت في أرجوزة له. والرَّهق أيضًا: مصدرٌ لقول الرجل: رَهِقْتُ الإِثم أو العُسْر الذي أرهقتني رهقًا شديدًا؛ أي: حملتُ الإِثم أو العُسر الذي حملني حملًا شديدًا، وفي كتاب اللّه تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] وقوله: {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73].
ثقيف أول من فَزعت برمي الجن: قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدِّث أن أولَ العرب فَزِع للرمي بالنجوم -حين رُمي بها- هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عَمرو بن أمية أحد بني عِلاَج -قال: وكان أدهى العرب وأنكرها رأيًا- فقالوا له: يا عَمرو، ألم ترَ ما حدث في السماءِ من القذف بهذه النجوم. قال: بَلَى، فانظروا، فإن كانت معالم النجوم التي يُهْتَدى بها في البرِّ والبحر، وتعرَف بها الأنواءُ من الصيف والشتاء لما يُصلح الناسَ في معايشهم، هى التي يُرْمَى بها، فهو واللّه طيُّ الدنيا، وهلاكُ هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجومًا غيرَها، وهى ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد اللّه به هذا الخلق، فما هو1؟
الرسول يسأل الأنصار عن قولهم في رجم الجن بالشهب وتوضيحه للأمر:
قال ابن إسحاق: وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن علي بن الحُسين بن علي بن أبى طالب، عن عبد اللّه بن العباس، عن نفر من الأنصار: أن رسولَ اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم:
"ماذا كنتم تقولون في هذا النَّجْم الذي يُرْمَى به؟" قالوا: يا نبي اللّه كنا نقول حين رأيناها يُرْمَى بها: مات مَلِكٌ، مُلّك مَلِك، وُلد مولود، مات مولود،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد فعل ما فعلت ثقيف بنو لهب عند فزعهم الرَّمْي بالنجوم، فاجتمعوا إلى كاهن لهم يقال له: خطر، فبين لهم الخبر، وما حدث من أمر النبوة.

ص -192-      فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك كذلك، ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قَضى في خلقِه أمرًا سَمِعه حملة العرش، فسبَّحوا، فسبَّح مَنْ تَحتَهم، فسبح لتسبيحِهم مَن تحتَ ذلك، فلا يزال التسبيح يهبطُ حتى ينتهىَ إلى السماء الدنيا، فيسبحوا، ثم يقول بعضُهم لبعض: مِمَّ سبحتم؟ فيقولون: سَبَّحَ مَن فوقنا فسبحنا لتسبيحهم، فيقولون: ألا تسألون مَنْ فوقَكم: مِمَّ سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك، حتى ينتهوا إلى حملةِ العرشِ، فيُقال لهم: مِمَّ سبحتم؟ فيقولون: قضى اللهُ في خلقه كذا وكذا، للأمرِ الذي كان، فيهبط به الخبرُ من سماءٍ إلى سماء حتى ينتهي إلى السماءِ الدنيا، فيتحدثوا به، فتسترقه الشياطينُ بالسمع، على توهّم واختلاف، ثم يأتوا به الكهان من أهلِ الأرض فيحدثوهم به.. فيخطئون ويصيبون، فيتحدث به الكهان فيصيبون بعضًا ويخطئون بعضًا. ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين بهذه النجوم التي يُقْذَفون بها، فانقطعت الكهانةُ اليومَ فلا كهانةَ"1.
قال ابن إسحاق: وحدثني عَمرو بن أبي جعفر، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبى لَبيبة، عن علي بن الحُسين بن علي -رضى الله عنهم- بمثل حديث ابن شهاب عنه.
الغيطَلة وصاحبها: قال ابن إسحاق: وحدثني بعضُ أهل العلم: أن امرأةً من بني سَهْم يقال لها الغَيْطَلة كانت كاهنة في الجاهلية، فلما جاءها صاحبُها فِي ليلة من الليالي، فأنْقَض تحتها، ثم قال: أدْرِ ما أدْرِ. يوم عَقْر ونحْر، فقالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟ ثم جاءها ليلةً أخرى، فأنْقَض تحتها، ثم قال: شُعوب، ما شُعوب؛ تُصْرَع فيه كَعْب لجُنوب. فلما بلغ ذلك قريشًا، قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن، فانظروا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والذي انقطع اليوم، وإلى يوم القيامة، أن ندرك الشياطين ما كانت تدركه في الجاهلية الجهْلاء، وعند تمكنها من سماع أخبار السماء، وما يوجد من كلام الجن على ألسنة المجانين إنما هو خبر منهم عما يروْنه في الأرض، مما لا نراه نحن كسرقة سارق، أو خبئية في مكان خفي، أو نحو ذلك، وإن أخبروا بما سيكون كان تخرصًا وتظنيًا، فيصيبون قليلًا، ويخطئون كثيرًا. وذلك القليل الذي يصيبون هو مما تتكلم به الملائكة في العَنان، كما في حديث البخاري: "فيطردون بالنجوم، فيضيفون إلى الكلمة الواحدة أكثر من مائة كذبة".

ص -193-      ما هو؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشِّعْب، فعرفوا أنه الذي كان جاء به إلى صاحبته.
نسب الغيطلة: قال ابن هشام: الغَيْطلة من بني مُرة بن عبد مُناة بن كنانة، إخوة مُدْلج بن مُرة1 وهي أم الغياطل الذين ذكر أبو طالب في قوله:
لقد سَفُهَت أحلامُ قوم تبدَّلوا                    بني خَلَفٍ قَيْضًا بنا والغياطل
فقيل لولدها: وهم من بني سهم بن عمرو بن هُصَيْص. وهذا البيت في قصيدة له، سأذكرها في موضعها -إن شاء الله تعالى.
كاهن جَنْب يذكر خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجُرَشيُّ: أن جَنْبًا2 بطنًا من اليمن، كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذُكر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانتشر في العرب، قالت له جَنْب: انظر لنا في أمر هذا الرجل، واجتمعوا له في أسفل جبله فنزل عليهم حين طلعت الشمس، فوقف لهم قائمًا متكئًا على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلًا، ثم جعل ينزو، ثم قال أيها الناس، إن الله أكرم محمدًا واصطفاه، وطهَّر قلبَه وحشاه، ومُكثه فيكم أيها الناس قليل، ثم اشتد في جبله راجعًا من حيث جاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال في نسبها: الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصَّعِق بن شنوق بن مرة وشنوق أخو مدلج، وهكذا ذكر نسبها الزبير.
وذكر قولها: شُعُوب وما شعوب، تُصرَع فيها كَعب لجُنُوب. كعب ههنا هو: كعب بن لؤي، والذي صرعوا لجنوبهم ببدر وأحد من أشراف قريش، معظمهم من كعب بن لؤي، وشُعوب ههنا بضم الشين، ولم أجده مقيدًا، وكأنه جمع شعب، وقول ابن إسحاق يدل على هذا حين قال: فلم يُدْرَ ما قالت، حتى قتل من قُتل ببدر وأحد بالشِّعب.
2 جنب هم من مَذْحِج، وهم: عَيِّذ الله، وأنس الله، وزيد الله، وأوس الله، وجُعْفِي، والحكم، وجِرْوة، بنو سعد العشيرة بن مَذْحج، ومَذْحِج هو: مالك بن أدد، وسموا: جنبًا لأنهم جانبوا بني عمهم صُداء ويزيد ابني سعد العشيرة بن مذحج.

ص -194-      سواد بن قارب يحدث عمر بن الخطاب عن صاحبه من الجن: قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب، مولى عثمانَ بن عفان، أنه حُدِّث: أن عمر بن الخطاب، بينما هو جالس في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل رجل1 من العرب داخلًا المسجد، يريد عمرَ بنَ الخطاب، فلما نظر إليه عمر -رضي الله عنه- قال: إن هذا الرجل لعلَى شِركه ما فارقه بعدُ، ولقد كان كاهنًا في الجاهلية. فسلَّم عليه الرجل، ثم جلس، فقال له عمر -رضي الله عنه- هل أسلمت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال له: فهل كُنتَ كاهنًا في الجاهلية؟ فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين! لقد خِلْتَ فِيّ2، واستقبلتني بأمر ما أراك قلتَه لأحد من رعيتك منذ وليتَ ما وليتَ، فقال عمر: اللهمَّ غُفرًا، قد كنا في الجاهلية على شَرٍّ من هذا، نعبد الأصنامَ، ونعتنق الأوثانَ، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإِسلام، قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين، لقد كنتُ كاهنًا في الجاهلية، قال: فأخبرْني ما جاءك به صاحبُك، قال: جاءني قبل الإِسلام بشهر أو شَيْعه3، فقال: ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلامها.
قال ابن هشام: هذا الكلام سجع، وليس بشعر.
قال عبد الله بن كعب: فقال عمر بن الخطاب عند ذلك يحدث الناس: والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش، قد ذَبح له رجلٌ من العرب عجلًا، فنحن ننتظر قَسْمَه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو سواد بن قارب الدوسيُّ في قول ابن الكلبي، وقال غيره: هو سدوسي.
2 خِلْت فِيَّ: هو من باب حذف الجملة الواقعة بعد خِلت وظننت، كقولهم في المثل: "من يسمع يَخَل"، ولا يجوز حذف أحد المفعولين مع بقاء الآخر؛ لأن حكمهما حكم الابتداء والخبر، فإذا حذفت الجملة كلها جاز؛ لأن حكمهما حكم المفعول، والمفعول قد يجوز حذفه، ولكن لا بد من قرينة تدل على المراد، ففي قولهم: من "يسمع يَخَل" دليل يدل على المفعول، وهو يسمع، وفي قوله، "خلت في" دليل أيضًا، وهو قوله: فِيَّ، كأنه قال: خلت الشر فيَّ أو نحو هذا. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص242".
3 شَيْعه أي: دونه بقليل، وشيع كل شيء: ما هو تبع له، وهو من الشّياع وهي: حطب صغار تجعل مع الكبار تبعًا لها، ومنه: المُشَيَّعة، وهي: الشاة تتبع الغنم؛ لأنها دونها في القوة.

ص -195-      ليقْسِم لنا منه، إذ سمعتُ من جوف العجل صوتًا ما سمعتُ صوتًا قطُّ أنفذ منه، وذلك قُبَيْل الإِسلام بشهر أو شَيْعه، يقول: يا ذَريح1، أمرٌ نجيح، رجلٌ يصيح، يقول: لا إله إلا الله.
قال ابن هشام: ويقال: رجل يصيح، بلسان فصيح يقول: لا إله إلا الله. وأنشدني بعضُ أهل العلم بالشعر:
عجبت للجن وإبلاسها             وشدها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى     ما مؤمنو الجن كأنجاسها
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا من الكهان العرب.
إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم:
اليهود -لعنهم الله- يعرفونه ويكفرون به: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإِسلام، مع رحمة الله تعالى وهُداه، لما كنا نسمع من رجال يهود، كُنا أهلَ شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نِلْنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يُبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وِإرَم، فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- أجبناه، حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه، فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويروي أن الصوت الذي سمعه عمر من العجل: يا جليح وهو اسم شيطان، والجليح في اللغة: ما تطاير من رءوس النبات وخف، نحو القطن وشبهه، والواحدة: جليحة، والذي وقع في السيرة: يا ذريح، وكأنه نداء للعجل المذبوح لقولهم. أحمر ذَرِيحِيّ، أي: شديد الحمرة، فصار وصفًا للعجل الذبيح من أجل الدم: ومن رواه: يا جليح، فماله إلى هذا المعنى؛ لأن العجل قد جُلح أي: كُشف عنه الجلد.

ص -196-      قال ابن هشام: يستفتحون: يستنصرون، ويستفتحون أيضًا: يتحاكمون، وفي كتاب الله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
سلَمة يذكر حديثَ اليهودي الذي أنذر بالرسول -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني صالحُ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عَوْف، عن محمود بن لَبيد أخى بني عبد الأشْهل عن سَلَمة بن سلامة بن وقش1 -وكان سَلَمة من أصحاب بدر- قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشْهل، قال: فخرج علينا يومًا من بيته، حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنًّا، عليَّ بُردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامةَ والبعث والحسابَ والميزان والجنةَ والنار، قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرَوْن أن بعثًا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحكَ يا فلان!! أوَترى هذا كائنًا، أن الناس يُبْعثون بعدَ موتِهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلَف به، ولَوَدَّ أن له بحظِّه من تلك النار أعظمَ تَنور في الدار، يحمونه ثم يُدخلونه إياه فيطينونه عليه، بأن ينجوَ من تلك النار غدًا، فقالوا له: ويحك يا فلان! فما آيةُ ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد -وأشار بيده إلى مكة واليمن- فقالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ، وأنا من أحدثهم سنًا، فقال: إن يَسْتنفدْ هذا الغلام عمرَه يدركْه قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللهُ محمدًا رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو حيٌّ بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيًا وحسدًا. قال: فقلنا له. وَيْحك يا فلانُ!! ألستَ الذي قلتَ لنا فيه ما قلتَ؟ قال: بلى ولكن ليس به.
ابن الهيبان اليهودي يتسبب في إسلام ثعلبة وأسيد ابني سعية وأسد بن عبيد: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عمَّ كان إسلام ثعلبة بن سَعْية وأسِيد بن سَعْية2 وأسد بن عبيد نفر من بني هَدْل، إخوة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وَقَش: بتحريك القاف وتسكينها، والوقش: الحركة.
2 قال إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، عن ابن إسحاق، وهو أحد رواة المغازي عنه: أسيد بن سعية بضم الألف، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق، وهو قول الواقدي وغيره أسيد بفتحها قال: الدارقطني: وهذا هو الصواب، ولا يصح ما قاله إبراهيم عن ابن إسحاق، وبنو سعية هؤلاء فيهم أنزل الله عز وجل:
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 117] الآية، وسعية أبوهم يقال له: ابن العريض، وهو بالسين المهملة، والياء المنقوطة باثنتين.

ص -197-      بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام، قال: قلت: لا، قال: فإن رجلًا من يهود من أهل الشام، يقال له: ابن الهيَبان1، قَدِم علينا قُبَيْل الإسلام بسنين، فَحَلَّ بينَ أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلًا قط لا يصلي الخمس أفضلَ منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحَط عنا المطر قلنا له: اخرج يابن الهيِّبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله، حتى تُقدِّموا بين يدَيْ مخرجِكم صدقةً، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر، أو مُدَّيْن من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حَرَّتنا، فيستسقي الله لنا، فوالله ما يبرح مجلسه، حتى تمرَّ السحابةُ ونُسْقَى، قد فعل ذلك غيرَ مرة ولا مرتين ولا ثلاث. قال: ثم حضرته الوفاةُ عندَنا، فلما عَرَف أنه ميِّت، قال: أيا معشر يهود، ما ترونَه أخرجني من أرضِ الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: إنك أعلم، قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكَّف خروج نبي قد أظلَّ زمانه. وهذه البلدة مُهاجَرُه، فكنتُ أرجو أن يُبْعث، فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تُسْبَقُنَّ إليه يا معشر يهود، فإنه يُبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه.
فلما بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحاصر بني قُرَيْظة، قال هؤلاء الفتية، وكانوا شبابًا أحداثًا: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيِّبان، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا، وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم. قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والهيبان من المسمين بالصفات، يقال: قُطن هَيِّبان أي: منتفش، وأنشد أبو حنيفة الدينوري:
تُطيِر اللغَام الْهَيَّبان كأنه                 جَنَى عُشَرٍ تنفيه أشداقها الهُدْل
والْهَيبَان أيضًا: الجبان.

ص -198-      حديث إسلام سلمان رضي اللهّ عنه:
سلمان -رضي الله عنه- يتشوَّف إلى النصرانية بعد المجوسية: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة الأنصاري، عن محمود بن لَبيد، عن عبد الله بن عباس، قال: حدثني سَلْمان الفارسي من فِيه قال: كنتُ رجلًا فارسيًّا من أهل إصبهان1 من أهل قرية يقال لها: جَيّ، وكان أبي دِهْقَان قريته، وكنتُ أحبَّ خلق الله إليه، لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تُحبس الجارية. واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطْنَ النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة. قال: وكانت لأبي ضَيْعة عظيمة، قال: فشُغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شُغلت في بنياني هذا اليوم عن ضَيْعتي فأذهب إليها، فاطَّلِعْها -وأمرني فيها ببعض ما يريد- ثم قال لي: ولا تحتبسْ عني؟ فإنك إن احتبست عني كنتَ أهمَّ إليَّ من ضَيْعتي، وشغلْتني عن كل شيء من أمري. قال: فخرجت أريد ضَيْعتَه التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس، لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعتُ أصواتَهم دخلت عليهم، أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم، أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما بَرِحْتُهم حتى غَرَبت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ أوَلَمْ أكن عهدتُ إليك ما عهدت؟ قال: قلت له: يا أبت، مررتُ بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غَرَبت الشمس، قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خيرٌ، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت له: كلاَّ والله، إنه لخير من ديننا. قال: فخافني، فجعل في رجليَّ قَيدًا؛ ثم حبسني في بيته.
سلمان يهرب إلى الشام: قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قَدِم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجارٌ من النصارى، فأخبروني بهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إصبهان: هكذا قيده البكري في كتاب المعجم بالكسر في الهمزة، وإصبَه بالعربية: فرس، وقيل: هو العسكر، فمعنى الكلمة: موضع العسكر أو الخيل، أو نحو هذا.

ص -199-      فقلتُ لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعةَ إلى بلادِهم، فآذِنوني بهم: قال: فلما أرادوا الرجعةَ إلى بلادهم، أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجليَّ، ثم خرجت معهم، حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علمًا؟ قالوا: الأسْقُفُّ في الكنيسة.
سلمان مع أسقف النصارى السيئ: قال: فجئته، فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، فأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، فأتعلم منك، وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه. قال: وكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئًا منها اكتنزه لنفسه، ولم يعْطه المساكين، حتى جمع سبعَ قِلال من ذهب ووَرِق. قال: فأبغضته بُغضًا شديدًا، لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى، ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجلَ سوءٍ، يأمركم بالصدقة، ويرغِّبكمٍ فيها، فإذا جئتموه بها، اكتنزها لنفسه، ولم يعطِ المساكين منها شيئًا. قال: فقالوا لي: وما عِلْمُك بذلك؟ قال: فقلت لهم: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدُلنا عليه قال: فأريتهم موضعَه، فاستخرجوا سبعَ قِلال مملوءة ذهبًا ووَرِقًا. قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا. قال: فصلبوه، ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر، فجعلوه مكانه.
سلمان مع أسقف النصارى الصالح: قال: يقول سلمانُ: فما رأيتُ رجلًا لا يصلي الخمسَ، أرى أنه كان أفضلَ منه، وأزهدَ في الدنيا، ولا أرغبَ في الآخرة، ولا أدأبَ ليلا ولا نهارًا منه. قال: فأحببتُه حبًّا لم أحبه شيئًا قبله مثله. قال: فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاةُ، فقلتُ له: يا فلان، إني قد كنت معك، وأحببتك حبًّا لم أحبه شيئًا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم اليوم أحدًا على ما كنت عليه، فقد هلك الناسُ، وبدَّلوا وتركوا أكثرَ ما كانوا عليه، إلا رجلًا بالمَوْصِل، وهو على ما كنتُ عليه فالحق به.
سلمان يلحق بأسقف الموصل: فلما مات وغُيب لحقتُ بصاحب المَوْصل، فقلت له يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده: فوجدته خير رجل على أمرِ صاحبه، فلم يلبثْ أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له يا فلان: إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحاق بك، وقد حضرك من أمر

ص -200-      الله ما ترى، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه، إلا رجلًا بنَصِيبين، وهو فلان فالحق به.
سلمان يلحق بأسقف نصيبين: فلما مات وغُيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحباي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت. فلما حُضر، قلت له: يا فلان! إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلمه بَقيَ أحدٌ على أمرِنا أمرك أن تأتيَه إلا رجلًا بعَمّورِية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا.
سلمان يلحق بصاحب عمورية: فلما مات وغُيِّب لحقتُ بصاحب عَمُّورِية، فأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل، على هَدْي أصحابه وأمرِهم، قال: واكتسبتُ حتى كان لي بقرات وغُنَيْمة. قال: ثم نزل به أمرُ الله، فلما حُضِر، قلت له: يا فلانُ، إني كنت مع فلان، فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مِثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيَه، ولكنه قد أظل زمانُ نبيٍّ، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مُهَاجَرُه إلى أرض بين حَرَّتَيْن، بينهما نخل به علامات لا تخفي، يأكل الهديةَ، ولا يأكل الصدقةَ، وبين كتفيه خاتَمُ النبوة، فإن استطعتَ أن تلحقَ بتلك البلاد فافعلْ.
سلمان يذهب إلى وادي القرى: قال: ثم مات وغُيِّب، ومكثت بَعَمُّورِية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كَلب تجار، فقلتُ لهم: احملونى إلى أرض العربِ، وأعطيكم بقراتي هذه وغُنَيْمتي هذه، قالوا: نعم فأعطَيْتُهُموها، وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل يهودي عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخلَ، فرجوْتُ أن يكون البلدَ الذي وَصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي.
سلمان يذهب إلى المدينة: فبينا أنا عندَه، إذ قدم عليه ابنُ عم له من بني قُرَيْظة من المدينة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، والله ما هو إلا أن رأيتُها، فعرفتها بصفةِ صاحبي،


ص -201-      فأقمت بها، وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرقِّ، ثم هاجر إلى المدينة.
سلمان يسمع بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة: فوالله إني لفي رأس عذْق لسيدي أعمل له فيه. بعض العمل وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له، حتى وقف عليه، فقال: يا فلانُ، قاتل الله بني قَيْلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي.
نسب قيلة: قال ابن هشام: قَيْلة: بنت كاهل بن عُذْرَة بن سعد بن زيد بن ليث بن سَوْد بن أسْلم بن الْحاف بن قُضاعة، أم الأوْس والخزرج.
قال النعمان بن بشير الأنصارى يمدح الأوس والخزرج:
بهاليلُ من أولادِ قَيْلة لم يَجِدْ                   عليهم خليط في مُخالطةٍ عُتْبا
مساميحُ أبطال يُرَاحُون للندَى                 يَرَوْنَ عليهم فِعلَ آبائهم نحبًا
وهذان البيتان في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لَبيد، عن عبد الله بن عباس، قال سَلْمان: فلما سمعتها أخذني العُرَوْراء. قال ابن هشام: العُرَوْراء: الرعدة من البرد والانتفاض، فإن كان مع ذلك عرق فهي الرُّحَضاء، وكلاهما ممدود -حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبلْ على عملك، قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.
سلمان يستوثق من رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم: قال: وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بقُبَاء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيرِكم، قال: فقرَّبته إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: كلوا، وأمسك يده، فلم يأكل. قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة. قال: ثم انصرفتُ عنه، فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى

ص -202-      المدينة، ثم جئتُه به، فقلت له: إني قد رأيتُك لا تأكل الصدقة، فهذه هديةٌ أكرمتُك بها. قال: فأكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها، وأمر أصحابه، فأكلوا معه. قال فقلت في نفسي: هاتان ثنتان، قال: ثم جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ببقيع الغَرْقَد، قد تبع جنازة رجل من أصحابه، عليَّ شملتان لي، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استدبرته، عَرَف أني أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره. فنظرت إلى الخاتم فعرَفته، فأكببتُ عليه أقبله، وأبكي، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تحول"، فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي، كما حدثتك يابن عباس، فأعجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسمع ذلك أصحابُه. ثم شَغل سلمانَ الرقُّ حتى فاته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدر وأحد.
سلمان يفكُّ نفسه من الرق بأمر رسول الله ومساعدته صلى الله عليه وسلم: قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كاتبْ يا سلمان"، فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفَقِير1، وأربعين أوقية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أعينوا أخاكم"، فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين وَدِيَّة، والرجل بعشرين وَدِيَّة. والرجل بخمس عشرة وَدِيَّة، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلثمائة وَدِيَّة، فقال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا سلمان ففقرْ لها، فإذا فرغت فأتني، أكن أنا أضعها بيدي". قال ففقَّرْت، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوجه: التفقير للنخلة. يقال لها في الكَرمَة: حَييَّة، وجمعها: حيَايَا، وهي الحفيرة، وإذا خرجت النخلة من النواة فهي: عَرِيسة، ثم يقال لها: ودية، ثم فسِيلة، ثم أشَاءَة، فإذا فاتت اليد فهي: جَبارة، وهي العضيد، والكتيله، ويقال للتي لم تخرج من النواة، لكنها اجتثت من جنب أمها: قلعة وجثيثة، وهي الجثائث والهِرَاء، ويقال للنخلة الطويلة: عَوَانة بلغة عمان، وعَيْدَانة بلغة غيرهم، وهي فيعالة من عدن بالمكان -أقام به- واختلف فيها قول صاحب كتاب العين، فجعلها تارة: فَيعالة من عدن، ثم جعلها في باب المعتل العين فَعلانة.

ص -203-      رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الوَدِيَّ، ويضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده حتى فرغنا. فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها وَدِيَّة واحدة1.
قال: فأديت النخل، وبقي عليَّ المال، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمثل بيضة الدجاجة من ذهب. من بعض المعادن، فقال:
"ما فعل الفارسي المكاتَب؟" قال: فدُعيت له، فقال: "خذ هذه، فأدِّها مما عليك يا سلمان". قال: قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ فقال: "خذْها، فإن الله سيؤدي بها عنك". قال: فأخذتها، فوزَنْت لهم منها -والذي نفس سلمان بيده-أربعين أوقية، فأوفيتهم حقَّهم منها، وعُتق سلمان. فشهدتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخندقَ حُرًّا، ثم لم يفتني معه مشهد.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس عن سلمان: أنه قال: لما قلتُ: وأين تقع هذه من الذي عليَّ يا رسول الله؟ أخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلبها على لسانِه، ثم قال: خذها فأوفهمْ منها، فأخذتها، فأوفيتُهم منها حقَّهم كله، أربعين أوقية.
حديث سلمان مع الرجل الذي بعمورية: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز بن مروان، قال: حُدثت عن سلمانَ الفارسِّي: أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخبره خبره: إن صاحب عمورية قال له: ائت كذا وكذا من أرضِ الشام، فإن بها رجلًا2 بين غَيْضتين، يخرج في كل سنة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر البخاري حديث سلمان كما ذكره ابن إسحاق. غير أنه ذكر أن سلمان غرس بيده ودية واحدة، وغرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائرها، فعاشت كلها إلا التي غرس سلمان.
2 ذكر داود بن الحصين قال: حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال سليمان للنبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر خبر الرجل الذي كان يخرج مستجيزًا من غيضة إلى غيضة، ويلقاه الناس بمرضاهم، فلا يدعو لمريض إلا شفي، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن كنت صدقتني يا سلمان، فقد رأيت عيسى ابن مريم. إسناد هذا الحديث مقطوع، وفيه رجل مجهول، ويقال: إن ذلك الرجل هو الحسن بن عمارة، وهو ضعيف بإجماع منهم.

ص -204-      من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزًا، يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد منهم إلا شُفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي، فهو يخبرك عنه، قال سلْمانُ: فخرجت حتى أتيتُ حيثُ وُصف لي، فوجدت الناسَ قد اجتمعوا بمرضاهم هنالك، حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزًا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شُفِيَ، وغلبوني عليه، فلم أخْلُص إليه حتى دخل الغَيْضةَ التي يريد أن يدخل، إلا منكبه. قال: فتناولته. فقال: من هذا؟ والتفت إليَّ، فقلتُ: يرحمك الله، أخبرني عن الحَنِيفيَّة دين إبراهيم. قال: إنك لتسألني عن شيء ما يسأل عنه الناسُ اليومَ، قد أظلَّك زمانُ نبي يُبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فَأتِهِ فهو يحملك عليه. قال: ثم دخل. قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسلمان: "لئن كنت صدقتني يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم.." على نبينا وعليه السلام.
ذكر ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى وعُبَيْد الله ابن جحش وعثمان بن الحُوَيْرث وزَيْد بن عمرو بن نُفَيْل:
تشككهم في الوثنية: قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يومًا في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له، ويعكفون عنده، ويُديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، فخلَص منهم أربعة نفر نَجِيًّا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا، وليكتم بعضُكم على بعض، قالوا: أجل، وهم: وَرَقةُ بن نَوْفل بن أسَد بن عبد العُزَّى بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وعُبَيْد الله بن جحش بن رِئاب بن يَعْمر بن صبْرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم بن دودان بن أسد بن خُزيمة، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب.
وعثمان بن الحوَيْرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي. وزيد1 بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأم زيد هي: الحيداء بنت خالد الفَهْمية، وهي امرأة جده نُفَيْل، وَلدت له الخطاب فهو أخو الخطاب لأمه، وابن أخيه، وكان ذلك مباحًا في الجاهلية بشرع متقدم، ولم تكن من الحرمات التي انتهكوها، ولا من العظائم التي ابتدعوها؛ لأنه أمر كان في عمود نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت مُر، فولدت له النضر بن كنانة، وهاشم أيضًا قد تزوج امرأة أبيه وافدة فولدت له ضيفة، ولكن هو خارج عمود نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لم تلد جدًّا له، أعني: واقدة، وقد قال عليه السلام: "أنا من نكاح لا من سفاح"، ولذلك قال سبحانه:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي: إلا ما سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام.

ص -205-      عَمرو بن نُفَيْل بن عبد العزى بن عبد الله بن قُرْط بن رِياح بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي1. فقال بعضهم لبعض: تعلَّموا والله ما قومكم على شيء! لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به، لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين إبراهيم.
تنصر ورقة وابن جحش: فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتبَ من أهلها، حتى علم علمًا من أهل الكتاب. وأما عُبَيد الله بن جحش، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان مسلمة، فلما قدمها تنصَّر، وفارق الإِسلام، حتى هلك هنالك نصرانيًّا.
ابن جحش يغري مهاجري الحبشة على التنصر: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: كان عُبَيد الله بن جحش-حين تنصر- يمر بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم هنالك من أرض الحبشة فيقول: فقَّحْنا وصَأصَأتم، أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر، ولم تُبصروا بعد، وذلك أن ولد الكلب، إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر، صأصأ، لينظر. وقوله: فقَّح: فتح عينيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والمعروف في نسبه ونسب ابن عمه عمر بن الخطاب: نفيل بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بتقديم رياح على عبد الله، ورزاح بكسر الراء قيده الشيخ أبو بحر، وزعم الدارقطني أنه رزاح بالفتح، وإنما رزاح بالكسر: رزاح بن ربيعة أخو قصي لأمه الذي تقدم ذكره.

ص -206-      رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخلف على زوجة ابن جحش بعد وفاته: قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده على امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن علي بنَ حُسين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث فيها إلى النجاشى عَمْرَو بن أمية الضَّمْري، فخطبها عليه النجاشي؛ فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة دينار. فقال محمد بن علي: ما نرى عبد الملك بن مروان وقف صداق النساء على أربعمائة دينار إلا عن ذلك. وكان الذي أملكها النبي -صلى الله عليه وسلم- خالد بن سعيد بن العاص.
تنصر ابن الحُوَيْرث وقدومه على قيصر: قال ابن إسحاق: وأما عثمان بن الحُوَيْرث، فقدم على قيصر ملك الروم فتنصَّر، وحسنت منزلتُه عندَه. قال ابن هشام: ولعثمان بن الحُوَيْرث عند قيصر حديث، منعني من ذكره ما ذكرت في حديث حرب الفجار1.
زيد يتوقف عن جميع الأديان: قال ابن إسحاق: وأما زيد بن عَمرو بن نُفَيْل فوقف، فلم يدخل يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذْبَح على الأوثان2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويذكر أن قيصر كان قد توج عثمان، وولاه أمر مكة، فلما جاءهم بذلك أنفوا من أن يدينوا لملك، وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لَقَاح لا تدين لملك. فلم يتم له مراده، قال: وكان يقال له: البطريق، ولا عقب له، ومات بالشام مسمومًا، سمه عمرو بن جفْنَة الغساني الملك.
2 روى البخاري عن محمد بن أبي بكر، قال: أخبرنا فضيل بن سليمان، قال: أخبرنا موسى، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن يُنزل على النبي -عليه السلام- الوحي، فقدمت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سُفرة أو قدمها إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكر اسم =

ص -207-      ونهى عن قَتْل الموءودة1، وقال: أعبدُ ربَّ إبراهيم، وبادَى قومه بعيْب ما هم عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكر رضي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله عليه، وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماءً، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكارًا لذلك، وإعظامًا له.
وفيه سؤال يقال: كيف وفق الله زيدًا إلى ترك أكل ما ذبح على النصب، وما لم يذكر اسم الله عليه، ورسول الله –عليه الصلاة والسلام– كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت الله له؟ فالجواب من وجهين، أحدهما: أنه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح، فقدمت إليه السفرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكل منها، وإنما في الحديث أن زيدًا قال حين قدمت السفرة: لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه. الجواب الثانى: أن زيدًا إنما فعل ذلك برأي رآه، لا بشرع متقدم، وإنما تقدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة، لا بتحريم ما ذبح لغير الله، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام. وبعض الأصوليين يقولون: الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، فإن قلنا بهذا وقلنا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم كان يأكل مما ذبح على النصب، فإنما فعل أمرًا مباحًا، وإن كان لا يأكل منها فلا إشكال، وإن قلنا أيضًا: إنها ليست على الإباحة، ولا على التحريم، وهو الصحيح، فالذبائح خاصة لها أصل في تحليل الشرع المتقدم كالشاة والبعير، ونحو ذلك، مما أحله الله تعالى في دين من كان قبلنا، ولم يقدم في ذلك التحليل المتقدم ما ابتدعوه، حتى جاء الإسلام، وأنزل الله سبحانه:
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب عندنا على أصل التحليل بالشرع المتقدم، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر، وعبادة الصلبان، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلا بالشرع المتقدم، حتى خصه القرآن بالتحريم.
1 وقد كان صعصعة بن معاوية جد الفرزدق -رحمه الله- يفعل مثل ذلك، ولما أسلم سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هل لي في ذلك من أجر؟ فقال في أصح الروايتين:
"لك أجره إذا منَّ الله عليك بالإسلام". وهذا الحديث أخرجه البخاري، والموءودة مفعولة
من وأده إذا أثقله له. قال الفرزدق:
ومنا الذي منع الوائدا         ت وأحيا الوئيد فلم يُوأد
يعني: جده صَعْصَعة بن معاوية بن ناجية بن عِقال ابن محمد بن سفيان بن مُجاشع.
وقد قيل: كانوا يفعلون ذلك غَيْرة على البنات، وما قاله الله في القرآن هو الحق من قوله:
{خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وذكر النقاش في التفسير: أنهم كانوا يئدون من البنات، ما كان منهن زرقاء أو بَرْشاءَ أو شَيماءَ أو كشحاء تشاؤمًا منهم بهذه الصفات قال
الله تعالى:
{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9].
ص -208-      الله عنهما، قال: لقد رأيتُ زيدَ بن عمرو بن نُفَيْل شيخًا كبيرًا مُسْنِدًا ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشرَ قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده: ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أيَّ الوجوه أحبّ إليك عبدتُك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته.
قال ابن إسحاق: وحُدثت أن ابنه سعيد بن زيْد بن عمرو بن نُفَيْل وعمر بن الخطاب، وهو ابن عمه، قالا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتستغفر لزيد بن عمرو؟ قال:
"نعم، فإنه يُبْعث أمةً وحدَه".
شعر زيد في فراق الوثنية: وقال زيد بن عمرو بن نفيل في فراق دين قومه وما كان لقى منهم في ذلك:
أرَبًّا واحدًا، أم ألفَ رب           أدِينُ إذا تُقُسمت الأمورُ
عَزَلْتُ اللاتَ والعُزَّى جميعًا     كذلك يفعلُ الجَلْدُ الصبورُ1

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرت اللات فيما تقدم أما العزى، فكانت نخلات مجتمعة، وكان عمرو بن لحي قد أخبرهم -فيما ذكر- أن الرب يُشَتي بالطائف عند اللات، ويُصَيِّف بالعزى، فعظموها وبنوا لها بيتًا، وكانوا يهدون إليه كما يهدون إلى الكعبة، وهي التي بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد ليكسرها، فقال له سادنُها: يا خالد احذرها؛ فإنها تجذع وتكنع -تشل- فهدمها خالد وترك منها جذمها -أصلها- وأساسها، فقال قيمها: والله لتعودن ولتنتقمن فمن فعل بها هذا، فذُكر -والله أعلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لخالد:
"هل رأيت فيها شيئًا؟" فقال: لا، فأمره أن يرجع، ويستأصل بقيتها بالهدم، فرجع خالد، فأخرج أساسها فوجد فيها امرأة سوداء منتفشة الشعر تخدش وجهها، فقتلها، وهرب القيم، وهو يقول: لا تُعبد العُزى بعد اليوم. هذا معنى ما ذكر أبو سعيد النيسابوري في المبعث. وذكره الأزرقي أيضًا ورزين.

ص -209-                    فلا العُزَّى أدينُ ولا ابنتيْها        ولا صَنَمَيْ بني عمرو أزورُ
ولا هُبَلًا أدين، وكان ربًّا         لنا في الدهر إذ حِلمي يسيرُ
عجبت وفي الليالي مُعْجَبات                   وفي الأيام يعرفها البصيرُ
بأن اللهَ قد أفنى رجالًا          كثيرًا كان شأنَهمُ الفجورُ
وأبقى آخرين ببرِّ قومٍ           فَيَرْبِلُ منهمُ الطفلُ الصغير1
وبَيْنا المرءُ يعثر ثابَ يومًا       كما يَتروَّح الغصنُ المطيرُ2
ولكنْ أعبدُ الرحمنَ ربِّي       ليغفرَ ذنبيَ الربُّ الغفورُ
فتقوى اللهِ ربكم احفظوها    متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرارَ دارَهُم جِنانٌ        وللكفارِ حامية سعيرُ
وخزْي في الحياة وإن يموتوا                    يلاقوا ما تضيقُ به الصدورُ
وقال زيد بن عمرو بن نُفَيل أيضًا -قال ابن هشام: هي لأمية بن أبى الصلت في قصيدة له إلا البيتين الأولين، والبيت الخامس، وآخرها بيتًا. وعجز البيت الأول عن غير ابن إسحاق:
إلى الله أهْدِي مِدحتي وثنائيا                  وقولًا رصينًا لا يني الدهرَ باقيًا
إلى الملكِ الأعلى الذي ليس                  فوقَه إلهٌ ولا رب يكونُ مُدانيَا
                    
ألا أيها الإنسان إياك والرَّدَى                     فإنك لا تخفى من الله خافيَا3
وإياكَ لا تجعلْ مع اللهِ غيرَهُ     فإن سبيلَ الرُّشْد أصبحَ باديَا
                    

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ربل الطفل يربل إذا ثب وعظم. يربل بفتح الباء أي يكبر وينبت، ومنه أخذ تربيل الأرض.
2 يتروح الغصن: أي: ينبت ورقه بعد سقوطه.
3 إياك والردى: هنا تحذير من الردى، والردى هو الموت، فظاهر اللفظ متروك، وإنما هو تحذير مما يأتي به الموت، ويبديه ويكشف من جزاء الأعمال؛ ولذلك قال: فإنك لا تخفى من الله خافيًا.
ص -210-                    حَنَانَيْكَ إن الجنَّ كانت رجاءَهم وأنتَ إلهي ربنا ورجَائيَا1
رضيتُ بك اللهمَّ ربًّا فلن       أرَى أدينُ إلها غيرك اللهُ ثانيَا2
وأنت الذي من فَضْل مَن ورحمةٍ                بعَثتَ إلى موسى رسولًا مناديَا
فقلت له يا اذْهب وهارون فادْعُوَا              إلى الله فرعونَ الذيِ كان طاغيا3
وقولا له آأنْتَ سَوَّيتَ هذه     بلا وَتدٍ، حتى اطمأنت كما هيا4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حنانيك بلفظ التثنية، قال النحويون: يربد حنانًا بعد حنان، كأنهم ذهبوا إلى التضعيف والتكرار، لا إلى القصر على اثنين خاصة دون مزيد. قال المؤلف رحمه الله: ويجوز أن يريد حنانًا في الدنيا، وحنانًا في الآخرة، وإذا قيل هذا لمخلوق نحو قول طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا              حنانيْك بعض الشر أهون من بعض
فإنما يريد: حنان دَفْعٍ، وحنان نَفْعٍ، لأن كل من أمَّل مَلكا، فإنما يؤمله ليدفع عنه ضيرًا، أو ليجلب إليه خيرًا.
2 أدين إلهًا، أي: أدين لإله، وحذف اللام وعدى الفعل؛ لأنه في معنى: أعبد إِلَهًا. وقوله: غيرك الله برفع الهاء، أراد: يا ألله، و هذا لا يجوز فيما فيه الألف واللام، إلا أن حكم الألف واللام في هذا اللفظ المعظم يخالف حكمها في سائر الأسماء، ألا ترى أنك تقول: يا أيها الرجل، ولا ينادي اسم الله بيأيها، وتقطع همزته في النداء، أي تجعلها همزة قطع فتقول: يا ألله، ولا يكون ذلك في اسم غيره، إلى أحكام كثيرة يخالف فيها هذا الاسم لغيره من الأسماء المعرفة.
3 ألا يا اذهب على حذف المنادى. كأنه قال: ألا يا هذا اذهب، كما قرئ:
{أَلّا يَا اسْجُدُوا} [النمل: 25] يريد: يا قوم اسجدوا، وكما قال غيلان:
ألا يا اسلمي يا دارَ مَي على البِلَى
وفيه: "اذهب وهارون"، عطفًا على الضمير في اذهب، وهو قبيح إذا لم يؤكد، ولو نصبه على المفعول معه لكان جيدًا.
4 اطمأنت كما هيا، وزنه افلعلت؛ لأن الميم أصلها أن تكون بعد الألف؛ لأنه من تطامن أي: تطأطأ، وإنما قدموها لتباعد الهمزة التي هي عين الفعل من همزة الوصل، فتكون أخف عليهم في اللفظ، كما فعلوا في أشياء حين قلبوها في قول الخليل وسيبويه فرارًا من تقارب الهمزتين. كما هيا؛ ما: زائدة لتكف الكاف عن العمل، وتهيئها للدخول على الجمل، وهي: اسم مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: كما هي عليه، والكاف في موضع نصب على الحال من المصدر الذي دل عليه، اطمأن، كما تقول: سرت مثل سير زيد؛ فمثل حال من سَيْرك الذي سرته.
ص -211-                       وقولا له: آأنْتَ رفعت هذه بلا عَمَدٍ، أرفقْ إذن بك بانيَا1
وقولا. له: آأنْتَ سوَّيت وَسْطَها                    مُنيرًا، إذ ما جَنَّه الليلُ هاديَا
وقولا له: من يرسلُ الشمس غُدوةً              فيُصبح ما مست من الأرض ضاحيًا
وقولا له: من يُنبتُ الحبَّ في    الثرَى فيصبحُ منه البقلُ يهتزُّ رابيَا
ويُخرج منه حبَّه في رءوسِه      وفي ذاك آياتٌ لمن كان وَاعيَا
وأنت بفضلٍ منك نجَّيت يونسًا                    وقد بات في أضعافِ حوتٍ لياليَا
وإني ولو سبحت باسمك ربنا                     لأُكْثِر إلا ما غفرتَ خطائيَا2
فربّ العبادِ ألق سَيْبًا ورحمةً     عليَّ، وباركْ في بنيَّ وماليَا
وقال زيد بن عمرو يعاتب امرأته صفية بنت الحَضرَمي:
نسب الحضرمي: قال ابن هشام: واسم الحضرمي: عبد الله بن عباد أحد الصَّدِف، واسم الصَّدف: عمرو بن مالك أحد السَّكون بن أشرس بن كِنْدي، ويقال: كِندة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أرفق: تعجب، "وبك" في موضع رفع لأن المعنى: رفقت، "وبانيًا" تمييز؛ لأنه يصلح أن يُجر بمن، كما تقول: "أحسن بزيد من رجل"، وحرف الجر متعلق بمعنى التعجب؛ إذ قد علم أنك متعجب منه.
2 معنى البيت: إني لأكثر من هذا الدعاء الذي هو باسمك ربنا إلا ما غفرت، وما، بعد إلا زائدة، وإن سبحت: اعتراض بين اسم إن وخبرها، كما تقول: إني لأكثر من هذا الدعاء الذي هو باسمك ربنا إلا والله يغفر لي لأفعل كذا، والتسبيح هنا بمعنى الصلاة، أي: لا أعتمد وإن صليت إلا على دعائك واستغفارك من خطاياي.
ص -212-      بن ثَوْر بن مُرَتِّع بن عُفَير بن عَدي بن الحارث بن مُرة بن أدد بن زيد بن مهسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ويقال: مُرَتِّع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
زيد يعاتب زوجته لمنعها له عن البحث في الحنيفية: قال ابن إسحاق: وكان زيد بن عمرو قد أجمع الخروج من مكة، ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فكانت صفيةُ بنت الحضرمي كلما رأته قد تهيأ للخروج، وأراده، آذنت به الخطاب بن نُفَيل، وكان الخطاب بن نُفَيل عمه وأخاه لأمه، وكان يعاتبه على فراق دين قومه، وكان الخطاب قد وكَّل صفية به. وقال: إذا رأيتيه قد هَمَّ بأمر فآذنيني به -فقال زيد:
لا تحسبيني فى الهوان         صفي ما دابي ودابه
إني إذا خفت الهوان              مشيع ذلل ركابه
دعموص أبواب الملوك            وجانب للخرق نابه
قطاع أسباب تذل                  بغير أقران صعابه
وإنما أخذ الهوان                   العير إذا يوهى إهابه
ويقول: إني لا أُذل                 بصك جنبيه صلابه
وأخي ابن أمي، ثم               عمي لا يواتني خطابه
وإذا يعاتبني بسوء                لست أعياني جوابه
ولو أشاء لقلت ما                 عندي مفاتحه وبابه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 دعموص أبواب الملوك. يريد: ولاّجا في أبواب الملوك، وأصل الدعموص: سمكة صغيرة كحية الماء، فاستعاره هنا، وكذلك جاء في حديث أبي هريرة يرفعه: صغاركم دعاميص الجنة.
2 إني لا أذل أي: يقول العير ذلك بصك جنبيه، صلابه، أي: صلاب لما توضع عليه، وأضافتها إلى العير؛ لأنها عبؤه وحمله.

ص -213-      قول زيد حين يستقبل الكعبة: قال ابن إسحاق: وحُدثت عن بعض أهلِ زيدٍ بن عمرو بن نُفَيل أن: أن زيدًا كان إذا استقبل الكعبة داخلَ المسجد، قال: لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا.
عُذتُ بما عاذ به إبراهيمْ     مستقبلَ القبلة، وهو قائم
إذ قال:
أنفي لك اللهم عان راغم                    مهما تجشمني فإني جاشم
البر أبغي لا الخال            ليس مهجر كمن قال1
قال ابن هشام: ويقال: البر أبقى لا الخال، ليس مهجر كمن قال. قال وقوله: "مستقبل الكعبة" عن بعض أهل العلم.
قال ابن إسحاق: وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت                   له الأرض تحمل صخرًا ثقالًا
دحاها فلما رآها استوت على                   الماء، أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت                   له المزن تحمل عذبًا زلالا
إذا هي سيقت إلي بلدة        أطاعت، فصبت عليها سجالًا
الخطاب يؤذي زيدًا ويحاصره: وكان الخطاب قد آذى زيدًا؛ حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابلَ مكة، ووكَّل به الخطاب شبابًا من شباب قُريش وسفهاء من سفهائهم، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سرًّا منهم، فإذا علموا بذلك، آذنوا به الخطاب، فأخرجوه، وآذوه كراهيةَ أن يُفسدَ عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد منهم على فراقه فقال، وهو يعظم حرمته على من استحلَّ منه ما استحل من قومه:
لا هُمَّ إني مُحرِم لا حِلّهْ        وإن بيتي أوسطُ المَحِلَّهْ
عند الصَّفا ليس بذي مَضَلَّهْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والخال: الخُيَلاءُ والكبر.
وقوله: ليس مهجر كمن قال، أي: ليس من هجَّر وتكيس، كمن آثر القائلة والنوم، فهو من: قال يقيل.

ص -214-      زيد يرحل إلى الشام وموته: ثم خرج يطلبُ دينَ إبراهيم عليه السلام، ويسأل الرهبانَ والأحبار، حتى بلغ الموصِل والجزيرةَ كلَّها، ثم أقبل فجالَ الشامَ كلَّه، حتى انتهى إلى راهب بميْفَعة1 من أرض البلقاء، كان ينتهي إليه عِلْمُ أهلِ النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفيةِ دين إبراهيم، فقال: إنك لتطلب دِينًا ما أنت بواجدٍ من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلَّ زمانُ نبي يخرج من بلادك التي خرجتَ مِنها، يُبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحقْ بها، فإنه مبعوث الآنَ، هذا زمانُه، وقد كان شَامَّ اليهودية والنصرانية، فلم يرضَ شيئًا منهما، فخرج سريعًا، حين قال له ذلك الراهب ما قال، يريد مكةَ، حتى إذا توسط بلادَ لخم، عَدَوْا عليه فقتلوه.
ورقة يرثي زيدًا: فقال ورقةُ بنُ نوفل بنِ أسد يبكيه:
رشدتَ وأنعمت ابن عمرو وإنما               تجنبْتَ تنّورًا من النار حاميا2
بدينك ربًّا ليس رب كمثلِه                     وترككَ أوثانَ الطواغي كما هيَا
وإدراكك الدينَ الذي قد طلبتَه                ولم تكُ عن توحيدِ ربِّك ساهيَا
فأصبحتَ في دارٍ كريمٍ مقامُها                تُعلَّلُ فيها بالكرامةِ لاهيا
تُلاقي خليلَ اللهِ فيها، ولم تكنْ              من الناسِ جَبَّارًا إلى النارِ هاويَا
وقد تدركُ الإنسانَ رحمة ربِّه                  ولوكان تحتَ الأرضِ سبعين واديَا3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل بكسر الميم من ميفعة، والقياس فيها: الفتح؛ لأنه اسم الموضع أخذ من اليفاع، وهو المرتفع من الأرض.
2 رشدت وأنعمت ابن عمرو، أي: رشدت وبالغت في الرشد، كما يقال: أمعنت النظر و أنعمته.
3 قوله: "ولو كان تحت الأرض سبعين واديا" بالنصب. نصب سبعين على الحال؛ لأنه قد يكون صفة للنكرة، كما قال: "فلو كنت في جب ثمانين قامة" وما أصله صفة للنكرة يكون حالا من المعرفة، وهو هنا حال من البعد، كأنه قال: ولو بَعُد تحت الأرض سبعين، كما تقول: بَعُد طويلا، أي: بُعدًا طويلًا، وإذا حذفت المصدر، وأقمت الصفة مقامه لم تكن إلا حالا.

ص -215-      قال ابن هشام: يروى لأمية بن أبى الصَّلْت البيتان الأوَّلان منها، وآخرها بيتًا في قصيدة له. وقوله: "أوثان الطواغي" عن غير ابن إسحاق.
صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الإِنجيل:
يُحَنَّس الحواري يثبت بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإِنجيل: قال ابن إسحاق: وقد كان -فيما بلغني عما كان وَضعَ عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإِنجيل لأهل الإنجيل -من صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما أثبت يُحَنَّس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإِنجيل عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الربَّ، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحدٌ قبلي، ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِرُوا وظنوا أنهم يَعُزُّونني، وأيضًا للرب، ولكن لا بد من أن تتم الكلمةُ التي في الناموس: أنهم أبغضوني مجانًا، أي: باطلًا. فلو قد جاء المنْحمنّا هذا الذي يرسله اللهُ إليكم من عند الربِّ، وروح القُدس هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضًا؛ لأنكم قديْمًا كنتم معي في هذا، قلت لكم: لكيما لا تشكوا.
والمُنْحَمَنَّا بالسريانية: محمد: وهو بالرومية: البرقْلِيطِس، صلى الله عليه وسلم.
مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم:
أخذ الله الميثاق على الرسل بالإِيمان به صلى الله عليه وسلم: قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: فلما بلغ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: باطلًا، وكذلك جاء في الحكمة: يابن آدم علم مجانًا، كما عُلِّمت مجانًا، أي: بلا ثمن، وفي وصايا الحكماء: شاور ذوي الأسنان والعقول يعطوك من رأيهم مجانًا ما أخذوه بالثمن، أي بطول التجارب.

ص -216-      محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين سنة بعثه اللهُ تعالى1 رحمةً للعالمين، وكافةً للناس بشيرًا، وكان اللهُ تبارك وتعالى قد أخذ الميثاقَ على كلِّ نبي بعثه قبلَه بالإِيمان به، والتصديق له، والنصر له على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدُّوا ذلك إلى كلِّ من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحقِّ فيه. يقول الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81]. أي ثقل ما حملتكم من عهدي: {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، فأخذ الله ميثاق النبيين جميعًا بالتصديق له، والنصر له ممن خالفه، وأدوا ذلك إلى من آمن بهم، وصدقهم من أهل هذين الكتابين.
الرؤيا الصادقة أول ما بُدئ به رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: فذكر الزهريُّ عن عُروة بن الزبير، عن عائشة رضى الله عنها أنها حدثته: أن أولَ ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به: الرؤيا الصادقةُ، لا يرى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رؤيا في نومِه إلا جاءت كفلق الصبح قالتْ: وحبب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلوَ وحدَه.
سلام الحجر والشجر عليه، صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الملك بن عُبَيْد الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر ابن إسحاق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بُعث على رأس أربعين من مولده عليه السلام، وهذا مروي عن ابن عباس، وجُبَيْر بن مطعم وقباث بن أشيم، وعطاء وسعيد بن المسيب، وأنس بن مالك وهو صحيح عند أهل السِّيَر والعلم بالأثر. وقد روي أنه نبئ لأربعين وشهرين من مولده، وقيل لقباث بن أشيم: من أكبر، أنتَ أم رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله أكبر مني، وأنا أسَنُّ منه، وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على رَوْثِ الفيل، ويروى: خَزْقِ الطير، فرأيته أخضر مُحِيلًا، أي قد أتى عليه حَول، وفي غير رواية البكائي من هذا الكتاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال: "لا يفتك صيام يوم الاثنين؛ فإني قد ولدت فيه، وبعثت فيه، وأموت فيه". "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص265".

ص -217-      ابن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، وكان واعيةً، عن بعض أهل العلم.
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعدَ حتى تحسَّرَ عنه البيوتُ، ويُفضى إلى شِعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحجر ولا شجر، إلا قال: السلامُ عليك يا رسولَ الله1. قال: فيلتفتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حولَه، وعن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى إلا الشجرَ والحجارة، فمكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك يرى ويسمع، ما شاء اللهُ أن يمكثَ، ثم جاءه جبريل عليه السلام2 بما جاءه من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي مصنف الترمذي ومسلم أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عَليَّ قبل أن ينَزَّل عَلَيَّ" وفي بعض المسندات زيادة أن هذا الحجر الذي كان يسلم عليه هو الحجر الأسود، وهذا التسليم: الأظهر فيه أن يكون حقيقة، وأن يكون الله أنطقه إنطاقًا كما خلق الحنين في الجذع، ولكن ليس من شروط الكلام الذي هو صوت وحرف: الحياة والعلم والإرادة؛ لأنه صوت كسائر الأصوات، والصوت: عَرَض في قول الأكثرين، ولم يخالف فيه إلا النَّظَّام، فإنه زعم أنه جسم، وجعله الأشعري اصطكاكًا في الجواهر بعضها لبعض، وقال أبو بكر بن الطيب: ليس الصوت نفس الاصطكاك، ولكنه معنى زائد عليه، ولو قدرت الكلام صفة قائمة بنفس الحجر والشجر، والصوت عبارة عنه، لم يكن بد من اشتراط الحياة والعلم مع الكلام، والله أعلم أي ذلك كان، أكان كلامًا مقرونًا بحياة وعلم، فيكون الحجر به مؤمنًا، أو كان صوتًا مجردًا غير مقترن بحياة؟ وفي كلا الوجهين، هو علم من أعلام النبوة. وأما حنين الجذع فقد سمى حنينًا، وحقيقة الحنين يقتضي شرط الحياة، وقد يحتمل تسليم الحجارة أن يكون مضافًا في الحقيقة إلى ملائكة يسكنون تلك الأماكن، ويعمرونها، فيكون مجازًا من قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي أهلها والأول أظهر، وإن كانت كل صورة من هذه الصور التي ذكرناها فيها عَلَمٌ على نبوته -عليه السلام- غير أنه لا يسمى معجزة في اصطلاح المتكلمين إلا ما تحدى به الخلق، فيعجزون عن معارضته. "الروض الأنف، ج1 ص266-267".
2 اسم جبريل سرياني، ومعناه: عبد الرحمن، أو عبد العزيز. هكذا جاء عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا أيضًا، والوقف أصله، وأكثر الناس على أن آخر الاسم منه هو اسم الله وهو: إيل، وكان مذهب طائفة من أهل العلم في أن هذه الأسماء إضافتها مقلوبة وكذلك الإضافة في كلام العجم، يقولون في غلام زيد: زيد غلام، فعلى هذا يكون إيل عبارة عن العبد، ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى، ألا ترى كيف قال جبريل وميكائيل، كما تقول: عبد الله وعبد الرحمن، ألا ترى أن لفظ عبد يتكرر بلفظ واحد، والأسماء ألفاظها مختلفة.
واتفق في اسم جبريل عليه السلام أنه موافق من جهة العربية لمعناه، وإن كان أعجميًا؛ فإن الجبر هو إصلاح ما وَهَى وجبريل موكل بالوحي، وفي الوحي إصلاح ما فسد، وجبر ما وَهَى من الدين.

ص -218-      نزول جبريل عليه، صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني، وَهْب بن كَيْسان، مولى آل الزبير. قال: سمعتُ عبدَ الله بن الزبير وهو يقول لعُبَيد بن عُمَيْر بن قَتادة الليثي: حدثنا يا عبيد، كيف كان بدْءُ ما ابتُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النبوة، حين جاءه جبريل عليه السلام؟ قال: فقال عُبيد -وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير، ومن عنده من الناس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجاور في حِراء من كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحنَّث به قريش في الجاهلية. والتحنث: التبرُّر1.
قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب:
وثَوْر ومن أرسى ثَبِيرًا مكانَه                     ورَاقٍ ليَرْقَى في حِراءَ ونازِلِ
التحنث والتحنف: قال ابن هشام: تقول العرب: التحنث والتحنف، يريدون الحَنِيفية فيبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جَدَفَ وجَدَث. يريدون: القبرَ. قال رؤبةُ بن العَجّاج:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التَبرُّرُ. تفعُّل من البر، وتفعل: يقتضى الدخول في الفعل، وهو الأكثر فيها مثل: تَفَقَه وتعبَّد وتنسَّك، وقد جاءت في ألفاظ يسيرة تعطي الخروج عن الشيء واطِّراحه، كالتأثم والتحرج. والتحنث بالتاء المثلثة؛ لأنه من الحِنْث وهو الحمل الثقيل، وكذلك التقذر، إنما هو تباعد عن القذر، وأما التحنف بالفاء، فهو من باب التبرر؛ لأنه من الحنيفية دين إبراهيم، وإن كان الفاء مُبدلة من الثاء، فهو من باب التقذر والتأثم، وهو قول ابن هشام، واحتج بجدف وجدث. "الروض الأنف ج1 ص267".

ص -219-      لو كان أحجاري مع الأجْداف1
يريد: الأجداث: وهذا البيت في أرجوزة له. وبيت أبي طالب في قصيدة له سأذكرها إن شاء الله في موضعها.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: فم، في موضع: ثم، يبدلون الفاء من الثاء.
قال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان قال: قال عُبَيد: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجاور2 ذلك الشهرَ من كل سنة، يُطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جوارَه، من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به -إذا انصرف من جواره- الكعبة، قبل أن يدخلَ بيتَه، فيطوفُ بها سبعًا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته.
حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهرُ: شهرُ رمضان، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حِراء، كما كان يخرج لجوارِه ومعه أهلُه، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللهُ فيها برسالته ورحم العبادَ بها، جاءه جبريلُ -عليه السلام- بأمر الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي بيت رؤبة هذا شاهد ورد على ابن جني حيث زعم في سر صناعة الإعراب أن جدف بالفاء لا يجمع على أجداف، واحتج بهذا لمذهبه في أن الثاء هي الأصل، وقول رؤبة رد عليه، والذي نذهب إليه أن الفاء هي الأصل في هذا الحرف؛ لأنه من الجدف وهو القطع، ومنه مجداف السفينة، وفي حديث عمر في وصف الجن: "شرابهم الجَدَفُ" وهي الرغْوَة؛ لأنها تُجْدَف عن الماء، وقيل: هي نبات يقطع ويؤكل. وقيل: كل إناء كشف عنه غطاؤه: جدف والجدف: القبر من هذا، فله مادة وأصل في الاشتقاق، فأجدر بأن تكون الفاء هي الأصل والثاء داخلة عليها.
2 الجوار بالكسر في معنى المجاورة وهي الاعتكاف إلا من وجه واحد، وهو أن الاعتكاف لا يكون إلا داخل المسجد، والجوار قد يكون خارج المسجد، كذلك قال ابن عبد البر ولذلك لم يُسَمَّ جواره بحراء اعتكافًا؛ لأن حراء ليس من المسجد، ولكنه من جبال الحرم.

ص -220-      قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "فجاءني جبريلُ، وأنا نائم1، بِنَمَطٍ من دِيباجٍ2 فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في الحديث: فأتاني وأنا نائم، وقال في آخره: فهببت من نومي، فكأنما كُتِبَت في قلبي كتابًا، وليس ذكر النوم في حديث عائشة ولا غيرها، بل في حديث عروة عن عائشة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل نزل بسورة اقرأ، كان في اليقظة؛ لأنها قالت في أول الحديث: "أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حَبَّب الله إليه الخلاء -إلى قولها- حتى جاءه الحق وهو بغار حراء، فجاءه جبريل"، فذكرت في هذا الحديث أن الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على النبي -عليه السلام- بالقرآن، وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرًا عليه ورفقًا به؛ لأن أمر النبوة عظيم، وعبؤها ثقيل، والبشر ضعيف، وسيأتي في حديث الإسراء من مقالة العلماء ما يؤكد هذا ويصححه.
وقد ثبت بالطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكُل به إسرافيل، فكان يتراءى له ثلاث سنين، ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وُكل به جبريل فجاءه بالقرآن والوحي، فعلى هذا كان نزول الوحي عليه، صلى الله عليه وسلم، في أحوال مختلفة، فمنها: النوم كما في حديث ابن إسحاق.
ومنها: أن يُنْفثَ في روعه الكلام نَفْثًا، كما قال، عليه السلام:
"إن روح القدس نفث في رُوعِي أن نفسًا لن تموت، حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".
ومنها أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه. وقيل: إن ذلك ليستجمع قلبه عند تلك الصلصلة، فيكون أوعى لما يسمع، وألقن لما يُلَقَّى.
ومنها: أن يتمثل له الملك رجلاً، فقد كان يأتيه في صورة دِحية بن خليفة.
ومنها: ينتشر منها أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلقه الله فيها، له ستمائة جناح، ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت.
ومنها: أن يكلمه الله من وراء حجاب: إمّا في اليقظة كما كلمه في ليلة الإسراء، وإما في النوم، كما قال في حديث معاذ الذي رواه الترمذي، قال: "أتاني ربي في أحسن صورة....".
2 فيه دليل وإشارة إلى أن هذا الكتاب يفتح على أمته ملك الأعاجم، ويسلبونهم الديباج والحرير الذي كان زينهم وزينتهم، وبه أيضًا ينال مُلك الآخرة، ولباس الجنة وهو الحرير والديباج.

ص -221-      كتاب"، فقال: اقرأ1، قال: قلت: "ما أقرأ"، قال: "فغتَّني به2، حتى ظننت أنه الموتُ، ثم أرسلنى"؛ فقال: اقرأ، قال قلت: "ما أقرأ؟" قال: "فغتَّني به، حتى ظننتُ أنه الموتُ، ثم أرسلني"، فقال: اقرأ، قال: قلت: "ماذا أقرأ؟" قال: "فغتَّني به، حتى ظننتُ أنه الموتُ، ثم أرسلنى"، فقال: اقرأ، قال: فقلت: "ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداءً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي". فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- آخرها] قال: "فقرأتها، ثم انتهى، فانصرف عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا". قال: "فخرجتُ حتى إذا كنتُ في وسطٍ من الجبل سمعت صوتًا من السماءِ يقول: يا محمدُ أنت رسولُ الله، وأنا جبريلُ، قال: فرفعتُ رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريلُ في صورة رجل صافّ قدميه3 في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلتُ أصرفُ وجهي عنه في آفاقِ السماء، قال: فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلتُ واقفا ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي حتى بَعثَتْ خدِيجةُ رُسلَهَا في طلبي، فبلغوا أعلى مكةَ، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني".
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخبر خديجة رضي الله عنها بنزول جبريل عليه:
"وانصرفتُ راجعًا إلى أهلي، حتى أتيتُ خديجةَ، فجلست إلى فخذها مُضيفًا إليها"، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنتَ؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكةَ ورجعوا لي، "ثم حدثتها بالذي رأيتُ"، فقالت: أبشرْ يابن عمِّ واثبُتْ فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي رواية: "ما أنا بقارئ"، أي: أني أمِّيُّ، فلا أقرأ الكتب، قالها ثلاثًا فقيل له:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقََ} [العلق: 1]، أي: إنك لا تقرؤه بحولك، ولا بصفة نفسك، ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحًا باسم ربك مستعينًا به، فهو يعلمك كما خَلقك.
أما على رواية:
"ما أقرأ؟" يحتمل أن تكون ما استفهامًا، يريد أي شيء أقرأ؟ ويحتمل أن تكون نفيًا، ورواية البخاري ومسلم تدل على أنه أراد النفي، أي ما أحسن أن أقرأ، كما قد تقدم.
2 ويروى: فسأبني، ويروى: سأتنى، وأحسبه أيضًا يروى: فذعتني وكلها بمعنى واحد، وهو الخنق والغم.
3 وفي حديث جابر أنه رآه على رفرف بين السماء والأرض، ويروى: على عرش بين السماء والأرض، وفي حدث البخاري الذي ذكره في آخر الجامع أنه حين فتر عنه الوحي، كان يأتي شواهق الجبال يهمُّ بأن يلقي نفسه منها، فكان جبريل يتراءى له بين السماء والأرض، يقول له أنت رسول الله، وأنا جبريل.

ص -222-      خديجة رضي الله عنها تخبر ورقة بن نوفل: ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزى بن قُصي، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصّر، وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل. فأخبرته بما أخبرها به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى وسمع. فقال ورقةُ بن نوفل: قدُّوس قدوس، والذي نفس ورقةَ بيده لئن كنتِ صدقتيني يا خديجةُ لقد جاءه الناموسُ1 الأكبر الذي كان يأتي موسى2، وإنه لنبيُّ هذه الأمة. فقولي له: فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فأخبرته بقول ورقةَ بن نَوْفَل. فلما قضى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- جوارَه وانصرف، صنع كما كان يصنع: بدأ بالكعبة، فطاف بها. فلقيه ورقةُ بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة. فقال: يابن أخي أخبرْني بما رأيتَ وسمعتَ: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له ورقةُ: والذي نفسي بيده، إنك لنبيُّ هذه الأمة، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى. ولتُكَذِّبنهْ، ولتُؤذَيَنَّهْ، ولتُخْرَجَنهْ، ولَتُقَاتلنَّهْ3. ولئن أنا أدركتُ4 ذلك اليوم لأنصرنَّ اللهَ نصرًا يعلمه. ثم أدنى رأسَه منه، فقبل يافوخَه، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منزله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الناموس: صاحب سر الملك، قال بعضهم: هو صاحب سر الخير، والجاسوس: هو صاحب سر الشر.
2 ذكر ورقة موسى ولم يذكر عيسى وهو أقرب؛ لأن ورقة كان قد تنصر، والنصارى لا يقولون في عيسى إنه نبي يأتيه جبريل، وإنما يقولون فيه: إن أقنومًا من الأقانيم الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح، واتحد به على اختلاف بينهم في ذلك الحلول، وهو أقنوم الكلمة، والكلمة عندهم: عبارة عن العلم، فلذلك كان المسيح عندهم، يعلم الغيب، ويخبر بما في غد.
3 الهاءات الأربعة لا ينطق بها إلا ساكنة فإنها هاءات سكت وليست بضمائر.
4 في الحديث: "إن يدركني يومك...." وهو القياس؛ لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده.

ص -223-      تثبُّت خديجة رضي الله عنها من الوحي: قال ابن إسحاق: وحدثني إسماعيلُ بن أبي حكيم مولى آلِ الزبير: أنه حُدِّث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: أي ابن عَم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: "نعم"، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريلُ عليه السلام، كما كان يصنعُ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخديجةَ: "يا خديجةُ، هذا جبريلُ قد جاءني"، قالت: قم يابن عم فاجلسْ على فَخذي اليسرى، قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتحولْ، فاجلسْ على فخذي اليمنى، قالت: فتحول رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس، على فخذي اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتحولْ فاجلسْ على حجري، قالت: فتحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قال: فتحسَّرت وألقت خمارَها ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: "لا"، قالت: يابن عم، أثبت وأبشرْ، فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان.
قال ابن إسحاق: وقد حَدثتُ عبدَ الله بن حسن1 هذا الحديث، فقال: قد سمعتُ أمي فاطمة بنت حُسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلتْ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بينها وبين درعها، فذهب عندَ ذلك جبريل، فقالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن هذا لملك، وما هو بشيطان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبد الله هذا هو: عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بنت الحسين أخت سُكَينة: واسمها: آمنة، وسكينة لقب لها، التي كانت ذات دعابة ومزح، وفي سكينة وأمها الرباب يقول الحسين بن علي رضي الله عن جميعهم:
كأن الليل موصول بليل        إذا زارت سكينة والرباب
أي: زارت قومها، وهم: بنو عُلَيْم بن جناب، من كلب، ثم من بني كعب بن عليم، ويعرف بنو كعب بن عليم ببني "زيد" غير مصروف؛ لأنه اسم أمهم، وعبد الله بن حسن هو والد الطالبيين القائمين على بني العباس، وهم: محمد ويحيى وإدريس، مات إدريس بإفريقية: فارًّا من الرشيد، ومات مسمومًا في دلاعة "نوع من المحار" أكلها.

ص -224-      ابتداء تنزيل القرآن:
متى نزل القرآن: قال ابن إسحاق: فابتُدئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتنزيل في شهر رمضان، بقول الله عز وجل:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1- 5] وقال الله تعالى: {حم?، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:13] وقال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] وذلك مُلْتقَى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- والمشركين ببدر.
تاريخ وقعة بدر: قال ابن إسحاق: وحدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حُسَين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة، صبيحةَ سَبْعَ عَشْرةَ من رمضان.
قال ابن إسحاق: ثم تتامَّ الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مؤمن بالله مُصدِّق بما جاءه منه، قد قَبله بقَبوله، وتحمَّل منه ما حُمِّله على رضَا العباد وسخطهم، والنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها، ولا يستطيع بها، إلا أهل القوة والعزم من الرسل، بعون الله تعالى وتوفيقه، لما يَلْقَوْن من الناسِ، وما يُرَدُّ عليهم مما جاءوا به عن الله سبحانه وتعالى.
قال: فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.
إسلام خديجة بنت خويلد:
وقوفها بجانبه صلى الله عليه وسلم: وآمنت به خديجة بنت خُوَيْلد، وصدَّقت بما جاءه من الله، ووازرَتْه على أمره، وكانت أولَ من آمن بالله وبرسوله، وصدَّق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- لا يسمع شيئًا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبِّته وتخفف عليه، وتصدِّقه وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى.

ص -225-      تبشير خديجة ببيت من قصب: قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عُرْوة، عن أبيه عُروةَ بنِ الزبير، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرتُ أن أبشِّر خديجةَ ببيت من قَصَبٍ، لا صخبَ فيه ولا نصب"1.
قال ابن هشام: القصب اللؤلؤ المجوف.
جبريل يُقرئ خديجة السلام من ربها: قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، أن جبريل عليه السلام أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أقرئ خديجةَ السلام من ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خديجةُ، هذا جبريل يقرِئُك السلامَ من ربك"، فقالت خديجة: اللهُ السلامُ، ومنه السلامُ، وعلى جبريلَ السلامُ.
فترة الوحي ونزول سورة الضحى: قال ابن إسحاق: ثم فتر الوحي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتْرةً من ذلك، حتى شقَّ ذلك عليه فأحزنه، فجاءه جبريلُ بسورة الضحى، يُقسم له رُّبه، وهو الذي أكرمه بما أكرمه به، ما ودَّعه وما قَلاَه، فقال تعالى:
{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 1- 4] يقول: ما صرمك فتركك، وما أبغضك منذ أحبك. {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}. أي لمَا عندي من مرجعك إلىَّ، خيرٌ لك مما عَجَّلْت لك من الكرامة في الدنيا. {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} من الفُلح في الدنيا، والثواب في الآخرة. {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 68] يعرفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره، ومَنِّه عليه في يتمه وعَيْلَته وضلالته، واستنقاذه من ذلك كلِّه برحمته2.
تفسير مفردات سورة الضحى: قال ابن هشام: سَجَى: سكن. قال أمية بن أبي الصلت الثقفي:
إذ أتى مَوْهِنًا وقد نام صحبي                   وسجا الليلُ بالظلامِ البهيمِ3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث مرسل، وقد رواه مسلم متصلا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. انظر الحديث بتمامه في: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص277".
2 كانت فترة الوحي سنتين ونصفًا.
3 سجا: دام وسكن.

ص -226-      وهذا البيت في قصيدة له، ويقال للعَيْن إذا سكن طرفُها: ساجية، وسجا طرفُها.
قال جرير:
ولقد رَمَيْنَك حين رُحْن بأعين                يَقْتُلْنَ مِن خَلَلِ الستور سَواجِي
وهذا البيت في قصيدة له. والعائل: الفقير. قال أبو خِرَاش الهُذلي:
إلى بيته يَأوي الضّريكُ إذا شَتا               ومُستَنبح بالِي الدَّرِيسيْنِ عائلُ1
وجمعه: عالة وعيل. وهذا البيت في قصيدة له، سأذكرها في موضعها إن شاء الله: والعائل أيضًا: الذي يعول العيال. والعائل أيضًا: الخائف. وفي كتاب الله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] وقال أبو طالب:
بميزانِ قِسطٍ لا يُخِسُّ شَعيرةً له                    شاهد من نفسِه غيرُ عائل
وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها -إن شاء الّله في موضعها. والعائل أيضًا الشيء المُثْقِل المعيى يقول الرجل: قد عالني هذا الأمر: أي أثقلني وأعياني. قال الفرزدق:
ترى الغرَّ الجَحَاجِحَ من قريشٍ                   إذا ما الأمرُ في الحَدَثانِ عَالاَ2
وهذا البيت في قصيدة له.{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9، 10] أي لا تكن جبارًا ولا متكبرًا، ولا فحَّاشًا فَظًّا على الضعفاء من عباد الله. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى: 11] أي بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فحدثْ، أي اذكرْها وادْعُ إليها، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرُ ما أنعم اللهُ به عليه وعلى العبادِ به من النبوةِ سرًّا إلى من يطمئن إليه من أهله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضريك: الضعيف المضطر، والمستنبح: الذي يضل عن الطريق في ظلمة الليل، فينبح ليسمع نباح كلب فيعرف مكان العمران. والدريس: الثوب الخلق.
2 الغر: المشهورون والجحاجيح: السادة وحذف الياء لإقامة الوزن. والحدثان: حوادث الدهر.

ص -227-      ابتداء ما افترض الله سبحانه وتعالى على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة وأوقاتها
وافتُرضت الصلاةُ عليه فصلى رسول الله -صلى الله عليه وآله، والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته.
افُترضت الصلاة ركعتين ثم زيدت: قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كَيْسَان عن عُرْوة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: افتُرضت الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول ما افتُرضت عليه، ركعتين ركعتين، كل صلاة؛ ثم إن الله تعالى أتمها في الحضَر أربعًا وأقرها في السفر على فَرْضها الأول ركعتين1.
جبريل يعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الوضوء والصلاة: قال ابن إسحاق: وحدثني بعضُ أهل العلم: أن الصلاة حين افتُرضت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين؛ فتوضأ جبريل عليه السلام، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه، ليُرِيَه كيف الطَّهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رأى جبريل توضأ. ثم قام به جبريلُ فصلى به، وصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصلاته، ثم انصرف جبريلُ عليه السلام.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُعلم خديجة الوضوء والصلاة: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خديجة، فتوضأ لها ليرِيَها كيف الطَّهورُ للصلاة كما أراه جبريلُ، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم صلى بها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما صلى به جبريل فصلت بصلاته2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر المزني أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة بعد الغروب، وقال ابن سلام: فرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام، فعلى هذا يحتمل قول عائشة: "فزيد في صلاة الحضر" أي زيد فيها حين أكملت خمسًا، فتكون الزيادة في الركعات وفي عدد الصلوات، ويكون قولها: "فُرضت الصلاة ركعتين" أي: قبل الإسراء.
2 الحديث مقطوع في السيرة، ومثله لا يكون أصلا في الأحكام الشرعية، ولكنه قد روي مُسندًا إلى زيد بن حارثة -برفعه- غير أن هذا الحديث المسند يدور على عبد الله بن لهِيعَة وقد ضُعِّف ولم يخرج عنه البخاري ومسلم؛ لأنه يقال: إن كتبه احترقت، فكان يحدث من حفظه، وكان مالك بن أنس يحسن فيه القول. وانظر تمام القول في هذا الموضوع في: "الروض الأنف: للسهيلي، من تحقيقنا ج1 ص284".

ص -228-      جبريل يعين للرسول -صلى الله عليه وسلم- أوقات الصلاة: قال ابن إسحاق: حدثني عُتبةُ بن مُسْلم مولى بني تميم، عن نافع بن جُبَيْر بن مُطعِم، وكان نافع كثير الرواية، عن ابن عباس قال: لما افتُرضت الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل عليه السلام، فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظلُّه مثلَه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمسُ، ثم صلى به العِشاءَ الآخرةَ حين ذهب الشَّفقُ، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجرُ، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظلُّه مثلَه، ثم صلى به العصر حين كان ظلُّه مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمسُ لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلثُ الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرًا غيرَ مُشْرِقٍ، ثم قال: يا محمد، الصلاةُ فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس1.
ذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول ذكر أسلم:
قال ابن إسحاق: ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله وصلى معه وصدَّق بما جاءه من الله تعالى: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، رضوان الله وسلامه عليه، وهو يومئذ ابن عشر سنين.
نعمة الله على علي بنشأته في كَنَف الرسول: وكان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب رضى الله عنه، أنه كان في حِجْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الإِسلام.
سبب هذه النشأة: قال ابن إسحاق: وحدثني عبدُ الله بن أبي نَجِيح، عن مُجاهد بن جَبْر بن أبي الحَجَّاج، قال:كان من نعمةِ الله على عليِّ بن أبى طالب، ومما صنع الله له، وأراده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الحديث لم يكن ينبغي له أن يذكره في هذا الموضع؛ لأن أهل الصحيحِ متفقون على أن هذه القصة، كانت في الغد من ليلة الإسراء، وذلك بعد ما نُبِئ بخمسة أعوام وقد قيل إن الإسراء كان قبل الهجرة بعام ونصف، وقيل: بعام، فذكره ابن إسحاق في بدء نزول الوحي، وأول أحوال الصلاة. انظر: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص284".

ص -229-      به من الخير، أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيالٍ كثير؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس عمِّه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناسَ ما ترى من هذه الأزمة، فانطلقْ بنا إليه، فلنخففْ عنه من عياله: آخذ من بنيه رجلًا، وتأخذ أنت رجلًا، فنكلهما عنه؛ فقال العباسُ: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخففَ عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه؛ فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عَقيلًا فاصنعا ما شئتما، قال ابن هشام: ويقال: عقيلًا وطالبًا1.
فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليًّا، فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرًا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيًّا، فاتَّبعه علي رضى الله عنه، وآمن به وصدقه؛ ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعليّ يخرجان إلى الصلاة في شعب مكة واكتشاف أبي طالب لهما:
قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه عليُّ بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يومًا وهما يُصليان، فقال لرسولِ الله، صلى الله عليه وسلم: يابن أخي! ما هذا الدينُ الذي أراك تَدين به؟ قال: "أي عمّ! هذا دين الله ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم –أو كما قال صلى الله عليه وسلم– بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت أي عم، أحقُّ من بذلتُ له النصيحة، ودعوتُه إلى الهدَى، وأحقُّ من أجابني إليه وأعانني عليه"، أو كما قال؟ فقال أبو طالب: أي ابن أخي! إني لا أستطيع أن أفارقَ دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يُخْلَصُ2 إليك بشيء تكرهه ما بَقيت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان علي أصغر من جعفر بعشر سنين وجعفر أصغر من عقيل بعشر سنين وعقيل أصغر من طالب بعشر سنين، وكلهم أسلم إلا طالبًا الذي يقول عنه السهيلي أنه اختطفته الجن فلم يعلم إسلامه.
2 لا يخلص: لا يوصل.

ص -230-      وذكروا أنه قال لعلي: أي بني! ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنت بالله وبرسولِ الله، وصدقتُه بما جاء به وصليتُ معه لله واتبعته، فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يَدْعُك إلا إلى خير فألزمه.
إسلام زيد بن حارثة ثانيًا:
قال ابن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس الكلبي، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أولَ ذكر أسلم، وصلى بعد علي بن أبي طالب.
نسب زيد: قال ابن هشام: زيد بن حارثة بن شَرَاحيل بن كعب بن عبد العُزَّى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد وُدّ بن عَوْف بن كِنانة بن بكر بن عوف بن عُذْرَة بن زيْد اللات بن رُفَيْدة بن ثَوْر بن كلب بن وَبْرة. وكان حكيم بن حزام بن خُوَيلد قدم من الشام برقيق، فيهم زيد بن حارثة1 وصيف. فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد وهي يومئذ عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك، فاختارت زيدًا فأخذته، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندها، فاستوهبه منها، فوهبته له، فأعتقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتبناه، وذلك قبل أن يُوحى إليه.
شعر حارثة أبي زيد عندما فقده: وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جَزَعًا شديدًا، وبكى عليه حين فقده، فقال:
بكيتُ على زيدٍ ولمْ أدْرِ ما فعلْ                 أحَي فيُرْجَى أم أتى دونَه الأجلْ
فوالله ما أدري وإنى لسائلٌ أغَالكَ              بعدي السهلُ أم غالَك الجبلْ
ويا ليتَ شِعْري هل لك الدهرُ أوبةٌ              فحسبي من الدنيا رجوعُك لي بَجَلْ2؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن أم زيد: سعدى بنت ثعلبة من بني معن من طيئ وكانت قد خرجت بزيد لتزيره أهلها، فأصابته خيل من بني القَيْن بن جِسْر، فباعوه بسوق حُباشة، وهو من أسواق العرب، وزيد يومئذ ابن ثمانية أعوام، ثم كان من حديثه ما ذكر ابن إسحاق.
2 بجل: حسم.

ص -231-           تُذَكِّرْنيه الشمسُ عندَ طلوعِها    وتَعرضُ ذكراه إذا غربُها أفل
وإن هَبَّت الأرواحُ هَيَّجنَ ذكرَه           فياطولُ ما حزْني عليه وما وَجَل1
سأعمل نَصَّ العيسِ في الأرضِ جاهدًا                ولا أسأمُ التَّطوَافَ أو تسأمُ الإبل2
حَياتيَ أو تأتي عليّ مَنِيتي           فكلُّ امرئ فانٍ وإن غرَّه الأملْ3
ثم قَدِم عليه وهو عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن شئتَ فأقم عندي، وإن شئتَ فانطلقْ مع أبيك"، فقال: بل أقيم عندك. فلم يزل عندَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بعثه الله فصدقه وأسلم، وصلى معه؛ فلما أنزل الله عز وجل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] قال: أنا زيد بن حارثة.
إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وشأنه
نسبه: قال ابن إسحاق: ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة، واسمه عَتيق، واسم أبي قحافة عُثمان بن عَمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرّة بن لُؤَي بن غالب بن فِهر.
اسمه ولقبه: قال ابن هشام: واسم أبي بكر: عبد الله، وعتيق: لقب لحُسنِ وجهه وعتقه.
إسلامه: قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه: أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأرواح: جمع ريح.
2 النص: السير السريع.
3 زاد السهيلي بعد هذا البيت قوله:
سأوصي به قيسًا وعَمرًا كليهما                وأوصي يزيدًا ثم أوصي به جَبَل
ولما بلغ زيدًا قول أبيه قال بحيث يسمعه الركبان:
أحن إلى أهلي وإن كنت نائيا                   بأني قعيد البيت عند المشاعر
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم              ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة                   كرام معدّ كابرًا بعد كابر
انظر تمام الموضوع في: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص286-287".
ص -232-      إيلاف قريش له ودعوته للإِسلام: وكان أبو بكر1 رجلًا مألفًا لقومه، محببًا سهلًا، وكان أنسبَ قريش لقريش، وأعلمَ قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلًا تاجرًا، ذا خُلق ومعروف، وكان رجال قومِه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإِسلام من وَثق به من قومه، ممن يغشاه ويجلس إليه.
ذكر من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر رضي الله عنه:
عثمان: قال: فأسلم بدعائه -فيما بلغني- عثمانُ بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب.
الزبير: والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
عبد الرحمن بن عوف: وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي.
سعد بن أبي وقاص: وسعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص: مالك بن أهَيْب بن عبد مناف بن زُهرة بن مُرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
طلحة: وطلحة بن عُبَيْد الله بن عثمان بن عَمرو بن كَعْب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي، فجاء بهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استجابوا له فأسلموا وصلُّوا. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، فيما بلغني:
"ما دعوتُ أحدًا إلى الإِسلام إلا كانت فيه عنده كَبْوَة2، ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قُحَافة، ما عَكم عنه حين ذكرتُه له، وما تردد فيه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويسمى أيضًا عتيقًا وجهه وهو الحسن. وكان يسمى عبد الكعبة حتى أسلم وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو بنت عم أبي قحافة، وأما أم أبيه فقيلة بنت أذاه بن رياح بن عبد الله، وأمرأته قتلة بنت عبد العزى.
2 الكبوة: التأخر وعدم الإجابة.

ص -233-      قال ابن هشام: قوله: "بدعائه" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن هشام: قوله: عَكَم: تلبث. قال رُؤبة بن العَجَّاج:
وانصاعَ وثابَ بها وما عَكَمْ1
قال ابن إسحاق: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناسَ بالإِسلام فصَلُّوا وصدَّقُوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما جاءه من الله. إسلام أبي عبيدة: ثم أسلم أبو عُبَيْدة بن الجراح، واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضَبَّة بن الحارث بن فِهْر.
إسلام أبي سلمة: وأبو سَلَمة، واسمه عبد الله بن عبد الأسَد بن هلال بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي.
إسلام الأرقم: والأرقم بن أبى الأرقم. واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسَد -وكان أسد يُكْنَى أبا جُنْدُب- بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَي.
إسلام عثمان بن مظعون وأخويه: وعثمان بن مَظْعون بن حَبيب بن وَهْب بن حُذَافة بن جُمَح بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي. وأخواه قُدامة وعبد الله ابنا مظعون بن حبيب.
إسلام عبيدة بن الحارث: وعُبَيْدة بن الحارث بن المطَّلب بن عبد مناف بن قُصيَ بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي. إسلام سعيد بن زيد وامرأته: وسعيد بن زيد بن عَمرو بن نُفَيْل بن عبد العُزَّي بن عبد الله بن قُرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي؛ وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نُفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قُرْط بن رِياح بن رَزَاح بن عَدي بن كعب ابن لُؤَي، أخت عمر بن الخطاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انصاع: ذهب.

ص -234-      إسلام أسماء وعائشة ابنتي أبي بكر وخباب بن الأرت: وأسْماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر، وهي يومئذ صغيرة وخَبَاب بن الأرَت، حليف بني زُهْرة.
قال ابن هشام: خَبَّاب بن الأرَتِّ من بني تميم، ويقال: هو من خزاعة.
إسلام عُمَير وابن مسعود وابن القاري: قال ابن إسحاق: وعُمَيْر بن أبى وقَّاص، أخو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شَمْخ بن مخزوم بن صَاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيْل. ومسعود بن القَارِي، وهو مسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العُزَّى بن حمالة بن غالب بن مُحَلِّم بن عائذة بن سُبَيْع بن الهَوْن بن خزيمة من القَارَةِ.
قال ابن هشام: والقارة: لقب، ولهم يقال:
قد أنصف القارَةَ من راماها
وكانوا قوما رُماة1.
إسلام سليط وأخيه، وعياش وامرأته وخنيس وعامر: قال ابن إسحاق: وسَلِيط بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر؛ وأخوه حاطب بن عَمرو وعَيَّاش بن ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم بنِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسمي بنو الهون بن خُزيمة قارة لقول الشاعر منهم في بعض الحروب:
دعونا شارة لا تُذْعرونا     فنجْفِلَ مثل إجفالِ الظَّليم
هكذا أنشده أبو عبيد في كتاب الأنساب، وأنشده قاسم في الدلائل:
دعونا قارة لا تذعرونا         فَتَثبتكَ القرابة والذّمام.
وكانوا رُمَاةَ الحدق -أي رماة أشداء- فمن راماهم فقد أنصفهم، والقارة: أرض كثيرة الحجارة، وجمعها قور، فكأن معنى المثل عندهم: أن القارة لا تَنْفدُ حجارتها إذ رُمي بها، فمن راماها فقد أنصفها.

ص -235-      يَقَظَة بن مُرة بن كعب بن لؤي؛ وامرأته أسماء بنت سلامة بن مُخرِّبة التميمية. وخُنَيْس بن حُذافة بن عدي بن سعد بن سهم بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي. وعامر بن ربيعة، من عَنْز بن وائل، حليف آل الخطاب بن نُفَيْل بن عبد العُزَّى.
قال ابن هشام: عَنْز بن وائل أخو بكر بن وائل، من ربيعة بن نزار.
إسلام ابنيْ جحش، وجعفر وامرأته، وحاطب وإخوته ونسائهم، والسائب، والمطلب وامرأته: قال ابن إسحاق: وعبد الله بن جحش بن رِئاب بن يَعْمَر بن صَبِرة بن مُرة بن كبير بن غَنْم بن دُودَان بن أسد بن خُزَيمة. وأخوه أبو أحمد بن جحش، حليفا بني أمية بن عبد شمس. وجعفر بن أبي طالب؛ وامرأته أسماء بنت عُمَيْس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة، من خَثْعم. وحاطب بن الحارث بن مَعْمَر بن حَبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح بن عمرو بن هُصيْص بن كعب بن لؤي، وامرأته فاطمة بنت المُجَلَّل بن عبد الله بن أبي قَيْس بن عبد وُدّ بن نَصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهر وأخوه خطَّاب بن الحارث، وامرأته فُكَيْهة بنت يَسار. ومَعْمَر بن الحارث بن حبيب بن وهب بن حُذَافة بن جُمَح بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي. والسائب بن عثمان بن مَظْعون بن حَبِيب بن وَهْب. والمطَّلِب بن أزْهَر بن عبد عَوْف بن عبد بن الحارث بن زُهْرة بن كلاب بن مُرّة بن كَعْب بن لُؤَي، وامرأته: رَمْلَة بنت أبي عوف بن ضُبَيْرة بن سَعيد بن سَهْم بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي.
إسلام نعيم: والنَّحَّام، واسمه نُعَيْم بن عبد الله بن أسَد، أخو بني كعب بن لؤي.
نسب نعيم: قال ابن هشام: هو نُعَيم بن عبد الله بن أسَيْد بن عبد عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي، وإنما سمي النَّحَّام؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لقد سمعت نَحْمَه في الجنة.
قال ابن هشام: نَحْمه: صوته أو حِسّه.
إسلام عامر بن فهيرة: قال ابن إسحاق: وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه.

ص -236-      نسبه: قال ابن هشام: عامر بن فُهَيْرة مُوَلَّد من مُوَلِّدي الأسَيْد، أسْوَد اشتراه أبو بكر رضي الله عنه منهم.
إسلام خالد بن سيد ونسبه وإسلام امرأته: قال ابن إسحاق: وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن مُرَّة بن كعب بن لؤي. وامرأته أمَيْنة بنت خَلَف بن أسعد بن عامر بن بَيَاضة بن سُبَيْع بن جُعْثُمة بن سعد بن مُلَيْح بن عَمرو، من خُزاعة.
قال ابن هشام: ويقال: هُمَيْنة بنت خلف.
إسلام حاطب وأبي حذيفة: قال ابن إسحاق: وحاطب بن عَمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصر بن مالك بن حِسْل عامر بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر، واسمه مُهْشِم فيما قال ابن هشام، بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤَي.
إسلام واقد وشيء من خبره:
وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثَعْلبة بن يَرْبوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، حليف بني عدي بن كعب.
قال ابن هشام: جاءت به باهلة، فباعوه من الخطاب بن نُفَيْل، فتبناه، فلما أنزل الله تعالى:
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}.[الأحزاب: 5] قال: أنا واقد بن عبد الله، فيما قال أبو عَمرو المدني.
إسلام بني البكير: قال ابن إسحاق: وخالد وعامر وعاقل وإياس بَنُو البُكَيْر بن عبد يَاليل بن ناشِب بن غِيَرَة بن سعد بن لَيْث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حلفاء بني عدي بن كعب.
إسلام عمار: بن ياسر حليف بني مخزوم بن يقظة.
قال ابن هشام: عمار بن ياسر عنسي من مذحج.
إسلام صهيب: قال ابن إسحاق: صهيب بن سنان أحد النمر بن قاسط حليف بني تيم بن مرة.
نسب صهيب: قال ابن هشام: النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، ويقال: أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد؛ ويقال: صهيب: مولى عبد الله بن جدعان بن عمرو كعب بن سعد بن تيم.
ويقال: إنه رومي. فقال بعضُ مَن ذكر أنه من النمر بن قاسط، إنما كان أسيرًا في

ص -237-      أرض الروم، فاشتُرِيَ منهم. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صُهَيب سابق الروم"1.
مباداة رسول الله، صلى الله عليه وسلم قومَه، وما كان منهم:
أمر الله له صلى الله عليه وسلم بمباداة قومه: قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرْسالًا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكرُ الإسلام بمكة، وتُحدث به. ثم إن الله عز وجل أمر رسولَه -صلى الله عليه وسلم- أن يَصْدعَ بما جاءه منه، وأن يباديَ الناس بأمره، وأن يدعوَ إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين -فيما بلغنى- من مبعثه؛ ثم قال الله تعالى له:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]2. وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}.
معنى:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]: قال ابن هشام: اصدع: افْرُقْ بين الحق والباطل.
قال أبو ذُؤيْب الهُذَلي، واسمه خُوَيْلد بن خالد، يصف أتن3 وحْش وفحلَها:
وكأنهنَّ رِبابَة وكأنه يَسَر    يفيضُ على القِداحِ ويَصْدُعُ4
أي يُفَرِّق على القداح ويبين أنصباءَها. وهذا البيت في قصيدة له، وقال رُؤبَة بن العَجَّاج:
أنتَ الحليمُ والأميرُ المنتقمْ                   تَصدَعُ بالحقِّ وتَنْفِي مَنْ ظَلَمْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر زيادة في نسب هؤلاء وأبحاثًا كثيرة عنهم في: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج1 ص286- 294".
2 المعنى: اصدع بالذي تؤمر به، ولكنه لما عدي الفعل إلى الهاء حسن حذفها، وكان الحذف ههنا أحسن من ذكرها؛ لأن ما فيها من الإبهام أكثر مما تقتضيه "الذي"، وقولهم: "ما" مع الفعل بتأويل المصدر، راجع إلى المعنى الذي إذا تأملته، وذلك أن "الذي" تصلح في كل موضع تصلح فيه "ما" التي يسمونها المصدرية نحو قول الشاعر:
عسى الأيام أن يرجعـ             ـن يومًا كالذي كانوا
انظر: "الروض الأنف، بتحقيقنا، ج2 ص6".
3 الأتن مفردها أتان وهي أنثى الحمر.
4 الربابة: جلدة تلف فيها قداح الميسر، واليسر الذي يدخل في الميسر. والقداح مفردها قدح وهو السهم.

ص -238-      وهذان البيتان في أرجوزة له.
خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه للصلاة في الشِّعْب: قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلوا، ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبيْنَا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شِعْب من شِعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلًا من المشركين بلَحْي بعير1 فشجَّه، فكان أول دم هُرِيقَ في الإِسلام.
عداوة قومه ومساندة أبي طالب له: قال ابن إسحاق: فلما بادَى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قومَه بالإسلام وصدَع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه، ولم يردُّوا عليه -فيما بلغني- حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافَه وعداوته، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإِسلام، وهم قليل مستَخْفُون، وحَدِب2 على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمُّه أبو طالب، ومنعه وقام دونَه، ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أمر الله، مظهرًا لأمرِه، لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يُعْتِبهم3 من شيء أنكروه عليه، من فراقَهم وعَيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حَدِب عليه، وقام دونَه، فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عُتبة وشَيْبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فهر.
قال ابن هشام: واسم أبي سفيان صَخْر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لحي البعير: العظم الذي على فخذه.
2 أصل الحدب: انحناء في الظهر، ثم استعير فيمن عطف على غيره، ورق له كما قال النابغة:
حدبت على بطون ضبة كلها                     إن ظالِمًا فيهم، وإن مظلومًا
"روض، ج2 ص7".
3 لا يعتبهم: لا يرضيهم.

ص -239-      قال ابن إسحاق: وأبو البَخْتري، اسمه العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
قال ابن هشام: أبو البَخْتري: العاص بن هاشم1.
قال ابن إسحاق: والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وأبو جهل -واسمه عَمْرو، وكان يكنى أبا الحكم- بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب بن لؤي. والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرة بن كعب بن لؤي. ونُبَيْه ومُنَبه ابنا الحجاج بن عامر بن حُذيفة بن سعد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصيْص بن كعب بن لؤي. والعاص بن وائل.
قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي.
وفد قريش يعاتب أبا طالب: قال ابن إسحاق: أو من مشى منهم. فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب دينَنا، وسفَّه أحلامَنا، وضلَّل آباءَنا؛ فإما أن تكفَّه عنا، وإما أن تُخَلِّيَ بينَنَا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنَكْفِيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقًا وردهم ردًّا جميلًا، فانصرفوا عنه.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستمر في دعوته: ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما هو عليه يُظهر دينَ الله، ويدعو إليه، ثم شرى2 الأمرُ بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا3، وأكثرت قريش ذِكرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينَها، فتذامروا فيه، وحضَّ بعضُهم بعضًا عليه4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي قاله ابن إسحاق هو قول ابن الكلبي، والذي قاله ابن هشام هو قول الزبير بن أبي بكر وقول مصعب، وهكذا وجدت في حاشية كتاب الشيخ أبي بحر: سفيان بن العاص. عن: "الروض الأنف، ج2 ص10".
2 شرى: اشتد.
3 تضاغنوا: تعادوا.
4 تذامروا: حض بعضهم بعضًا والعطف للتفسير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Share to:

معجبين برنامج تحفيظ القران الكريم على الفايسبوك