الثلاثاء، 3 مارس 2015

جزء أول من ص 70 /149

ص -70-         ولدا مضر: قال ابن إسحاق: فولد مضر بن نزار رجلين: إلياس بن مُضَر، وعَيْلان1 بن مضر. قال ابن هشام: وأمهما جرهمية2.
أولاد إلياس: قال ابن إسحاق: فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر: مُدْرِكة بن إلياس، وطابخة بن إلياس، وقَمَعَة بن إلياس، وأمهم: خِنْدف3، امرأة من اليمن.
قال ابن هشام: خِنْدف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة.
قال ابن إسحاق: وكان اسم مُدركة عامرًا، واسم طابخة عَمْرًا، وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيدًا، فقعدا عليه يطبخانه؟ وعَدَتْ عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أتدرك الإبل، أم تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ، فلحق عامر بالإبل فجاء بها، فلما راحا على أبيهما حدثاه بشأنهما، فقال لعامر: أنت مُدْرِكة، وقال لعمرو: وأنت طابخة4.
وأما قَمَعَة فيزعم نُساب مضر: أن خزاعة من ولد عَمرو بن لُحَيّ بن قَمَعة بن إلياس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما عَيلان أخو الياس، فقد قيل: إنه قيس نفسه لا أبوه، وسمي بفرس له اسمه: عيلان، وكان يجاوره قيس كُبة من بجيلة عرف بكبة اسم فرسه، فرق بينهما بهذه الإضافة، وقيل: عيلان اسم كلب له.
2 وذكر ابن إسحاق أم إلياس، وقال فيها: امرأة من جرهم، ولم يسمها، وليست من جرهم، وإنما هى الرباب بنت حَيْدة بن معد بن عدنان -فيما ذكر الطبرى- وقد قدمنا ذلك فى نسب النبي -صلى الله عليه وسلم.
3 وخِنْدف التى عُرف بها بنو إلياس. وهي التي ضُربت الأمثال بحزنها على إلياس، وذلك أنها تركت بنيها، وساحت في الأرض تبكيه: حتى ماتت كمدًا، وكان مات يوم خميس، وكانت إذا جاء الخميس بكت من أول النهار إلى آخره.
قال الزبير: وإنما نسب بنو إلياس لأمهم؛ لأنها. حين تركتهم شغلا لحزنها على أبيهم، رحمهم الناس، فقالوا: هؤلاء أولاد خندف الذين تركتهم، وهم صغار أيتام، حتى عُرفوا ببني خندف.
4 وفي الخبر زيادة وهو أن إلياس قال لأمهم، واسمها ليلى، وأمها: ضَرِية بنت ربيعة بن نزار التي ينسب إليها: حمى ضرية؛ وقد أقبلت تُخَندف في مشيتها: ما لك تخندفين؟ فسميت: خندف، والخندفة: سرعة في مشي، وقال لمدركة:
وأنت قد أدركت ما طلبتا
وقال لطابخة:
وأنت قد أنضجت ما طبختا
وقال لقمعة وهو عمير:
وأنت قد قعدت فانقمعتا

ص -71-         حديث عمرو بن لحيّ وذكر أصنام العرب:
عمرو بن لحيّ يجر قصبه في النار: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم عن أبيه قال: حُدثتُ أن رسولَ اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال:
"رأيت عَمْرو بن لُحَي يجرُّ قصْبه1 في النار فسألته عمن بيني وبينه من الناس، فقال: هلكوا".
قال ابن إسحاق. وحدثني محمد بن إبراهيم الحارث التَيمِي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة. قال ابن هشام: واسم أبي هريرة: عبد اللّه بن عامر، ويقال اسمه: عبد الرحمن بن صخر يقول: سمعتُ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- يقول لأكثم بن الجَوْن الخُزاعي:
"يا أكثمُ، رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعة بن خنْدِف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلًا أشبه برجل منك به، ولا بك منه". فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسولَ اللّه؟ قال: "لا، إنك مؤمنٌ وهو كافر، إنه كان أول من غيَّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبَحَر البحِيرة2 وسيبَ السائبة، ووصل الوَصِيلة، وحمى الحَامِي".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قصبه: أمعاؤه.
2 وقد رُوي أيضًا أن أول من بحَّر البحيرة: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما. قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم:
"فرأيته في النار يخبطانه بأخفافهما، ويعضانه بأفواههما". وقال عليه السلام: "قد عرفت أول من سيَّب السائبة ونصب النصب: عمرو بن لحي رأيته يؤذي الناسَ بريح قصبه". رواه ابن إسحاق عن عبد اللّه بن أبى بكر مرسلًا.

ص -72-         أصل عبادة الأصنام في أرض العرب:
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عَمرو بن لحيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآبَ من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عِمْلاق. ويقال: عِمْليق بن لَاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستَمْطرها فتُمطرنا، ونستَنْصرها فتنصُرنا، فقال لهم: ألا تعطونني منها صنمًا، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: هُبَل، فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه1.
سبب عبادة الأصنام:
قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم، حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفُسَح في البلاد، إلا حمل معه حجرًا من حجارة الحرم تعظيمًا للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه، فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم، حتى خلف الخُلوف، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات، وفيهم على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت، ونفت جرهم عن مكة، قد جعلته العرب ربًّا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس، ويكسو فى الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلّة، حتى ليقال: إنه اللاتُ الذي: يلتُّ السويق -وهو طعام يصنع من الحنطة والشعير المدقوق– للحجيج على صخرة معروفة تسمى: صخرة اللات، ويقال إن الذى يلت كان من ثقيف، فلما مات قال لهم عمرو، إنه لم يمت، ولكن دخل فى الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بيتًا يُسمى: اللات، ويقال: دام أمره وأمر ولده على هذا بمكة ثلاثمائة سنة؛ فلما هلك سميت تلك الصخرة: اللات مخففة التاء، واتُّخذ صنمًا يُعبد، وقد ذكر ابن إسحاق، أنه أول من أدخل الأصنام الحرم، وحمل الناس على عبادتها.

ص -73-         ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة، وهَدْي البُدْن، والإهلال بالحَج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانةُ وقريش إذا أهلُّوا قالوا: "لَبَّيك اللهمَّ لبيك، لَبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكُه وما مَلَكَ". فيوحدونه بالتلبية، ثم يُدخلون معه أصنامَهم، ويجعلون مِلْكَها بيده. يقول اللّه تبارك وتعالى لمحمد –صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] أي ما يوحدونَني لمعرفة حقِّي إلا جعلوا معي شريكًا في خلقي1.
أصنام قوم نوح: وقد كانت لقوم نوح أصنامٌ قد عَكفوا عليها، قَصَّ اللّه -تبارك وتعالى- خبَرها على رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-فقال:
{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}2 [نوح: 23، 24]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك، لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لحي، فبينما هو يلبي تمثَّل له الشيطان فى صورة شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر ذلك عمرو، وقال: وما هذا؟ فقال الشيخ قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس بهذا، فقال عمرو، فدانت بها العرب.
2 وتلك هى الجاهلية الأولى التي ذكر الله في القرآن في قوله:
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] وكان بدء ذلك في عهد مهلايل بن قَينان فيما ذكروا. وقد ذكر البخاري عن ابن عباس قال: "صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح في العرب بعدُ، وهي أسماء قوم صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا؛ فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتُنُوسخ العلم عبدت".
وذكر الطبري هذا المعنى وزاد: أن سواعًا كان: ابن شيث، وأن يغوث كان ابن:سواع، وكذلك يعوق ونَسْر، كلما هلك الأول صُورت صورته، وعظمت لموضعه من الدين، ولما عهدوا في دعائه من الإجابة، فلم يزالوا هكذا حتى خلفت الخلوف، وقالوا: ما عظم هؤلاء آباؤنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة. وهذه أسماء سريانية وقعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم التى زعموا أنها صور الدراري السبعة، وربما كلمتهم الجن من جوفها ففتنتهم، ثم أدخلها إلى العرب عمرو بن لحي وعلمهم تلك الأسماء، وألقاها الشيطان على ألسنتهم موافقة لما كانوا فى عهد نوح.

ص -74-         القبائل العربية وأصنامها: فكان الذين اتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم، وسمّوا بأسمائهم حين فارقوا دين إسماعيل: هُذَيْلَ بنَ مُدْركة بن إلياس بن مُضَر، اتخذوا سُواعًا فكان لهم بِرُهاط1. وكلب بن وَبْرة من قضاعة اتخذوا وَدًّا بدومة الجندل2.
قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك الأنصاري:
وننسى اللَّاتَ والعُزَّى وودًّا    ونسلُبها القَلائد والشُّنوفا3
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها -إن شاء اللّه.
قال ابن هشام: وكَلب بنُ وَبزةَ بن تغلب بن حُلْوَان بن عِمران بن الحاف بن قضاعة.
عباد يغوث: قال ابن إسحاق: وأنعُم من طيِّئ، وأهل جُرَش من مَذْحج اتخذوا يغوث بجُرش.
قال ابن هشام. ويقال: أنْعَم. وطيّئ بن أدَد بن مالك، ومالك: مَذْحج بن أدَد، ويقال طيِّئ بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ.
عباد يعوق: قال ابن إسحاق: وخَيْوان بطن همدان، اتخذوا يعوق بأرض همدان من أرض اليمن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رهاط: من أرض ينبع.
2 ودومة هذه -بضم الدال- ذكروا أنها سميت بدومي بن إسماعيل كان نزلها، ودُومة أخرى بضم الدال عند الكوفة، ودَومة -بفتح الدال- أخرى مذكورة في أخبار الردة،كذا وجدته للبكري مقيدا في أسماء هذه المواضع. راجع: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص103".
3 الشنوفا. مفردة شنف: القرط.

ص -75-         قال ابن هشام: وقال مالك بن نَمَط الهَمْداني.
يَريش اللّه في الدنيا ويَبْرى     ولا يبرى يَعوقُ ولا يَرِيشُ2
وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن هشام: اسم همدان: أوْسَلة بن مالك بن زيد بن ربيعة بن أوْسَلة بن الخِيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. ويقال: أوسلة بن زيد بن أوسلة بن الخِيار. ويقال: همدان بن أوسلة بن ربيعة بن مالك بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
عباد نسر: قال ابن إسحاق: وذو الكُلَاعِ من حِمْير، اتخذوا نَسْرًا بأرضِ حِمْير.
عباد عميانس: وكانَ لخَوْلان صنم يقال له: عُمْيَانِس بأرض خَوْلان يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قَسَمًا بينه وبين اللّه بزعمهم، فما دخل في حق عُمْيانس من حق اللّه تعالى الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق اللّه تعالى من حق عُمْيانس ردوه عليه. وهم في من خَوْلان، يقال لهم: الأديم، وفيهم أنزل اللّه -تبارك وتعالى- فيما يذكرون:
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]
قال ابن هشام: خَوْلان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ويقال: خَوْلان بن عَمرو بن مُرة بن أدَد بن زَيد بن مِهْسَع بن عَمرو بن عَرِيب بن زَيد بن كهلان بن سبأ، ويقال: خَوْلان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مَذْحِج.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو: أبو ثور، يلقب: ذا الْمِشْعَار، وهو من بني خارف، وقد قيل إنه من يام بن أصي، وكلاهما من همدان.
2 هو من رشتُ السهم وبريته، استعير في النفع والضر قال سويد:
فرشْنِي بخير طالما قد بَرَيتني               وخير الموالي من يريش ولا يبري

ص -76-         عباد سعد: قال ابن إسحاق: وكان لبني مِلْكَان1 -بن كنانة بن خُزَيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضر- صنم، يقال له: سعد: صخرة بفَلاة من أرضهم طويلة، فأقبل رجل من بني مِلكَان بإبل له مُؤَبلة؛ ليقفها عليه، التماسَ بركته –فيما يزعُم– فلما رأته الإبل وكانت مَرْعيَّة لا تُركب، وكان يُهْراق عليه الدماء نفرت منه، فذهبت في كل وجه، وغضب ربُّها المِلْكاني، فأخذ حجرًا فرماه به، ثم قال: لا بارك اللّه فيك، نفَّرت عليَّ إبلي، ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له قال:
أتينا إلى سعدٍ، ليجمعَ شملَنا             فشتتنا سعد، فلا نحنُ من سعدِ2
وهل سعدُ إلا صخرة بتَنُوفةٍ                  من الأرض لا تدعو لِغَي ولا رُشْد3
دوس وصنمهم: وكان في دوس صنم لعمرو بن حُمَمة الدَّوْسي.
قال ابن هشام: سأذكر حديثه في موضعه -إن شاء اللّه.
ودَوْسُ بنُ عُدْثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأسْد بن الغوث. ويقال: دوس بن عبد الله بن زهران بنِ الأسْد بن الغوْث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ملكان بن كنانة بكسر الميم. قال أبو جعفر بن حبيب النسابة: كل شيء في العرب فهو مِلْكان بكسر الميم ساكن اللام، غير ملكان في قضاعة، وملكان في السَّكُون، فإنهما بفتح الميم واللام فملكان قضاعة: هو: ابن جَرم بن زبان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وملكان السّكون هو: ابن عياد بن عياض بن عقبة بن السكون بن أشرس من كندة.
2 ويمتنع في العربية دخول "لا" على الابتداء المعرفة والخبر إلا مع تكرار: "لا" مثل: أن تقول لا زيد في الدار ولا عمرو، وذكر سيبويه قولهم: لا نَوْلُك أن تفعل، وقال: وإنما جاز هذا؛ لأن معناه معنى الفعل. أي: لا ينبغي لك أن تفعل، وكذلك ينبغي أن يقال في بيت الملكانى: أي: لم يقلها على جهة الخبر، ولكن على قصد التبري منه، فكان معنى الكلام: فلا نتولى سعدًا، ولا ندين به، فهذا المعنى حَسَّن دخول "لا" على الابتداء.
3 بتنوفة: بأرض جرداء.

ص -77-         عباد هبل: قال ابن إسحاق: وكانت قريش قد اتخذت صنمًا على بئر في جوف الكعبة يقال له: هُبَل1.
قال ابن هشام: سأذكر حديثَه -إن شاء اللّه في موضعه.
إساف ونائلة: قال ابن إسحاق: واتخذوا إسافًا ونائلة، على موضع زمزم ينحرون عندهما، وكان إساف ونائلة رجلًا وامرأة من جرهم، هو: إساف بن بَغْي ونائلة بنت دِيك، فوقع إساف على نائلةَ في الكعبة: فمسخهما اللّه حجَرَيْن2.
حديث عائشة عن إساف ونائلة: قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم. عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة أنها قالت: سمعت عائشة -رضي اللّه عنها- تقول: ما زلنا نسمع أن إسافًا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جُرْهم، أحدثا3 في الكعبة: فمسخهما اللّه تعالى حجَريْن -واللّه أعلم.
قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب:
وحيث يُنيخُ الأشْعرون رِكابَهم               بمُفْضَ السيولِ من إسافٍ ونائِل4
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له؛ سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما هُبل فإن عمرو بن لحي جاء به من هيت، وهي من أرض الجزيرة حتى وضعه في الكعبة.
2 أخرج رزين فى فضائل مكة عن بعض السلف: ما أمهلهما الله إلى أن يفجرا فيها، ولكنه قَبَّلها، فمسخا حجرين، فأخرجا إلى الصفا والمروة فنصبا عليهما، ليكونا عبرة، وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي نقلهما إلى الكعبة، ونصبهما على زمزم، فطاف الناس بالكعبة وبهما، حتى عُبدا من دون الله.
3 أرادت الحديث الذي هو الفجور كما قال -عليه السلام:
"من أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله"، وقال عمر -حين كانت الزلزلة بالمدينة: "أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم".
4 هو ترخيم في غير النداء لضرورة الوزن في البيت.

ص -78-         فعل العرب مع أصنامهم: قال ابن إسحاق: واتخذ أهلُ كلِّ دار في دارهم صنمًا يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرًا تمسَّح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسَّح به، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث الله رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد، قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص: 5].
الطواغيت: وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طَواغيت، وهي بيوتٌ تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سَدَنَة وحُجَّاب، وتُهْدي لها كما تُهْدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تَعْرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عَرَفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده.
العُزَّى وسدنتها وحجابها: فكانت لقريش وبني كنانة: العُزَّى بنَخْلة، وكان سَدنَتَها وحُجابَها بنو شيبان من سُلَيْم، حلفاء بني هاشم. قال ابن هشام: حلفاء بنى أبيِ طالب خاصة، وسُلَيْم: سُلَيْم بن منصور بن عكرمة بن خَصَفة بن قيْس بن عَيْلان.
قال ابن إسحاق: فقال شاعر من العرب:
لقد أنْكِحَتْ أسماءُ رأسَ بُقَيْرةٍ              من الأدْم أهداها امرؤ من بني غَنْم
رأى قَدَعًا في عينها إذْ يسوقُها             إلى غَبْغَبِ العُزى فوسَّع في القَسْم1

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والقدع: ضعف البصر من إدمان النظر.
وقوله في الغبغب: وهو المنحر ومراق الدم، كأنه سمي بحكاية صوت الدم عند انبعاثه، ويجوز أن يكون مقلوبًا من قولهم: بئر بُغبغ وبغيبغ إذا كانت كثيرة الماء. قال الراجز:
بُغيبغ قصيرة الرشاء
ومنه قيل لعين أبي نَيْزَر: البغيبغة. ومعنى هذا البيت: الذم وتشبيه هذا المهجو برأس بقرة قد قربت أن يذهب بصرها، فلا تصلح إلا للذبح والقسم.

ص -79-         وكذلك كانوا يصنعون إذا نحروا هديًا قسَّموه فيمن حضرهم. والغَبْغَب: المنحَر، ومُهراق الدماء.
قال ابن هشام: وهذان البيتان لأبي خراش الهذليّ واسمه: خُوَيلد ابن مُرة في أبيات له.
من هم السدنة: والسدنةُ: الذين يقومون بأمر الكعبة. قال رُؤبة بن العجاج:
فلا وربِّ الآمناتِ القطَّنِ     يَعْمرن أمنًا بالحرامِ المأمن
بمحبسِ الهدْي وبيتِ المَسْدَنِ
وهذان البيتان في أرجوزة له، وسأذكر حديثها إن شاء اللّه تعالى في موضعه.
اللات وسدنتها: قال ابن إسحاق: وكانت اللاتُ لثقيف بالطائف، وكان سَدنتَها وحجابها بنو مُعَتِّب من ثقيف.
قال ابن هشام: وسأذكر حديثها إن شاء اللّه تعالى في موضعه.
مناة وسدنتها: قال ابن إسحاق: وكانت مُناة للأوْس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل يثرب، على ساحل البحر من ناحية المُشَلَّلِ بقُدَيْد.
قال ابن هشام: وقال الكُمَيْت بن زيد أحد بني أسد بن مدركة:
وقد آلتْ قبائلُ لا تُولِّي          مناةَ ظهورَها مُتَحرِّفينا
وهذا البيت في قصيدة له.
هدم مناة: قال ابن هشام: فبعث رسولُ اللّه -صلى الله عليه وسلم-إليها أبا سفيان بن حرب فهدمها، ويقال: علي بن أبى طالب.
ذو الخلَصة وعبَّاده وهدمه: قال ابن إسحاق: وكان ذو الْخَلَصة لدَوْس وخَثْعم وبجِيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بتَبَالة.
قال ابن هشام: ويقال: ذو الخُلُصة. قال رجل من العرب:
لو كنتَ يا ذا الخُلص الموتورا                    مثلي وكان شيخُك المقبورا
لم تنهَ عن قتلِ العُداة زورَا

ص -80-         قال: وكان أبوه قُتل، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلَصة، فاستقسم عنده بالأزلام. فخرج السهم بنهيه عن ذلك، فقال هذه الأبيات. ومن الناس من ينحلها امرأ القيس بن حُجْر الكِنْدي، فبعث إليه رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- جريَر بنَ عبد الله البجْلي، فهدمه1.
فلس وعباده وهدمه: قال ابن إسحاق: وكانت فِلْس2 لطيّئ ومن يليها بجبلىْ طيئ، يعني سَلْمى وأجأ.
قال ابن هشام: فحدثني بعضُ أهل العلم أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- بعث إليها عليُّ بن أبى طالب فهدمها، فوجد فيها سيفيْن، يقال لأحدهما: الرَّسُوب، وللآخر: المِخْذَم. فأتى بهما رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-فوهبهما له، فهما سيفا علي رضى اللّه عنه.
رئام: قال ابن إسحاق: وكان لحميَر وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: رِئام.
قال ابن هشام: قد ذكرت حديثه فيما مضى.
رُضاء وعباده وهدمه: قال ابن إسحاق: وكانت رُضَاء بيتًا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. ولها يقول المُسْتَوْغِر3 بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بشهرين أو نحوهما، قال جرير: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مائة وخمسين راكبًا من أحمس إلى ذي الخلَصة، فقلت: يا رسول الله إني لا أثبت على الخيل، فدعا لي، وقال:
"اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا..".
2 هكذا وجدته مضبوطا فى القاموس. وضبطه ابن الكلبي بفتح فسكون، وضبطه ياقوت بضم الفاء واللام. وتروى في بعض المراجع: قلسا، ويذكر عن ابن الكلبي أو غيره أن أجأ اسم رجل بعينه، وهو: أجأ بن عبد الحي، وكان فجر بسلمى بنت حام، أو اتهم بذلك -فيما ذكر- وكانت السفير بينهما وبين أجأ فصلبت في الجبل الثالث، فسمي بها.
3 واسمه.كعب قال ابن دريد. سمي مستوغرًا بقوله: =

ص -81-         ولقد شَدَدْتُ على رُضَاءٍ شَدَّةً         فتركتُها قفرًا بقاعٍ أسْحَما
قال ابن هشام: قوله:
فتركتُها قفرًا بقاعٍ أسْحَمَا       عن رجل من بني سعد.
عُمْر المستوغر: ويقال: إن المستوغر عُمِّر ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة، وكان أطولَ مُضَر كلها عمرًا، وهو الذي يقول:
ولقد سئمتُ من الحياةِ وطولها                وعَمَرْتُ من عددِ السنين مئينا
مائة حَدَتْها بعدها مئتان لي                    وازددتُ من عدد الشهورِ سنينا
هل ما بقي إلا كما قد فاتنا                     يوم يمرُّ وليلة تحدونا
وبعض الناس يروي هذه الأبيات لزُهير بن جَناب الكلبيِّ1.
ذو الكعبات وعُبَّاده: قال ابن إسحاق: وكان ذو الكَعَبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بِسِنْدَاد، وله يقول أعشى بني قيس بن ثَعلبة:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
ينش الماء في الربلات منه                 نشيش الرضف في اللبن الوغير
والوغير: فعيل من وغرة الحر وهي شدته. وذكر القتبي أن المستوغر حضر سوق عكاظ، ومعه ابن ابنه، وقد هرم، والجد يقوده، فقال له رجل: ارفق بهذا الشيخ، فقد طال ما رفق بك فقال: ومن تراه؟ فقال: هو أبوك أو جدك، فقال: ما هو إلا ابن ابني، فقال ما رأيت كاليوم ولا المستوغر بن ربيعة! فقال: أنا المستوغر.
1 وهو زُهَير بن جَناب بن هُبل بن عبد الله بن كِنانة بن بكر بن عَوف بن غدرة أو عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة. وزهير هذا من المعمرين وهو الذى يقول:
ابُني إن أهلك فإني                  قد بنيت لكم بنيَّه
وتركتكم أولاد سادا                   ت زنادهم وريه
من كل ما نال الفتى                قد نلته إلا التحيه

ص -82-                   بينَ الخَوَرْنق والسَّديرِ وبارقٍ       والبيتِ ذي الكَعَبات من سَنْداد1
قال ابن هشام: وهذا البيت للأسود بن يَعْفر النهْشَليّ: نهشل بن دارم بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم، في قصيدة له، وأنشدنيه أبو مُحْرز خلف الأحمر:
أهل الخَوَرْنَقِ والسَّديرِ وبارقٍ                والبيتِ ذي الشُّرفات من سِنْدات
البَحيرة والسائبة والوصيلة والحَامِي:
رأي ابن إسحاق فيها: قال ابن إسحاق: فأما البَحيرة فهي: بنت السائبة، والسائبة: الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، سُيبت فلم يُركب ظهرُها، ولم يُجزّ وبرُها، ولم يُشرب لبنُها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقَّت أذنُها، ثم خُلِّى سبيلُها مع أمها، فلم يُركب ظهرُها، ولم يُجز وبرُها، ولم يُشرب لبنُها إلا ضيف، كما فُعل بأمِّها، فهي البَحيرةُ بنت السائبة، والوَصِيلة: الشاة إذا أتأمَتْ2 عشرَ إناثٍ متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكرٌ، جُعلت وصيلة. قالوا: قد وَصَلتْ، فكان ما وَلَدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء، فيشتركوا في أكله، ذكورُهم وإناثُهم.
قال ابن هشام: ويروى: فكان ما ولدت بعد ذلك لذكور بنيهم دون بناتهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخورنق: قصر بناه النعمان الأكبر ملك الحيرة لسابور، ليكون ولده فيه عنده، وبناه بنيانًا عجيبًا لم تر العرب مثله، واسم الذي بناه له: سنمار، وهو الذى رُدي من أعلاه، حتى قالت العرب: جزاني جزاء سنمار، وذلك أنه لما تم الخورنق، وعجب الناس من حسنه، قال سنمار: أما والله لو شئت حين بنيته جعلته يدور مع الشمس حيث دارت، فقال له الملك: إنك لتحسن أن تبني أجمل من هذا؟ وغارت نفسه أن يبتني لغيره مثله، وأمر به فطرح من أعلاه، وكان بناه في عشرين سنة.
ومعنى السَّدير بالفارسية: بيت الملك. يقولون له: "سهدلي" أي: له ثلاث شعب، وقال البكري: سمي السدير؛ لأن الأعراب كانوا يرفعون أبصارهم إليه، فتسدر من علوه، يقال: سدر بصره إذا تحير. والكعبات: المربعة، وكل بناء مربع فهو كعبة.
2 أتأمت: جاءت باثنين في بطن واحد.
ص -83-         قال ابن إسحاق: والحامي: الفحل إذا نُتج له عشرُ إناث متتابعات ليس بينهنَّ ذكر، حُمِي ظهره فلم يُركب، ولم يُجز وبره، وخُلِّي في إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك.
ابن هشام يخالف ابن إسحاق: قال ابن هشام: وهذا عند العرب على غير هذا إلا الحامي، فإنه عندهم على ما قال ابن إسحاق. فالبَحيرة عندهم: الناقة تُشق أذنُها فلا يُركب ظهرُها، ولا يُجز وبرُها، ولا يَشربُ لبَنَها إلا ضيف، أو يُتصدق به، وتهمل لآلهتهم. والسائبة: التي ينذر الرجل أن يُسيبَها إن برئ من مرضه أو إن أصاب أمرًا يطلبه. فإذا كان أساب ناقة من إبله، أو جملًا لبعض آلهتهم، فسابت فرعتْ لا يُنتفع بها. والوصيلةُ: التي تلد أمُّها اثنين في كل بطن، فيجعل صاحبهما لآلهته الإناث منها، ولنفسه الذكورَ: فتلدُها أُمُّها ومعها ذكرٌ في بطن، فيقولون: وصلت أخاها، فُيسيَّب أخوها معها، فلا يُنتفع به.
قال ابن هشام: حدثني به يونس بن حبيب النحوي وغيره. وروي بعض ما لم يرو بعض.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله تبارك وتعالى رسولَه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أنزل عليه:
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] وأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139].
وأنزل الله تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]
وأنزل عليه:
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144].

ص -84-         البحيرة والوصيلة والحامي لغة: قال ابن هشام: قال الشاعر:
حُولُ الوصائِل في شُرَيفٍ حِقَّة                    والحامياتُ ظهورَها والسيبُ
وقال تميم بن أبيّ بن مُقْبِل أحد بني عامر بن صعصعة:
فيه من الأخرج المِرْباع قَرقَرة               هَدْرَ الدِّيافيِّ وسط الهَجْمة البُحُر1
وهذا البيت في قصيدة له. وجمع بحيرة: بحائر وبُحر. وجمع وصيلة: وصائل ووُصل. وجمع سائبة الأكثر: سوائب وسُيَّب، وجمع حام الأكثر: حوَّم.
عود إلى النسب
نسب خزاعة: قال ابن إسحاق: وخُزاعة تقول: نحن بنو عَمرو بن عامر من اليمن.
قال ابن هشام: وتقول خزاعة: نحن بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسْد بن الغَوْث، وخِنْدف أمنا، فيما حدثني أبو عبَيْدة وغيره من أهل العلم. ويقال: خزاعة: بنو حارثة بن عمرو بن عامر. وإنّما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يصف في هذا البيت حمار وحش يقول: فيه من الأخرج، وهو: الظليم الذي فيه بياض وسواد، أي: فيه منه قَرقَرَة أي صوت وهدر مثل هدر الدِّيافي أي: الفحل المنسوب إلى -دياف بلد بالشام-، والهجمة من الإبل: دون المائة، وجعلها بُحرًا؛ لأنها تأمن من الغارات، ويصفها بالمنعة والحماية، كما تأمن البحيرة من أن تذبح أو تنحر. ورأيت في شعر ابن مقبل: من الأخرج المرياع بالياء أخت الواو، وفسره في الشرح من راع يريع إذا أسرع الإجابة. كما قال طرفة:
تريع إلى صوت المهيب وتتقى
وقبل البيت في وصف روض:
بعازب النبت يرتاح الفؤاد له    رأد النهاد لأصوات من النُّغَر
وبعد البيت الواقع في السيرة:
والأزرق الأخضر السربال منتصب                 قيد العصا فوق ذيَّال من الزهْر

ص -85-         سُميت خزاعة؛ لأنهم تخزَّعوا1 من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمرِّ الظهْران، فأقاموا بها. قال عَوْف بن أيوب الأنصاري أحد بني عمرو بن سَواد بن غنْم بن كعب بن سلمة من الخزرج في الإسلام:
فلما هبطنا بطنَ مَرٍّ2 تخزَّعت     خُزاعةُ منا في خيول كراكِرِ3
حمت كل وادِ من تهامة واحتمتْ                   بِصُمِّ القَنَا والمرْهفاتِ البواتِر
وهذان البيتان في قصيدة له.
وقال أبو المطهّر إسماعيلُ بنُ رافع الأنصاري، أحد بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عَمرو بن مالك بن الأوس:
فلما هبطنا بطنَ مكةَ أحمدَتْ                     خُزاعةُ دار الآكل المتحاملِ
فحلَّت أكاريسا، وشنَّت قنابلا                     على كلِّ حي بين نجدٍ وساحلِ
نَفَوْا جُرهما عن بطن مكةَ، واحتبَوْا              بِعزّ خُزاعيٍّ شديدِ الكواهلِ
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له -وأنا إن شاء الله أذكر نفيها جرهما في موضعه.
أولاد مدركة وخزيمة: قال ابن إسحاق: فولد مُدرِكة بن إلياس رجلين: خُزيمة بن مُدركة، وهُذَيل بن مُدركة، وأمهما: امرأة من قُضاعة. فولد خُزَيمة بن مدركة أربعة نفر: كِنانة بن خُزَيمة، وأسد بن خُزَيمة، وأسَدَة بن خُزَيمة، والْهُون بن خُزيمة. فأم كنانة عُوانة بنت سعد بن قيس عَيْلان بن مضر.
قال ابن هشام: ويقال: الْهَوْن بن خزيمة.
أولاد كنانة وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد كنانة بن خُزيمة أربعة نفر: النضر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تخزعوا: تأخروا وانقطعوا.
2 يريد: مر الظهران، وسُمي: مرًّا؛ لأن فيه عرقًا من الوادي من غير لون الأرض شبه "الميم" الممدودة، وبعدها "راء" خلقت كذلك، ويذكر عن كثير أنه قال: سميت: مرًا لمرارتها.
3 الخيول الكراكر: المجتمعة.

ص -86-         ابن كنانة، ومالك بن كنانة، وعبد مناة بن كِنانة، ومِلْكان بن كنانة1. فأم النضر: بَرَّة بنت مُر بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وسائر بنيه لامرأة أخرى.
قال ابن هشام: أم النضر ومالك ومِلْكان: بَرَّة بنت مر، وأم عبد مناة: هالة بنت سُوَيد بن الغِطْريف من أزد شَنوءة. وشَنوءَة: عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأسْد بن الغوْث: وإنما سُموا شنوءة، لشنآن كان بينهم. والشنآن: البغض.
من يطلق عليه لقب قرشي: قال ابن هشام: النضر: قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي؛ قال جرير بن عطية أحد بني كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:
فما الأمُّ التي ولدتْ قريشًا      بمُقْرِفة النَّجارِ ولا عقيم2
وما قَرْم بأنجبِ من أبيكم        وما خال بأكرم من تميم3
يعنى بَرَّةَ بنتَ مُر، أخت تميم بن مر، أم النضر. وهذَان البيتان في قصيدة له.
لماذا سمُيت قريش باسمها: ويقال فِهر بن مالك: قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، وإنما سُميت قريش قريشًا من التقرش. والتقرش: التجارة والاكتساب. قال رُؤبة بن العجَّاج:
قد كان يغنيهم عن الشغُّوشِ                   والخَشْلِ من تساقُطِ القروش
شَحمٌ ومحض ليس بالمغشوشِ
قال ابن هشام: والشُّغوش، قمح يسمى: الشَّغوش. والخشل: رءوس الخلاخيل والأسورة ونحوه4. والقروش: التجارة والاكتساب، يقول: قد كان يغنيهم عن هذا شحم ومحض، والمحض: اللبن الحليب الخالص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وزاد الطبري في ولد كنانة. عامرًا والحارث والنضير وغنمًا وسعدًا وعوفًا وجرول والحدال وغزوان. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص115".
2 المقرفة: اللئيمة. والنجار: الأصل.
3 القرم هنا: السيد من الرجال.
4 ويقال الخشل: حمل شجر الدوم. والقروش: ما تساقط، من حتاته وتقشر منه.

ص -87-         وهذه الأبيات في أرجوزة له. وقال أبو جِلْدة اليشكريّ، ويشْكُر: ابن بكر بن وائل:
إخوة قرشوا الذنوبَ عَلينَا                     في حديثٍ من عُمرِنا وقديم
وهذا البيت في أبيات له.
قال ابن إسحاق: ويقال: إنما سُميت قريش قريشًا: لتجمعها من بعد تفرقها.
ويقال للتجمع: التقرش1.
أولاد النضر وأمهاتهم: فولد النضرُ بن كنانة رجلين: مالكَ بنَ النضر، ويَخْلد بن النضر، فأم مالك: عاتكة بنت عَدْوان بن عمرو بن قيس بن عَيْلان، ولا أدري أهي أم يَخْلُد أم لا.
قال ابن هشام: والصَّلْت بن النضر -فيما قال أبو عمرو المدني- وأمهم جميعًا: بنت سعد بن ظَرِب العَدْواني، وعَدْوان: ابن عمر بن قيس بن عيلان. قال كُثَيِّر بن عبد الرحمن -وهو كُثَيِّر عزة أحد بني مُلَيح بن عَمرو، من خزاعة:
أليس أبى بالصَّلْت أمْ ليس إخوتي                 لكلِّ هِجانٍ من بني النضر أزهرَا2
رأيت ثيابَ العَصْبِ مختلط السَّدَى                   بنا وبهم والحَضْرَمِيّ المخصَّرا3
فإن لم تكونوا من بني النضر، فاتركوا               أراكًا بأذنابِ الفوائج أخضرَا4
قال: وهذه الأبيات في قصيدة له.
والذين يُعْزَوْنَ إلى الصلْتِ بن النضر من خزاعة: بنو مُلَيْح بن عَمرو رهط كُثَيِّر عزة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر ما قيل في قريش مفصلا فى: "الروض الأنف" بتحقيقنا ج1 من صفحة 115- 117".
2 الهجان: الكريم. والأزهر: المشهور.
3 والعَصب: برود اليمن؛ لأنها تصبغ بالعصب، ولا ينبت العصب ولا الورس إلا باليمن، وكذلك اللبان. قاله أبو حنيفة الدينوري. يريد: إن قدودنا من قدودهم، فسدَى أثوابنا، مختلط بسدى أثوابهم. والحضرمي: النعال المخصرة التي تضيق من جانبيها كأنها ناقصة الخصرين.
4 الفوائج: رءوس الأدوية.

ص -88-         أولاد مالك وفهر وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد مالكُ بن النضر: فِهْر بن مالك. وأمه: جَنْدلة بنتُ الحارث بن مُضاض الجرهمي.
قال ابن هشام: وليس بابن مُضاض الأكبر.
قال ابن إسحاق: فولدَ فهر بن مالك أربعة نفر: غالبَ بن فهر، ومُحاربَ بن فهر، والحارث بن فهر، وأسَد بن فهر، وأمُّهم: ليلى بنت سعد بن هُذَيل بن مدركة.
قال ابن هشام: وجَنْدلة بنت فهر، وهي أم يَرْبوع بن حنظلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم. وأمها: ليلى بنت سعد. قال جَرِير بن عطية بن الخطفَى. واسم الخَطَفى: حذيفة بن بدر بن سَلَمَة بن عوف بن كُلَيْب بن يربوع بن حنظلة.
وإذا غَضبتُ رمَى ورائي بالحَصَى    أبناءُ جَنْدلةٍ كخيرِ الجندَلِ
وهذا البيت في قصيدة له.
أولاد غالب وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد غالبُ بنُ فِهر رجلين: لؤيَّ بن غالب، وتيْمَ بنَ غالب، وأمهما: سَلْمى بنت عمرو الخزاعى -وتيْم بن غالب الذين يقال لهم: بنو الأدْرَم1.
قال ابن هشام: وقَيْس بن غالب، وأمه: سَلْمى بنت كعب بن عَمرو الخُزاعي، وهى أم لُؤَيّ وتَيْم ابنيْ غالب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأدرم: المدفون الكعبين من اللحم يقال: امرأة درماء وكعب أدرم. قال الراجز:
قامت تريه خشية أن تُصْرما
ساقًا بَخَنْداه وكعبًا أدرما
وكَفَلا مثل النقا أو أعظَما
والأدرم أيضًا: المنقوض الذقن، وكان تيم بن غالب كذلك، فسمى: الأدرم، قاله الزبير. وبنو الأدرم هؤلاء هم: أعراب مكة، وهم من قريش الظواهر "النازلون بظهر مكة"، لا من قريش البطاح، "هم قبائل عبد مناف" وكذلك بنو محارب من فهر، وبنو معِيص بن عامر.

ص -89-         أولاد لؤيّ وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد لُؤيُّ بنُ غالب أربعة نفر: كعبَ بنَ لؤيّ، وعامر بنَ لؤيّ، وسامةَ بنَ لؤيّ، وعوف بن لؤيّ، فأم كعب وعامر وسامة: مَاوية1 بنتُ كَعْب بن القَيْن بن جَسْر، من قُضاعة.
قال ابن هشام: ويقال: والحارث بن لُؤيّ، وهم: جُشم بن الحارث، في هِزَّان من ربيعة. قال جرير:
بني جُشَمٍ لستم لِهزَّان، فانتَمَوْا            لأعلى الروابي من لُؤيِّ بنِ غالب
ولا تُنكحوا في آلِ ضَوْر نساءَكم               ولا في شُكَيْس بئسَ مثوى الغرائب2
وسعد بن لُؤيّ، وهم بُنانة: في شَيْبان بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، من ربيعة.
وبنانة: حاضنة لهم من بني القَيْن بن جَسر بن شَيْع الله -ويقال: سَيْع الله- بن الأسْد بن وَبَرة بن ثعلبة بن حُلْوان بن عِمران بن الحاف بن قضاعة. ويقال: بنت النَّمِر بن قاسط، من ربيعة. ويقال: بنت جَرْم بن رَبَّان بن حُلْوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
وخزيمة بن لؤيّ بن غالب، وهم عائذة في شَيْبان بن ثعلبة، وعائذة امرأة من اليمن3 وهي أم بني عبيدة بن خُزيمة بن لؤي.
وأم بني لؤيّ كلهم -إلا عامر بن لؤيّ: ماوَيَّة بنت كعب بن القَيْن بن جَسْر. وأم عامر بن لؤيّ: مخْشِيَّة بنت شَيْبان بن محارب بن فِهْر، ويقال: ليلى بنت شيبان بن محارب بن فهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سميت بالماوية، وهي المرآة، كأنها نسبت إلى الماء لصفائها، وقلب همزة الماء واوًا.
2 يقال إنهم أعطوا جريرًا على هذا الشعر ألف عير ربَّى، وكانوا ينتسبون إلى ربيعة فما انتسبوا بعد إلا لقريش.
3 وقال غيره: هي بنت الخمس بن قحافة من خثعم ولدت لعبيد بن خزيمة مالكًا وحارثًا، فهم بنو خزيمة عائذة ومن بني خزيمة أيضًا: بنو حرب بن خزيمة، قتلتهم المسودة في قريتهم بالشام، وهم يحسبونهم بني حرب بن أمية.

ص -90-         أمر سامة بن لؤيّ:
هروبه من أخيه وموته: قال ابن إسحاق: فأما سامة بن لؤيّ فخرج إلى عُمَان، وكان بها. ويزعُمون أن عامر بن لؤي أخرجه، وذلك أنه كان بينهما شيء، ففقأ سامةُ عينَ عامر، فأخافه عامرٌ، فخرج إلى عُمَان. فيزعُمون أن سامَة بن لؤيّ بينا هو يسير على ناقته، إذ وضعت رأسها ترتع، فأخذت حية بمشفرِها، فهصرتها حتى وقعت الناقة لشقِّها ثم نهشت سامةَ فقتلته. فقال سامة حين أحس بالموت فيما يزعُمون:
عين فابكي لسامةَ بنِ لؤيّ    عَلِقت ساقَ سامةِ العلَّاقهْ
لا أَرى مثلَ سامة بن لؤيّ      يومَ حُلُّوا به قتيلا لناقهْ
بَلِّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا           أَنَّ نَفْسِي إِلَيْهِمَا مُشْتَاقَهْ1
إن تكنْ في عُمان داري، فإني                   غالبي، خرجت من غير فاقهْ
رُبَّ كأسٍ هَرَقْتَ يابنَ لؤيّ       حَذَرَ الموتِ لم تكن مُهرَاقهْ
رُمْتَ دفعَ الحُتوفِ يابنَ لُؤَيّ     ما لِمَنْ رام ذاك بالحتف طاقهْ
وخَرُوسَ السَّرى تركْتَ رَديًّا      بعدَ جِد وجِدةٍ ورشاقهْ2
قال ابن هشام: وبلغني أن بعضَ ولده أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتسب إلى سامة بن لؤيّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشاعر؟" فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بلغا عامرًا وكعبًا رسولا: يجوز أن يكون "رسولا" مفعولا: ببلغا إذا جعلت الرسول بمعنى: الرسالة، كما قال الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحتُ عندهم                 بليلى، ولا أرسلتهم برسول
أى: برسالة، وإنما سموا الرسالة: رسولا إذا كانت كتابا، أو ما يقوم مقام الكتاب من شعر منظوم.
2 قوله: وخَرُوسِ السرى تركت رديًا يريد: ناقة صموتا صبورًا على السرى، لا تضجر منه: فسراها كالأخرس، والردى التي سقطت من الإعياء.

ص -91-                      رُبَّ كأسٍ هَرَقْتَ يابن لؤيّ        حَذَرَ الموتِ لم تكن مُهْراقهْ
قال: أجل.
أمر عوف بن لُؤَيّ ونقلته:
سبب انتمائه إلى غطفان: قال ابن إسحاق: وأما عوف بن لؤيّ فإنه خرج -فيما يزعمون- في ركب من قريش، حتى إذا كان بأرض غَطفان بن سعد بن قيس بن عَيْلان، أبْطأ به فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبةُ بن سَعْد، وهو أخوه في نسب بني ذُبيان -ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بَغيض بن رَيْث بن غطفان. وعوف بن سعد بن ذُبيان بن بغيض بن رَيْث بن غطفان-فحبسه وزوجه والتاطه1 وآخاه، فشاع نسبه في بني ذُبيان. وثعلبة -فيما يزعمون- الذي يقول لعوف حين أبْطأ به، فتركه قومه:
احبس علي ابنَ لؤيّ جملَك      تركك القومُ ولا مترَكَ لك
مكانة مرة: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حُصَين، أن عمر بن الخطاب قال: لو كنت مُدَّعِيًا حيًّا من العرب، أو مُلْحقهم بنا، لادعيتُ بني مُرة بن عوف، إنا لنعرف فيهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع، يعنى: عوف بن لؤي.
نسب مُرة: قال ابن إسحاق: فهو في نسب غطفان: مُرة بن عوف بن سعد بن ذُبيان بن بَغيض بن رَيْث بن غَطَفان وهم يقولون إذا ذُكر لهم هذا النسب: ما ننكره، وما نجحده، وإنه لأحبُّ النسب إلينا.
وقال الحارث بن ظالم بن جَذِيمة بن يَرْبوع -قال ابن هشام: أحد بني مُرة بن عَوْف- حين هرب من النعمان بن المنذر، فلحق بقريش:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التاطه: ألصقه به وألحقه بنسبه.
ص -92-        فما قومي بثعلبةَ بنِ سعدٍ  ولا بفَزارة الشُّعْر الرِّقَابَا
وقومي –إن سألتِ– بنو لؤيّ     بمكةَ علَّموا مُضَرَ الضِّرابَا
سفهنا باتباع بني بغيضٍ          وترْكِ الأقربين لنا انتسابَا
سفاهةَ مُخْلِفٍ لَمَّا تروَّى          هَراقَ الماءَ، واتَّبعَ السَّرَابَا1
فلو طوّعتَ -عَمْرَك -كنتَ فيهم                     وما ألفيتُ أنتجِعُ السحابَا2
وخَشّ رَوَاحةُ القرشي رَحْلي     بناجيةٍ ولم يطلبْ ثَوابَا3
قال ابن هشام، هذا ما أنشدني أبو عُبَيدة منها.
قال ابن إسحاق: فقال الحصين بن الحُمام المُرِّيّ، ثم أحد بني سهم بن مُرة يرد على الحارث بن ظالم، وينتمي إلى غطفان:
ألا لستمُ منا، ولسنا إليكمُ                  بَرئْنا إليكم من لؤيِّ بنِ غالبِ
أقمنا على عِزِّ الحجازِ، وأنتمُ                 بمُعْتَلج البطحاء بينَ الأخاشبِ4
يعني: قريشًا، ثم ندم الحُصَيْن على ما قال، وعرف ما قال الحارث بن ظالم، فانتمى إلى قريش، وأكذب نفسه، فقال:
نَدِمْتُ على قولٍ مضى كنت قلتُه     تبيَّنتُ فيه أنه قول كاذب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المخلف: المستقى للماء.
2 وما ألفيت أنتجع السحابا: أي: كانوا يغنونني بسببهم ومعروفهم عن انتجاع السحاب، وارتياد المراعي في البلاد.
3 وخشَ رَوَاحة القرشي رحلي بناجية. أي: بناقة سريعة يقال: خش السهم بالريش، إذا راشه به، فأراد: راشني وأصلح رحلي بناجية، ولم يطلب ثوابًا بمدحه بذلك ورواحة هذا: هو رواحة بن منقذ بن معيص بن عامر كان قد ربع فى الجاهلية- كانوا في الجاهلية إذا غزا بعضهم بعضًا، وغنموا، أخذ الرئيس ربع الغنيمة.
4 بمعتلج البطحاء: أي حيث تعتلج السيول، والاعتلاج عمل بقوة. والأخاشب: جبال مكة وقد يقال لكل جبل: أخشب.
ص -93-                      فليتَ لساني كان نصفين منهما          بكَيم، ونصف عندَ مجرَى الكواكبِ
أبونا كناني بمكةَ قبرُه          بمعتلِج البطحاءِ بينَ الأخاشبِ
لنا الرُّبعُ من بيتِ الحرامِ وِراثةً                  وربعُ البطاحِ عندَ دارِ ابن حاطب1
أي أن بني لؤي كانوا أربعة: كعبًا، وعامرًا، وسامة، وعوفًا.
قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم أن عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه قال لرجال من بني مُرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم، فارجعوا إليه.
أشراف مرة: قال ابن إسحاق: وكان القوم أشرافًا في غطفَان، هم سادتهم وقادتُهم. منهم: هَرِم بن سنان بن أبي حارثة، وخارجة2 بن سنان بن أبي حارثة، والحارث بن عَوْف والحُصَيْن بن الحُمام، وهاشم بن حرملة الذي يقول له القائل:
أحيا أباه هاشمُ بنُ حرملة3                  يوم الهباءات ويوم اليَعْمَلة
ترى الملوكَ عندَه مغربلهْ4                    يقتل ذا الذنب، ومن لا ذنبَ لهْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: لنا الرُّبع بضم الراء، يريد: أن بني لؤي كانوا أربعة: أحدهم: أبوهم، وهو عوف، وبنو لؤي هم: أهل الحرم، ولهم وراثة البيت.
2 خارجة بن سنان الذي تزعم قيس أن الجن اختطفته لتستفحله نساءها لبراعته ونجدته، ونجابة نسله.
3 هاشم بن حرملة هو: جد منظور بن زبان بن يسار الذي كانت بنته زجلة عند ابن الزبير، فهو جد منظور لأمه، واسمها: قهطِم بنت هاشم. كانت قهطم قد حملت بمنظور أربع سنين، وولدته بأضراسه، فسمي منظورًا لطول انتظارهم إياه.
4 قيل معناه: منتفخة، وذكروا أنه يقال: غربل القتيل إذا انتفخ، وهذا غير معروف وإن كان أبو عبيد قد ذكره في الغريب المصنّف، وأيضًا: فإن الرواية بفتح الباء من مغربلة، وقال بعضهم: معناه: يتخير الملوك فيقتلهم، والذي أراه فى ذلك أنه يريد بالغربلة استقصاءهم وتتبُّعهم.
ص -94-         قال ابن هشام: أنشدني أبو عُبَيدة هذه الأبيات لعامر الخَصَفِيِّ: خَصَفَة بن قيس بن عَيْلان:
أحيا أباه هاشمُ بنُ حرملهْ                   يومَ الهباءات ويومَ اليَعْملهْ
ترى الملوكَ عندَه مُغربلهْ                     يقتلُ ذا الذنب ومن لا ذنب له
ورمحُه للوالداتِ مُشْكِلَهْ
قال ابن هشام: وحدثني أن هاشِمًا قال لعامر: قُلْ فيَّ بيتًا جيدًا أثبْك عليه، فقال عامر البيت الأول، فلم يعجب هاشمًا، ثم قال الثاني، فلم يعجبه، ثم قال الثالث، فلم يعجبه، فلما قال الرابع:
يقتل ذا الذنب ومن لا ذنبَ له          أعجبه، فأثابه عليه1.
قال ابن هشام: وذلك الذي أراد الكُميْت بن زيد في قوله:
وهاشم مُرَّة المُفنِى ملوكًا           بلا ذنب إليه ومُذْنبينا
وهذا البيت في قصيدة له. وقول عامر: يوم الهباءات، عن غير أبى عبيدة.
قال ابن إسحاق: قوم لهم صيت وذكر في غطفان وقيس كلها، فأقاموا على نسبهم، وفيهم كان البَسْل2.
أمر البَسْل:
تعريف البَسْل: والبَسْل2 -فيما يزعمون- نسيئُهم ثمانية أشهر حُرُم، لهم من كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما أعجب هاشما هذا البيت؛ لأنه وصفه فيه بالعز والامتناع، وأنه لا يخاف حاكمًا يُعْدِي عليه ولا تِرَة من طالب ثأر.
2 البَسل وهو الحرام، والبسل أيضًا: الحلال، فهو من الأضداد ومنه: بسلة الراقي، أى ما يحل له أن يأخذه على الرقية، وبسل في الدعاء بمعنى: آمين: قال الراجز:
لا خاب مِن نفعك من رجاك                    بسلا، وعادى الله من عاداك
كان عمر بن الخطاب يقول في إثر الدعاء: آمين وبسلا، أي: استجابة.

ص -95-         سنة من بين العرب، قد عرفت ذلك لهم العرب لا ينكرونه، ولا يدفعونه، يسيرون به إلى أي بلاد العرب شاءوا، لا يخافون منهم شيئًا، قال زهير بن أبي سلمى، يعني بني مرة.
نسب زهير بن أبي سلمى: قال ابن هشام: زهير أحد بني مُزَيْنة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. ويقال: زُهَير بن أبي سُلْمى من غطفان، ويقال: حليف في غطفان.
تأمل، فإن تُقْوِ المْرَوْرَاة1 منهم                  وداراتها لا تُقْويا منهم إذا نَخل
بلاد بها نادمتُهم وألِفْتُهم       فإن تُقْويا منهم فإنهُم بَسْل
أي:حرام. يقول: ساروا في حرمهم.
قال ابن هشام: وهذان البيتان في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وقال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
أجارتُكم بَسْل علينا مُحَرَّمٌ      وجارتُنا حِل لكم وحليلُها
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له.
أولاد كعب وأمهم: قال ابن إسحاق: فولد كعبُ بنُ لؤي ثلاثة نفر: مُرَّة بن كعب، وعديَّ بن كعب، وهُصَيْص بن كعب. وأمُّهم: وَحْشِيَّةُ بنت شَيْبان بن محارب بن فِهر بن مالك بن النضر.
أولاد مرة وأمهاتهم: فولد مرةُ بنُ كعب ثلاثة نفر: كلابَ بن مرة، وتَيْمَ بن مرة، وَيَقظة2 بن مرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقع في بعض النسخ المرورات بتاء ممدودة، كأنه جمع مرور، وليس فى الكلام مثل هذا البناء، وإنما هو المروراة بهاء مما ضوعفت فيه العين واللام، فهو فَعَلْعَلَة مثل صَمَحمَحَة، والألف فيه منقلبة عن واو أصلية، وهذا قول سيبوبه جعله مثل: شجوجاه. والمروراة اسم مكان كان فيه هذا اليوم.
2 يقظة بن مرة بفتح القاف، وقد وجدته بسكون القاف في أشعار مدح بها خالد بن الوليد، فمنها قول الشاعر:
وأنت لمخزوم بن يقظة جُنة                كلا اسميك فيها ماجد وابن ماجد
وأم مخزوم بن يقظة جد بني مخزوم: كلبة بنت عامر بن لؤي.

ص -96-         فأم كلاب: هِند بنتُ سُرَير بن ثعلبة بن الحارث بن فِهر بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة. وأم يقظة: البارقية، امرأة من بارق، من الأسْد من اليمن. ويقال: هى أم تَيْم. ويقال: تَيْم لهند بنتُ سرَير أم كلاب.
نسب بارق: قال ابن هشام: بارق1: بنو عَدِي بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسْد بن الغَوْث، وهم في شَنُوءة. قال الكُمَيْت بن زيد2:
وأزْد شَنوءة اندرءوا علينا       بِجُم يحسبون لها قرونا3
فما قلنا لبارقَ قد أسأتم       وما قلنا لبارقَ أعْتِبونا
قال: وهذان البيتان في قصيدة له: وإنما سُموا ببارق؛ لأنهم تبعوا البرقَ.
ولدا كلاب وأمهما: قال ابن إسحاق: فولد كلابُ بنُ مرة رجلين: قُصَيَّ بن كلاب، وزُهْرةَ بن كلاب. وأمهما: فاطمةُ بنت سَعد بن سَيَل أحد بني الجَدرَة، من جُعْثُمَة الأزد، من اليمن، حلفاء في بني الدَّيْل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة.
نسب جُعثْمة: قال ابن هشام: ويقال: جعثمة الأسْد، وجعثمة الأزْد، وهو جُعْثُمة بن يَشْكُر بن مُبَشِّر بن صعب دُهْمان بن نصر بن زَهران بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأسْد بن الغَوْث. ويقال: جُعْئُمة بن يشكر بن مُبَشِّر بن صَعْب بن نصر بن زَهْران بن الأسْد بن الغَوْث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سُموا: بارق؛ لأنهم اتبعوا البرق، وقد قيل: إنهم نزلوا عند جبل يقال له: بارق، فسُموا به.
2 هو ابن زيد أبو المستهل من بني أسد.
3 أي: يناطحون بلا عُدة ولا قوة كالكباش الجم التي لا قرون لها، ويحسبون أن لهم قوة.
ص -97-         وإنما سُموا الجَدَرَة؛ لأن عامر بن عمرو بن جُعْثمة1 تزوج بنت الحارث بن مضاض الجُرْهمي. وكانت جُرهم أصحاب الكعبة. فبنى للكعبة جدارًا. فسمي عامر بذلك: الجادر. فقيل لولده: الجَدَرَة لذلك2.
قال ابن إسحاق: ولسعد بن سَيَل يقول الشاعر:
ما نرى في الناس شخصًا واحدًا                  من علمناه كسعدِ بن سَيَلْ
فارسا أضبطَ، فيه عُسْرةٌ          وإذا ما واقف القِرْن نزلْ3
فارسا يستدرجُ الخيلَ كما اسـ                    ـتدرج الحرُّ القطاميُّ الحَجَلْ4
قال ابن إسحاق: قوله: كما استدرج الحر. عن بعض أهل العلم بالشعر.
نعْم بنت كلاب وأمها وولداها: قال ابن هشام: ونُعْم بنت كلاب، وهي أم سعد وسعيد ابني سهم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤيّ، وأمها: فاطمة بنت سعد بن سَيَل.
أولاد قُصي وأمهم: قال ابن إسحاق: فولد قُصيُّ بن كلاب أربعة نفر وامرأتين: عبدَ مناف بن قصي، وعبدَ الدار بن قصي، وعبدَ العزى بن قصي، وعبدَ قصي بن قصي، وتَخْمُر بنت قصي، وبرة بنت قصي، وأمهم: حُبَّى بنت حُلَيْل بن حَبَشِيَّة بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي.
قال ابن هشام: ويقال: حُبْشِيَّة بن سلول.
أولاد عبد مناف وأمهاتهم: قال ابن إسحاق: فولد عبدُ مناف -واسمه: المغيرة بن قُصي- أربعةَ نفر: هاشمَ بن عبد مناف، وعبد شمس5 بن عبد مناف، والمطلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعض النسخ زيادة خزيمة خطأ إنما هو: عمرو بن جعثمة.
2 يروى أن السيل ذات مرة دخل الكعبة، وصدع بنيانها، ففزعت لذلك قريش، وخافوا تهدادها إن جاء سيل آخر، وأن يذهب شرفهم ودينهم، فبنى عامر لها جدارًا.
3 الأضبط الذي يعمل بكلتا يديه، والعسرة: الشدة، والقرن: الشديد في الحرب.
4 الحر القطامي: الصقر.
5 وكان تلوا لهاشم، ويقال: كانا توأمين، فولد هاشم، ورجله في جبهة عبد شمس ملتصقة، فلم يقدر على نزعها إلا بدم، فكانوا يقولون: سيكون بين ولدهما دماء، فكانت تلك الدماء ما وقع بين بني هاشم، وبين بني أمية بن عبد شمس.

ص -98-         ابن عبد مناف، وأمُّهم: عاتكة بنت مُرة بن هلال بن فالج بن ذَكْوان بن ثعلبة بن بُهْثة بن سُلَيْم بن منصور بن عِكرمة، ونَوفل بن عبد مناف، وأمه: واقدة بنت عمرو المازنية. مازن: ابن منصور بن عِكرمة.
قال ابن هشام: فبهذا النسب خالفهم عتبة بن غَزْوان بن جابر بن وهب بن نُسَيْب بن مالك بن الحارث بن مازن بن منصور بن عِكرمة.
قال ابن هشام: وأبو عمرو، وتُماضر، وقلابة، وحَيَّة، ورَيْطة، وأم الأخْثَم، وأم سفيان: بنو عبد مناف.
فأمُّ أبى عمرو: رَيْطة، امرأة من ثقيف، وأم سائر النساء: عاتكة بنت مرة بن هلال أم هاشم بن عبد مناف، وأمها صفية بنت حَوْزة بن عمرو بن سلول بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هَوازِن. وأم صفية: بنت عائذ الله بن سعد العشيرة1 بن مَذْحج.
أولاد هاشم وأمهاتهم: قال ابن هشام: فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر، وخمسَة نسوة: عبدَ المطلب بن هاشم، وأسدَ بن هاشم، وأبا صَيْفي بن هاشم، ونَضْلة بن هاشم، والشِّفاء، وخالدة، وضعيفة، ورُقَية، وحَيَّة. فأم عبد المطلب ورقية: سَلمَى2 بنت عمرو بن زيد بن لَبيد بن خداش بن عامر بن غَنْم بن عدي بن النجار. واسم النجار: تَيْم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.
وأمها: عَمِيرَة بنت صخر بن حبيب بن الحارث بن ثعلبة بن مازن بن النجار. وأم عَمِيرة: سلمى بنت عبد الأشْهل النجَّارية. وأم أسد: قَيْلة بنت عامر بن مالك الخزاعى. وأم أبي صيفي وَحَيَّة: هند بنت عمرو بن ثعلبة الخزرجية. وأم نَضْلة والشفاء: امرأة من قضاعة. وأم خالدة وضعيفة: واقدة بنت أبي عديّ المازنية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هذا الكلام وهم؛ لأن سعد العشيرة بن مذحج هو أبو القبائل المنسوبة إلى مذحج إلا أقلها، فيستحيل أن يكون في عصر هاشم من هو ابن له لصلبه، ولكن هكذا رواه البرقي عن ابن هشام، ورواه غيره: بنت عبد الله من سعد العشيرة، وهي رواية الغساني.
2 وأمها: عُميرة بنت صخر المازنية، وابنها عمرو بن أحَيحة بن الجُلاح، وأخوه: معبد، ولدتهما لأحيحة بعد هاشم.

ص -99-         أولاد عبد المطلب بن هاشم:
أولاد عبد المطلب وأمهاتهم: قال ابن هشام: فولد عبدُ المطلب بن هاشم عشرةَ نفر، وست نسوة: العباس، وحمزة وعبد الله، وأبا طالب -واسمه: عبد مناف1- والزبير2، والحارث، وحَجْلا3، والمقوم4، وضِرارا، وأبا لهب5 -واسمه عبد العُزَّى- وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأمَيْمة، وأرْوَى، وَبرَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وله يقول عبد المطلب:
أوصيك يا عبد مناف بعدي    بمؤتِم بعد أبيه فرد
مات أبوه وهو حلف المهد
2 الزبير، وهو أكبر أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان يُرْقِص النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو طفل ويقول:
محمد بن عَبْدَمِ
عشت بعيش أنعَم
في دولة ومغنم
دام سجيس الأزلم
وبنته: ضباعة كانت تحت المقداد. وعبد الله ابنه: مذكور في الصحابة -رضي الله عنهم- وكان الزبير -رضي الله عنه- يكنى أبا الطاهر بابنه: الطاهر، وكان من أظرف فتيان قريش، وبه سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنه الطاهر. وأخبر الزبير عن ظالم كان بمكة أنه مات فقال: بأى عقوبة كان موته؟ فقيل: مات حتف أنفه، فقال: وإن، فلا بد من يوم ينصف الله فيه المظلومين، ففي هذا دليل على إقراره بالبعث.
3 جحلًا: بتقديم الجيم على الحاء، هكذا رواية الكتاب. وقال الدارقطني: هو حَجْل بتقديم الحاء.
4 المقوم لم يعقب إلا بنتًا اسمها: هند.
5 واسمه: عبد العُزَّى، وكني: أبا لهب لإشراق وجهه وكان تقدِمة من الله تعالى لما صار إليه من اللهب، وأمه: لُبنى بنت هاجِر بكسر الجيم من بني ضاطرة بضاد منقوطة

ص -100-      فأمُّ العباس وضرار: نُتَيْلةُ بنت جَناب بن كُليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر -وهو الضَّحْيان-بن سعد بن الخزرج بن تَيْم اللات بن النَّمِر بن قاسط بن هِنْب بن أفْصَى بن جَديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. ويقال: أفصى بن دُعْمِيِّ بن جديلة.
وأم حمزة والمقوَّم وجَحْل -وكان يلقب بالغَيْداق لكثرة خيره، وسعة ماله- وصفية: هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ.
وأم عبدِ الله، وأبي طالب، والزبير، وجميع النساء غير صفية: فاطمةُ بنت عَمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر.
وأمها: صخرةُ بنت عَبْد بن عِمران بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهر بن مالك بن النَّضْر.
وأم صخرة: تَخْمر بنت عبد بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر.
وأم الحارث بن عبد المطلب: سمراء بنت جُنْدب بن جُحَيْر بن رِئاب بن حبيب بن سُوَاءَة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة.
وأم أبي لهب: لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر بن حُبْشِيَّة بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي.
أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمهاتها: قال ابن هشام: فولد عبدُ الله بن عبد المطلب: رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم- سيد ولد آدم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه وعلى آله.
وأمه: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهْرة1 بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المعارف لابن قتيبة: أن زُهرة اسم امرأة عرف بها بنو زُهرة، وهذا منكر غير معروف، وإنما هو اسم جدهم. كما قال ابن إسحاق: والزهرة في اللغة: إشراق في اللون، أيّ لون كان من بياض أو غيره.


ص -101-      وأمها: بَرّة بنت عبد العُزّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر. وأم برة: أم حبيب بنت أسَد بن عبد العُزى بن قُصيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
وأم أم حبيب: بَرَّة1 بنت عَوْف بن عُبَيد بن عُوَيْج بن عَدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
قال ابن هشام: فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشرف ولد آدم حسبًا، وأفضلهم نسبًا من قِبل أبيه وأمه -صلى الله عليه وسلم.
حديث مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
احتفار زمزم: قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام: قال: وكان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم- ما حدثنا به زياد بن عبد الله البَكَّائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي: بينما عبد المطلب بن هاشم نائم في الحِجْر، إذ أتى؟ فأمر بحفر زمزم، وهي دَفْن بين صنَمَيْ قريش: إسَاف ونائلة، عند منحر قريش. وكانت جُرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة، وهي: بئر إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، التي سقاه الله حين ظمئ وهو صغير، فالتمست له أمه ماءً فلم تجدْه، فقامت إلى الصفا تدعو الله، وتستغيثه لإسماعيل، ثم أتت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر في آخر أمهاته -صلى الله عليه وسلم- برة بنت عوف بن عُبَيد بن عُوَيج بن عدي وهن كلهن قرشيات؛ ولذلك وقف في بَرَّة، وإن كان قد ذكر أهل النسب بعد هذا: أم برة، وأم أمها، وأم أم الأم، ولكنهن من غير قريش، قال محمد بن حبيب النسابة: وأم برة: قِلابة بنت الحارث بن مالك بن طابخة بن صعصعة بن غادية بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هُذيل، وأم قلابة: أميمة بنت كهف الظلم من ثقيف، وذكر الزبير قلابة بنت الحارث، وزعم أن أباها الحارث كان يكنى: أبا قلابة، وأنه أقدم شعراء هُذَيل.

ص -102-      المروة ففعلت مثل ذلك. وبعث الله تعالى جبريلَ عليه السلام، فهمز له بِعَقِبه1 في الأرض، فظهر الماء، وسمعت أمُّه أصواتَ السباع فخافتها عليه، فجاءت تشتد نحوه، فوجدته يفحص بيدِه عن الماء من تحت خده ويشرب، فجعلته حِسْيًا2.
أمر جُرْهم ودفن زمزم:
ولاة البيت من ولد إسماعيل: قال ابن هشام: وكان من حديث جُرْهُم، ودفنها زمزم، وخروجها من مكة، ومن ولي أمر مكة بعدها إلى أن حفر عبدُ المطلب زمزم، ما حدثنا به زيادُ بن عبد الله البَكَّائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: لما توفي إسماعيل بن إبراهيم وَلِيَ البيتَ بعده ابنُه نابت بن إسماعيل -ما شاء الله أن يليَه- ثم ولي البيت بعده: مُضاض بن عَمرو الجَرْهمي.
قال ابن هشام: ويقال: مِضاض بن عمرو الجرْهمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولذلك تسمى: هَمزَة جبريل بتقديم الميم على الزاي، ويقال فيها أيضًا: هزمة جبريل؛ لأنها هَزْمَة -أي: نقرة، وهزمت البئر: حفرتها- في الأرض، وحكي فى اسمها: زُمَازِمُ وزَمزم: حكي ذلك عن المُطرز، وتسمى أيضًا: طعام طعم، وشِفاء سُقم.
وقال الجُرْبِي: سميت زمزم، بزمزمة الماء، وهي صوته، وقال المسعودى: سميت زمزم؛ لأن الفُرس كانت تحج إليها في الزمن الأول، فزمزمت عليها. والزمزمة: صوت يخرجه الفُرس من خياشيمها عند شرب الماء: وقد كتب عمر –رضي الله عنه– إلى عماله: أن انهوا الفرس عن الزمزمة، وأنشد المسعودي:
زمزمت الفُرس على زمزم       وذاك فى سالفها الأقدم
وذكر البرقي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنها سميت: زمزم؛ لأنها زُمَّتْ بالتراب؛ لئلا يأخذ الماء يمينًا وشمالًا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء. وقال ابن هشام: والزمزمة عند العرب: الكثرة والاجتماع.
2 الحسي: الحفيرة الصغيرة، أو هو ما يختفي في الرمل، فإذا نبش ظهر.

ص -103-      بغي جرهم وقطوراء: قال ابن إسحاق: وبنو إسماعيل وبنو نابت مع جدِّهم: مُضَاض بن عمرو وأخوالهم من جُرْهم1، وجرهم وقَطُوراء2 يومئذ أهل مكة، وهما ابنا عَم، وكانا ظَعنا من اليمن، فأقبلا سيَّارةً، وعلى جُرْهم: مُضَاض بن عمرو، وعلى قطوراء: السَّمَيْدع3 رجل منهم. وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم مَلك يقيم أمرهم. فلما نزلا مكة رأيا بلدًا ذا ماء وشجر، فأعجبهما فنزلا به. فنزل مُضاض بن عمرو بمن معه من جرهم بأعلى مكة بقُعَيْقعَان، فما حاز. ونزل السَّمَيْدع بقطوراء، أسفل مكة بأجياد، فما حاز: فكان مُضاض يعشِّر من دخل مكة من أعلاها، وكان السَّمَيدع يعشِّر من دخل مكة من أسفلها، وكل في قومه لا يدخل واحد منهما على صاحبه. ثم إن جُرهم وقطوراء بغى بعضُهم على بعض، وتنافسوا الملك بها، ومع مُضاض يومئذ: بنو إسماعيل وبنو نابت، وإليه ولاية البيت دون السَّمَيدع فصار بعضهم إلى بعض، فخرج مُضاض بن عمرو بن قُعَيْقعان في كتيبته سائرًا إلى السَّمَيدع، ومع كتيبته عدتها من الرماح والدَّرَق والسيوف والجعاب، يُقَعقع بذلك معه، فيقال: ما سمي قُعَيقعان: بقعيقعان إلا لذلك4. وخرج السَّميدع من أجياد، ومعه الخيل والرجال،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، ويقال: جرهم بن عابر، وقد قيل: إنه كان مع نوح -عليه السلام- في السفينة، ذلك أنه من ولد ولده، وهم من العرب العاربة، ومنهم تعلم إسماعيل العربية. وقيل إن الله تعالى أنطقه بها إنطاقًا، وهو ابن أربع عشرة سنة.
2 هو قطوراء: بن كَركر.
3 هو السميدع بن هوثر "بثاء مثلثة" -قيدها البكري- ابن لاي بن قطورا بن كركر بن عِملاق، ويقال: إن الزباء الملكة كانت من ذريته، وهي بنت عمرو بن أذَيْنة بن ظَرِب بن حسان، وبين حسان وبين السميدع آباء كثيرة، ولا يصح قول من قال: إن حسان ابنه لصلبه، لبعد زمن الزباء من السميدع.
4 وقيل إنما سمي بهذا الاسم حين نزل تبع مكة، ونحر عندها وأطعم، ووضع سلاحه وأسلحة جنده بهذا المكان، فسمي: قعيقعان بقعقعة السلاح فيه.

ص -104-      فيقال: ما سمي أجْياد: إلا لخروج الجياد1 من الخيل مع السَّمَيدع منه فالتقوْا بفاضح، واقتتلوا قتالا شديدًا، فقُتل السَّمَيْدع، وفضحت قطوراء: فيقال ما سمي فاضح: فاضحًا إلا لذاك. ثم إن القوم تداعَوا إلى الصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ: شِعْبا بأعلى مكة، واصطلحوا به، وأسلموا الأمر إلى مُضَاض. فلما جُمع إليه أمر مكة، فصار ملكهَا نحر للناس فأطعمهم، فاطَّبخ الناس وأكلوا، فيقال: ما سُميت المطابخ إلا لذلك. وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت المطابخ، لما كان تُبع نحر بها، وأطعم، وكانت منزله. فكان الذي كان بين مُضاض والسَّميدع أول بَغْي كان بمكة فيما يزعمون.
انتشار ولد إسماعيل: ثم نشر الله ولدَ إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة، لا ينازعهم ولدُ إسماعيل في ذلك لخئولتهم وقرابتهم، وإعظامًا للحرمة أن يكون بها بغي أو قتال. فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا في البلاد، فلا يناوئون قومًا إلا أظهرهم الله عليهم -بدينهم-فوطِئوهم.
بغي جرهم ونفيهم عن مكة:
بنو بكر وغبشان يطردون جرهما: ثم إن جُرْهما بغوا بمكة، واستحلوا خلالًا من الحرمة، فظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يُهدَى لها2، فرقَّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يسم بأجياد من أجل جياد الخيل؛ لأن جياد الخيل لا يقال فيها: أجياد، وإنما أجياد: جمع جيد.
وذكر أصحاب الأخبار أن مُضاضًا ضرب فى ذلك أجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع: بأجياد، وهكذا ذكر ابن هشام، ومن شعب أجياد تخرج دابة الأرض التي تكلم الناس قبل يوم القيامة، كذلك روي عن صالح مولى التوأمة. عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
2 فمن ذلك أن إبراهيم عليه السلام، كان احتفر بئرًا قريبة القعر عند باب الكعبة، كان يلقي فيها ما يهدى إليها، فلما فسد أمر جرهم سرقوا مال الكعبة مرة بعد مرة، فيذكر أن رجلًا منهم دخل البئر ليسرق مال الكعبة، فسقط عليه حجر من شَفير البئر فحبسه فيها، ثم أرسلت على البئر حية لها رأس كرأس الجدي، سوداء الْمَتْن، بيضاء البطن، فكانت تهيب مَنْ دنا من بئر الكعبة، وقامت في البئر -فيما ذكروا- نحوًا من خمسمائة عام.

ص -105-      أمرهم. فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغُبشان من خُزاعة ذلك، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة؛ فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغُبْشان، فنفَوْهم من مكة. وكانت مكة في الجاهلية لا تُقر فيها ظلمًا ولا بغيًا، ولا يبغي فيها أحدٌ إلا أخرجته، فكانت تسمى: الناسَّة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتَها إلا هلك مكانَه، فقال: إنها ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك1 أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئًا.
معنى بكة: قال ابن هشام: أخبرني أبو عبيدة: أن بكَّة اسم لبطن مكة؛ لأنهم يتباكون فيها، أي: يزدحمون، وأنشدنى:
إذا الشَّريبُ أخذتُه أكَّه             فَخَلِّه حتى يبكَّ بكَّه
أي: فدعه حتى يبك إبلَه، أي يخليها إلى الماء، فتزدحم عليه، وهو موضع البيت والمسجد، وهذان البيتان لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زَيد مَناة بن تميم.
قال ابن إسحاق: فخرج عَمرو بن الحارث بن مُضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن، فدفنهما في زمزم وانطلق هو ومن معه من جُرهم إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنًا شديدًا فقال عَمرو بن الحارث بن مُضاض في ذلك2، وليس بمُضاض الأكبر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي تكسرهم وتقعدهم، وقيل: من التباك، وهو: الازدحام، ومكة من تمككت العظم، إذا اجتذبت ما فيه من المخ، وتمكك الفصيل ما في ضرع الناقة، فكأنها تجتذب إلى نفسها ما في البلاد من الناس والأقوات التي تأتيها في المواسم.
وقيل: لما كانت في بطن واد، فهى تمكك الماء من جبالها وأخاشبها عند نزول المطر وتنجذب إليها السيول. ومن أسماء مكة أيضًا: الرأس، وصلاح، وأم رحم، وكُوثي.
2 وكان الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هيّ بن نبت بن جرهم الجرهمي قد نزل بقنوني من أرض الحجاز، فضلت له إبل، فبغاها حتى أتى الحرم، فأراد دخوله، ليأخذ إبله، فنادى عمرو بن لحي: من وجد جرهميا، فلم يقتله، قطعت يده. فسمع بذلك الحارث، وأشرف على جبل من جبال مكة، فرأى إبله تنحر، ويتوزع لحمها، فانصرف بائسًا خائفًا ذليلا، وأبعد في الأرض، وهي غربة الحارث بن مضاض التي تضرب بها المثل.

ص -106-                         وقائلةٍ والدمعُ سكْت مُبادرُ  وقد شَرِقَتْ بالدمعِ منها المحاجرُ
كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصَّفا               أنيس ولم يَسْمُر بمكةَ سامرُ1
فقلتُ لها والقلبُ مني كأنما      يُلَجْلجه بين الجناحين طائرُ
بلى نحن كنا أهلَها، فأزالَنا        صروفُ الليالى، والجدودُ العواثرُ
وكنا ولاةَ البيت من بعدِ نابتٍ      نطوفُ بذاك البيتِ، والخيرُ ظاهرُ
ونحن ولينا البيتَ من بعد نابتٍ                     بعز، فما يحْظَى لدينا المكاثِرُ
مَلَكْنا فعزَّزْنا فأعْظمْ بمُلكنا        فليس لحي غيرنا ثَمَّ فاخِرُ
ألم تُنكحوا من خيرِ شخصٍ علمتُه                 فأبناؤه منا، ونحنُ الأصاهرُ2
فإن تَنْثنِ الدنيا علينا بحالِها       فإن لها حالًا، وفيها التشَاجُرُ
فأخرجنا منها المليكُ بقُدرةٍ        كذلك -يا لَلناس-تجري المقادِرُ
أقول إذا نام الخليُّ -ولم أنَمْ       إذا العرش لا يبعد سُهيل وعامرُ3
وبدلت منها أوْجُهًا لا أحبُّها         قبائلُ منها حِمْيَر ويُحابرُ
وصِرنا أحاديثًا وكنا بغبْطةٍ           بذلك عضتنا السُّنون الغوابرُ
فسَحَّت دموعُ العينِ تبكي لبلدةٍ                   بها حَرم أمْنٌ، وفيها المشاعرُ4
وتبكي لبيت ليس يُؤذَى حَمامُه                    يظلُّ به أمْنا، وفيه العصافرُ5
وفيه وُحوش لا تُرامُ أنيسةٌ         إذا خرجَتْ منه فليستْ تُغادرُ6
قال ابن هشام: "فأبناؤه منا" عن غير ابن إسحاق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحجون: بفتح الحاء كانت على فرسخ وثلث من مكة.
2 خير شخص: هو إسماعيل عليه السلام.
3 عامر: جبل من جبال مكة، يدل على ذلك قول بلال رضي الله عنه. وهل يبدُوَنَّ لي عامر وطفَيل.
4 المشاعر: أماكن التعبد في الحج.
5 أراد: العصافير، وحذف الياء ضرورة، ورفع العصافير على المعنى، أي: وتأمن فيه العصافير، وتظل به أمنًا، أي: ذات أمن، ويجوز أن يكون أمنا جمع أمن مثل: ركب جمع: راكب.
6 وبعد هذا البيت:
ولم يتربع واسطًا وجَنُوبه                  إلى السر من وادى الأراكة حاضر
وأبدلني ربي بها دار غربة                بها الجوع باد، والعدو المحاصر

ص -107-      قال ابن إسحاق: وقال عَمرو بن الحارث أيضًا يذكر بكرًا وغُبْشان وساكني مكة الذين خَلَفوا فيها بعدهم:
يا أيها الناس سيروا إن قصْرَكم                 أن تُصْبحوا ذاتَ يوم لا تَسيرونا1
حُثوا المطي، وأرخوا من أزمَّتِها                قبلَ المماتِ، وقَضُّوا ما تقضُّونا
كنا أناسًا كما كنتم، فغيرنا    دهر، فأنتم كما كنا تكونونا
قال ابن هشام: هذا ما يصح له منها، وحدثني بعض أهل العلم بالشعر: أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب، وأنها وُجدت مكتوبة في حَجَر باليمن2، ولم يُسم لي قائلها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قصركم: نهايتكم.
2 ذكر السهيلي هذه الأبيات وقال: وألفيت فى كتاب أبي بحر سفيان بن العاص خبرًا لهذه الأبيات، وأسنده أبو الحارث محمد بن أحمد الجعفي عن عبد الله بن عبد السلام البصري، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سليمان التمار، قال أخبرني ثقة عن رجل من أهل اليمامة، قال: وُجد في بئر باليمامة ثلاثة أحجار، وهي بئر طسم وجَديس فى قرية يقال لها: مُعْنِق، بينها وبين الحجر ميل، وهم من بقايا عاد، غزاهم تبع، فقتلهم، فوجدوا في حجر من الثلاثة الأحجار مكتوبًا:
يأيها الملك الذي                  بالمُلك ساعده زمانهْ
ما أنت أول من علا               وعلا شئون الناس شانُه
ًأقصر عليك مراقبًا                 فالدهر مخذول أمانُه
كم من أشَم مُعَصب             بالتاج مرهوب مكانُه
قد كان ساعده الزمان           وكان ذا خَفْض جنانُه
تجري الجداول حوله              للجند مُتْرَعة جِفانُه
قد فاجأته منيةٌ                    لم يُنجه منها اكتنانُه
وتفرقت أجناده                    عنه، وناح به قيانُه
والدهر من يَعْلِق به              يطحنْه، مُفترشًا جرانه
والناس شتى في الهوى       كالمرء مختلف بنانُه
والصدق أفضل شيمة            والمرء يقتله لسانه
والصمت أسعد للفتى           ولقد يُشَرفه بيانُه
ووجد في الحجر الثاني مكتوبًا أبيات: =

ص -108-      استبداد قوم من خزاعة بولاية البيت:
قال ابن إسحاق: ثم إن غُبْشان من خُزاعة وَلِيَتْ البيتَ دون بني بكر بن عبد مناة، وكان الذي يليه منهم: عمرو بن الحارث الغُبْشاني، وقريش إذ ذاك حُلول وصِرَم، وبيوتات، متفرقون في قومهم من بني كنانة، فوليت خُزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرًا عن كابر، حتى كان آخرهُم حُلَيْل بن حَبَشية بن سَلول بن كعب بن عَمرو الخُزاعي.
قال ابن هشام: يقال حُبْشية بن سلول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
كل عيش تَعِله           ليس للدهر خَلهْ
يوم بُؤسَى ونُعْمَى                       واجتماع وقلهْ
جنا العيش والتكاثرَ                       جهل وضلَّهْ
بينما المرءُ ناعم         في قصور مُظِله
في ظلال ونعمة         ساحبا ذيلَ حُلهْ
لا يرى الشمس ملِغضا                  رة إذا زل زلهْ
لم يُقلها وبَدَّلَتْ          عِزة المرء ذله
آفة العيش والنعـ         ـيم كُرور الأهِلَّه
وصل يوم بليلة           واعتراض بِعِلهْ
والمنايا جواثم            كالصقور المدلهْ
بالذي تكره النفو         س عليها مُطلهْ
وفي الحجر الثالث مكتوبًا:
يأيها الناس سيروا إن قصدكم                   أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حُثُّوا المَطِيَّ، وأرخوا من أزمتها                 قبل الممات وقَضُّوا ما تقضونا
كنا أناسًا كما كنتم فغيرنا      دهر فأنتم كما كنا تكونونا

ص -109-      تزوج قُصيّ بن كلاب حُبَّى بنت حليل:
أولاد قُصيّ وحُبَّى: قال ابن إسحاق: ثم إن قُصي بن كلاب خَطب إلى حُليل بن حُبْشية بنته حُبَّى، فرغب فيه حُليل فزوجه، فولدت له عبدَ الدار، وعبدَ مناف، وعبد العُزَّى، وعبدًا. فلما انتشر ولد قُصيّ، وكثر مالُه، وعظم شرفه هلك حُلَيل.
مساعدة رزاح لقصيّ في تولي أمر البيت: فرأى قصيّ أنه أوْلَى بالكعبة وبأمر مكة من خُزاعة وبني بكر، وأن قُريشًا قُرْعةُ1 إسماعيل بن إبراهيم وصريحُ ولده. فكلم رجالا من قريش، وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خُزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه. وكان ربيعة بن حرام من عُذْرة بن سعد بن زيد قد قدم مكة بعدما هلك كلاب، فتزوج فاطمة بنت سعد بن سَيَل، وزُهْرة يومئذ رجل، وقُصي فطيم، فاحتملها إلى بلاده، فحملت قُصيا معها، وأقام زُهرة، فولدت لربيعة رِزاحًا. فلما بلغ قُصي وصار رجلا أتى مكة2، فأقام بها، فلما أجابه قومه إلى ما دعاهم إليه، كتب إلى أخيه من أمه، رِزاح بن ربيعة، يدعوه إلى نصرته، والقيام معه، فخرج رِزاح بن ربيعة، ومعه: إخوته حُنُّ بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وجُلْهُمة بن ربيعة، وهم لغير أمه فاطمة، فيمن تبعهم من قضاعة في حاجِّ العرب، وهم مجمعون لنصرة قُصيّ. وخزاعة تزعم أن حُلَيل بن حُبْشية أوصى بذلك قُصيًّا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر. وقال: أنت أولى بالكعبة، وبالقيام عليها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالقاف، وهي الرواية الصحيحة وفي بعض النسخ: فرعة بالفاء، والقُرعة بالقاف هي، نخبة الشيء، وخياره، وقريع القبيلة: سيدها، ومنه اشتق الأقرع بن حابس وغيره ممن سُمِّي من العرب بالأقرع.
2 كان قصيّ رضيعًا حين احتملته أمه مع بعلها ربيعة، فنشأ ولا يعلم لنفسه أبا إلا ربيعة، ولا يدعى إلا له، فلما كان غلامًا يفعة أو حَزَوّرًا "دون البلوغ" سابه رجل من قضاعة، فعيره بالدعوة، وقال: لست منا، وإنما أنت فينا مُلصق، فدخل على أمه وقد وجم لذلك فقالت له: يا بني صدق، إنك لست منهم، ولكن رهطك خير من رهطه، وآباؤك أشرف من آبائه، وإنما أنت قرشي، وأخوك وبنو عمك بمكة، وهم جيران بيت الله الحرام، فدخل في سيارة حتى أتى مكة، والمعروف أن اسمه: زيد، وإنما كان قصيًّا أي بعيدًا عن بلده فسمِّيَ: قصيًّا.

ص -110-      وبأمر مكة من خزاعة، فعند ذلك طلب قُصيّ ما طلب1، ولم نسمع ذلك من غيرهم، فالله أعلم أي ذلك كان.
ما كان يليه الغوث بن مر من الِإجازة للناس بالحج:
وكان الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده، وكان يقال له ولولده: صُوفة2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر المؤرخون أسبابًا لانتقال ولاية البيت إلى قصي وهو أن حليلا كان يعطى مفاتيح البيت ابنته حبى، حين كبر وضعف، فكانت بيدها، وكان قصي ربما أخذها في بعض الأحيان، ففتح البيت للناس وأغلقه، ولما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصي، قأبت خزاعة أن تمضي ذلك لقصي، فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين حزاعة. وأرسل إلى رزاح أخيه يستنجد عليهم.
ويذكر أيضًا أن أبا غبشان من خزاعة، واسمه: سليم -وكانت له ولاية الكعبة- باع مفاتيح الكعبة من قصي بزق خمر، فقيل: أخسر من صفقة أبي غبشان. ذكره المسعودي والأصبهاني في الأمثال.
وكان الأصل في انتقال ولاية البيت من ولد مضر إلى خزاعة أن الحرم حين ضاق عن ولد نزار، وبغت فيه أياد أخرجتهم بنو مضر بن نزار، وأجلوهم عن مكة، فعمدوا في الليل إلى الحجر الأسود، فاقتلعوه، واحتملوه على بعير فرزح البعير به، وسقط إلى الأرض، وجعلوه على آخر، فرزح أيضًا، وعلى الثالث ففعل مثل ذلك، فلما رأوا ذلك دفنوه وذهبوا فلما أصبح أهل مكة، ولم يروه، وقعوا في كرب عظيم، وكانت امرأة من خزاعة قد بصرت به حين دفن، فأعلمت قومها بذلك، فحينئذ أخذت خزاعة على ولاة البيت أن يتخلوا لهم عن ولاية البيت، ويدلوهم على الحجر، ففعلوا ذلك، فمن هنالك صارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن صيرها أبو غبشان إلى عبد مناف، هذا معنى قول الزبير. "عن الروض الأنف".
2 قال أبو عبيدة: وصوفة وصوفات يقال لكل من ولي من البيت شيئًا من غير أهله. أو قام بشيء من خدمة البيت، أو بشيء من أمر المناسك يقال لهم: صوفة وصوفات. قال أبو عبيدة: لأنه بمنزلة الصوف، فيهم القصير والطويل والأسود والأحمر ليسوا من قبيلة واحدة.
وذكر أبو عبد الله أنه حدثه أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي =

ص -111-      وإنما وَليَ ذلك الغوثُ بن مُر؛ لأن أمه كانت امرأة من جُرهم، وكانت لا تلد، فنذرت للّه إن هي ولدت رجلا: أن تَصَّدَّق به على الكعبة عبدًا لها يخدمها، ويقوم عليها، فولدت، فكان يقوم على الكعبة الدهر الأول مع أخواله من جُرهم، فوَلىَ الإجازة بالناس من عرفة؛ لمكانه الذي كان به من الكعبة، وولدُه من بعده حتى انقرضوا. فقال مُرُّ بن أدّ لوفاء نذر أمه:
إني جعلتُ ربِّ من بَنيَّهْ    ربيطةً بمكةَ العليَّهْ
فبارِكنَّ لي بها أليَّه          واجعلْه لي من صالح البريَّهْ
وكان الغوْثُ بن مُرّ -فيما زعموا- إذا دفع بالناس قال:
لَاهُمَّ إني تابع تَبَاعهْ     إن كان إثم فعلى قُضَاعَهْ1
صوفة ورمي بالجمار: قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال:
كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز بهم إذا نَفَروا من منى فإذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صُوفة يرمى للناس، لا يرمون حتى يرمي. فكان ذوو الحاجات المتعجِّلون يأتونه، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي معك، فيقول لا والله، حتى تميل الشمس، فيظل ذوُو الحاجات الذين يحبون التعجلَ يرمونه بالحجارة، ويستعجلونه بذلك، ويقولون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال: إنما سمي الغوث بن مرة: صوفة؛ لأنه كان لا يعيش لأمه ولد، فنذرت: لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة، ولتجعلنه -ربيطًا للكعبة، ففعلت فقيل له: صوفة، ولولده من بعده، وهو الربيط.
وحدث إبراهيم بن المنذر عن عمر بن عبد العزيز بن عمران، قال: أخبرنى عقال بن شبة قال: قالت أم تميم بن مر -وولدت نسوة- فقالت: للّه علي لئن ولدت غلامًا لأعبدنه للبيت، فولدت الغوث، وهو أكبر ولد مر، فلما ربطته عند البيت أصابه الحر، فمرت وقد سقط وذوى واسترخى فقالت: ما صار ابني إلا صوفة، فسُمي صوفة.
2 سبب قوله: إن كان إثما فعلى قضاعة. إنما خص قضاعة بهذا؛ لأن منهم محلين يستحلون الأشهر الحرم، كما كانت خثعم وطيّئ تفعل، وكذلك كانت النسأة تقول إذا حرمت صفرًا أو غيره من الأشهر بدلا من الشهر الحرام يقول قائلهم: قد حرمت عليكم الدماء إلا دماء المُحِلين.

ص -112-      له: ويلك! قمْ فارمِ، فيأبَى عليهم، حتى إذا مالت الشمس، قام فرمى ورمى الناس معه.
قال ابن إسحاق: فإذا فرغوا من رمْي الجمار، وأرادوا النَّفْر من مِنى، أخذت صوفة بجانبي العقبة، فحبسوا الناسَ وقالوا: أجيزي صوفة، فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا، فإذا نفرت صوفة ومضت، على سبيل الناس، فانطلقوا بعدَهم، فكانوا كذلك، حتى انقرضوا، فورثهم ذلك من بعدهم بالقُعْدد1 بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجْنَة.
نسب صفوان بن جناب: قال ابن هشام: صفوان بن جُناب بن شِجْنَة بن عُطارد بن عَوْف بن كعب بن سعد بن زيد مُناة بن تميم.
صفوان وبنوه وإجازتهم للناس بالحج: قال ابن إسحاق: وكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة ثم بنوه من بعدِه، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام: كَرِب بن صفوان. وقال أوْس بن تميم بن مِغراء السعديُّ:
لا يبرح الناسُ ما حجوا مُعَرَّفَهم                   حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا
قال ابن هشام: هذا البيت في قصيدة لأوس بن مِغْراء.
ما كانت عليه عَدْوان من إفاضة المزدلفة:
ذو الِإصبع يذكر هذه الإفاضة: وأما قول ذي الإصْبع العَدْواني، واسمه حُرْثان بن عَمرو، وإنما سُمي ذا الإصبع؛ لأنه كان له إصبع فقطعها:
عذيرَ الحي من عَدْوا             نَ كانوا حَيَّةَ الأرض2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي بالقرابة، وذلك أن سعدًا هو: ابن زيد مناة بن تميم بن عامر.
2 يقال فلان حية الأرض، وحية الوادي؛ إذا كان مهيبًا يُذعر منه، كما قيل:
يا مُحكم بن طفيل قد أتيح لكم     للّه در أبيكم حية الوادي
يعني بحية الوادى: خالد بن الوليد رضي الله عنه.
وعذير الحي من عدوان. نصب عذيرًا على الفعل المتروك إظهاره، كأنه يقول: هاتوا عذيره، أى: من يعذره، فيكون العذير بمعنى: العاذر، ويكون أيضًا بمعنى: العذر مصدرًا كالحديث ونحوه.

ص -113-                        بغَى بعضُهم ظلمًا فلم يُرْعِ على بعضِ
ومنهم كانت السادا                تُ والموفون بالقَرْضِ
ومنهم من يجيزُ الناسَ            بالسُّنةِ والفَرضِ
ومنهم حَكْمٌ يقضي                 فلا يُنقَضُ ما يَقْضِي
أبو سيارة يفيض بالناس: وهذه الأبيات في قصيدة له؛ فلأن الِإفاضة من المُزدلفَة كانت في عَدوانس -فيما حدثني زياد بن عبد الله البكَّائي عن محمد بن إسحاق- يتوارثون ذلك كابرًا عن كابر، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيَّارة، عُمَيْلة بن الأعزَل1، ففيه يقول شاعر من العرب:
نحن دفعنا عن أبي سياره    وعن مواليه بني فزارهْ
حتى إجاز سالما حِمارهْ       مستقبِل القبلة يدعو جارَهْ
قال: وكان أبو سيارة يدفع بالناس على أتان له، فلذلك يقول: "سالما حماره"2.
أمر عامر بن ظَرِب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان
ابن الظرب حاكم العرب: قال ابن إسحاق: وقوله: "حكم يقضي" يعني عامر بن ظَرِب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان العدواني. وكانت العرب لا يكون بينها نائرة3،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقال غير ابن إسحاق: اسمه: العاصي. قاله الخطابي: واسم الأعزل: خالد، ذكره الأصبهاني.
2 كانت له أتان عوراء، خطامها ليف، يقال: إنه دفع عليها في الموقف أربعين سنة. ويعني الراجز في قوله:
حتى يجيز سالِمًا حماره
وكانت تلك الأتان سوداء؛ ولذلك يقول:
لاهُم مالي في الحمار الأسود                  أصبحتُ بين العالمين أُحْسد
فَقِ أبا سيارة المُحَسَّد          من شر كل حاسد إذا يحسد
3 النائرة: الكائنة الشنيعة بين القوم.
ص -114-      ولا عُضْلَة في قضاء إلا أسندوا ذلك إليه، ثم رَضُوا بما قضى فيه، فاختصم إليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه، في رجل خُنْثى، له ما للرجل، وله ما للمرأة، فقالوا: أتجعله رجلًا أو امرأة؟ ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه. فقال: حتى أنظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب! فاستأخروا عنه؛ فبات ليلته ساهرًا يقلِّب أمره، وينظر في شأنه، لا يتوجه له منه وجه وكانت له جارية يقال لها: سُخَيْلة ترعى عليه غنمه، وكان يعاتبها إذا سرحت فيقول: صبَّحت والله يا سُخَيل! وإذا أراحت عليه، قال: مسيت والله يا سُخَيل! وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى يسبقها بعض الناس، وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس. فلما رأت سهره وقلقه، وقلة قراره على فراشه قالت: ما لك، لا أبا لك! ما عراك في ليلتك هذه! قال: ويلك! دعيني، أمر ليس من شأنك، ثم عادت له بمثل قولها، فقال في نفسه: عسى أن تأتيَ مما أنا فيه بفرج، فقال: ويحَكِ! اختُصم إليَّ في ميراث خنثى، أأجعله رجلا أو امرأة؟ فوالله ما أدري ما أصنع، وما يتوجَّه لي فيه وجه، قال: فقالت: سبحان الله! لا أبا لك! أتبع القضاءَ المَبالَ، أقعدْه، فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة؛ فهي امرأة. قال: مسِّي سخيل بعدها أو صَبِّحي، فرّجْتِها والله! ثم خرج على الناس حين أصبح، فقضى بالذي أشارت عليه به1.
غلب قصي بن كلاب على أمر مكة وجمعه أمر قريش ومعونة قضاعة له
قصي يتغلب على صوفة: قال ابن إسحاق: فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة كما كانت تفعل، وقد عرفت ذلك لها العرب وهو دِين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم. فأتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: لنحن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذكر عامر بن الظرب وحكمه في الخنثى، وما أفتته به جاريته سُخَيلة، وهو حكم معمول في الشرع، وهو من باب الاستدلال بالأمارات والعلامات، وله أصل في الشريعة، قال الله سبحانه:
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] وجه الدلالة على كذب في الدم أن القميص المُدَمَّى لم يكن فيه خرق ولا أثر لأنياب الذئب، وكذلك قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] الآية، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في المولود: "إن جاءت به أورق جعدًا جُمَالِيًا فهو للذي رُميت به".

ص -115-      أولى بهذا منكم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالا شديدًا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قُصي على ما كان بأيديهم من ذلك.
قصي يقاتل خزاعة وبني بكر: وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة. فلما انحازوا عنه باداهم، وأجمع لحربهم، وخرجت له خُزاعة وبنو بكر فالتَقَوْا، فاقتتلوا قتالا شديدًا، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعًا، ثم إنهم تداعَوْا إلى الصلح، وإلى أن يحكِّموا بينهم رجلًا من العرب؛ فحكَّموا يَعْمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقضى بينهم بأن قُصيًّا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر: موضوع يَشْدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة، ففيه الدية مؤدَّاة، وأن يُخلَّى بين قصي وبين الكعبة ومكة.
فسُمي يعمر بن عوف يومئذ: الشدَّاخ1 لِمَا شَدَخ من الدماء ووضع منها.
قصي يتولى أمر مكة: قال ابن إسحاق: فولي قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه في منازلهم إلى مكة وتملك على قومه وأهل مكة فملَّكوه، إلا أنه قد أقر للعرب ما كانوا عليه وذلك أنه كان يراه دِينًا في نفسه لا ينبغي تغييره، فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومُرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام؛ فهدم الله به ذلك كله. فكان قُصي أول بني كعب بن لؤيّ أصاب مُلكا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرِّفادة، والندْوَة2، واللواء، فحاز شرف مكة كلَّه، وقطع مكة رباعًا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها ويزعم الناس أن قريشًا هابوا قطع شجر الحرم في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعمر الشداخ بن عوف: وأنه سمي بالشداخ لما شدخ من دماء خزاعة. ويعمر الشداخ هو جد بني دأب الذين أخذ عنهم كثير من علم الأخبار والأنساب وهم: عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب، وأبوه: يزيد. وحذيفة بن دأب، ودأب هو: ابن كرز بن أحمر من بني يعمر بن عوف الذي شدخ دماء خزاعة، أي: أبطلها، وأصل الشدخ: الكسر والفضخ، ومنه العَزة الشادخة، شبهت بالضربة الواسعة.
2 وهي الدار التي كانوا يجتمعون فيها للتشاور، ولفظها مأخوذ من لفظ النديِّ والنادي والمنتدى: وهو مجلس القوم الذي يندون حوله، أي: يذهبون قريبًا منه، ثم يرجعون =

ص -116-      منازلهم، فقطعها قصي بيده وأعوانه1 فسمته قريش: مُجَمِّعًا لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تُنكح امرأة، ولا يتزوج رجل من قريش، وما يتشاورون في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواءً لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقده لهم بعض ولده، وما تدَّرِع جارية إذا بلغت أن تَدَّرِع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تَدَّرِعُه، ثم يُنطَلق بها إلى أهلها. فكان أمره في قومه من قريش في حياته، ومن بعد موته، كالدِّين المتبع لا يُعمل بغيره. واتخذ لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورَها.
قال ابن هشام: وقال الشاعر:
قُصَي لعمري كان يُدعَى مُجمعًا                    به جمع الله القبائلَ من فِهْر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إليه، والتندية في الخيل: أن تصرف عن الورد إلى المرعى قرييًا، ثم تعاد إلى الشرب، وهو المندّى، وهذه الدار تصيرت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم، وذلك في زمن معاوية، فلامه معاوية في ذلك، وقال: أبعتَ مكرمة آبائك وشرفهم؟ فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى. واللَه: لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف درهم، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون؟ ذكر خبر حكيم هذا: الدارقطني في أسماء رجال الموطأ له.
1 قال الواقدي. الأصح في هذا الخبر أن قريشًا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي: كيف نصنع في شجر الحرم؟ فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة فى ذلك، فكان أحدهم يجوف بالبنيان حول الشجرة، حين تكون في منزله. قال: فأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبد الله بن الزبير حتى ابتنى دورًا بقعيقعان؛ لكنه جعل دية كل شجرة: بقرة وكذاك يروى عن عمر -رضي الله عنه- أنه قطع دوحة كانت فى دار أسد بن عبد العزى، كانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة، وذلك قبل أن يوسع المسجد، فقطعها عمر -رضي الله عنه- ووداها ببقرة، ومذهب مالك -رحمه الله- فى ذلك: ألا دية في شجر الحرم. قال: ولم يبلغني فى ذلك شيء. وقد أساء من فعل ذلك، وأما الشافعي -رحمه الله- فقال إن كانت الشجرة التي فى الحرم مما يغرسها الناس، ويستنبتونها، فلا فدية على من قطع شيئًا منها، وإن كان من غيرها، ففيه القيمة بالغة ما بلغت.

ص -117-      قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن راشد عن أبيه، قال: سمعت السائب بن حَبَّاب صاحب المقصورة يُحدِّث، أنه سمع رجلا يُحدِّث عمرَ بن الخطاب -وهو خليفة- حديث قصي بن كلاب، وما جَمَع من أمر قومه وإخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة، فلم يرد ذلك عليه ولم يُنكره.
شعر رزاح بن ربيعة في هذه القصة: قال ابن إسحاق: فلما فرغ قُصيّ من حربه، انصرف أخوه رِزَاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه من قومه، وقال رِزاح في إجابته قُصيًّا:
لمَّا أتى من قصي رسول      فقال الرسولُ: أجيبوا الخليلَا
نهضنا إليه نقودُ الجيادَ         ونطرح عنَّا المَلولَ الثقيلاَ
نسير بها الليلَ حتى الصباح                    ونكمي النهارَ؛ لئلا تزولا1
فهن سراعٌ كَورْد القَطا          يُجِبْن بنا من قُصيّ رسولَا
جمعنا من السرِّ من أشمذَيْن                  ومن كلِّ حي جمعنا قبيلَا2
فيا لكِ حُلْبة ما ليلة             تزيد على الألف سَيْبًا رَسيلَا3
فلما مررنَ على عَسْجَر        وأسْهلن من مُستناخ سبيلَا4
وجاوزْنَ بالركن من وَرِقان      وجاوزن بالعَرْج حَيًّا حُلولَا5
مررْن على الحَيْل ما ذقنه     وعالجنَ من مَرِّ ليلًا طويلَا6

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نكمي النهار، أي: نكمن ونستتر، والكَمِيُّ من الفرسان، الذي تَكَمى بالحديد. وقيل: الذي يكمِي شجاعته، أي: يسترها، حتى يظهرها عند الوغى.
2 الأشمذان: جبلان، ويقال اسم قبيلتين.
3 الحُلبة: الجماعة من الخيل. والسيب: المشي السريع. والرسيل: الذي فيه تمهل: أي تمشي سراعًا ولكن في رفق كما تزحف الحية.
4 عسجر: اسم موضع.
5 العرج: واد ناحية الطائف. وفيه جبل من أعظم الجبال: وذكروا أن فيه أوشالًا وعيونًا عذابًا، وكان سكانه: بنو أوس بن مزينة.
6 الحَيْل: هو الماء المستنقع فى بطن واد، ووجدت في غير أصل الكتاب روايتين، إحداهما: مررن على الحِلِّ والأخرى: مررن على الحِلى، فأما الحل: فجمع حلة، وهي بقلة شاكة. ذكره ابن دريد في الجمهرة. وأما الحلى، فيقال: إنه ثمر الْقُلقُلان وهو نبت.

ص -118-                   تَدنى من العُوذ أفلاءَها            إرادةَ أن يسترقْن الصهيلَا1
فلما انتهينا إلى مكةَ          أبحنا الرجالَ قبيلًا قبيلَا
نعاورُهم ثَمَّ حدِّ السيوفِ     وفي كلِّ أوْبٍ خَلسْنا العقولَا
نُخَبِّزهم بصلابِ النسو        رِ خَبْزَ القويِّ العزيزِ الذليلا2
قتلنا خزاعةَ في دارِها        وبكرًا قتلنا وجيلًا فجيلَا
نفيناهمُ من بلادِ المليك     كما لا يَحِلُّون أرضًا سُهولا
فأصبح سبيُهم في الحديدِ                     ومن كلِّ حي شَفَيْنا الغليلا
شعر ثعلبة القضاعي في هذه القصة: وقال ثعلبة بن عبد الله بن ذُبيان بن الحارث بن سعد بن هُذَيْم القُضاعي في ذلك من أمر قُصي حين دعاهم فأجابوه:
جلبنا الخيلَ مُضْمرةً تَغالَى                   من الأعرافِ أعراف الجِنابِ3
إلى غَوْرَىْ تِهامةَ، فالتقينا                    من الفَيْفاءِ في قاعٍ يبابِ
فأما صوفةُ الخنثَى، فخَلَّوْا                     منازلَهم محاذرَة الضِّرابِ
وقام بنو علي إذ رأونا        إلى الأسياف كالإبل الطرابِ4
شعر قصي: وقال قصى:
أنا ابن العاصمين بني لؤيّ                    بمكةَ منزلي، وبها رَبيتُ
إلى البَطحاءِ قد علمت معد                   ومَرْوتُها رضيتُ بها رضيتُ
فلستُ لغالبٍ إن لم تأثَّل    بها أولادُ قَيْذر، والنبيتُ
رِزاحٌ ناصري، وبه أُسامي    فلستُ..أخافُ ضيْمًا ما حَييتُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العُوذ: الفرس التي لها أولاد. والأفلاء: جمع فلو المهر العظيم.
2 نخَبزهم: أي نسوقهم سوقًا شديدًا.
3 تغالى: ترتفع في سيرها. والأعراف: الرمل المرتفع. والجِناب: بكسر الجيم، هو موضع من بلاد قضاعة.
4 بنو علي، وهم بنو كنانة، وإنما سموا ببني علي؛ لأن عبد مناة بن كنانة كان ربيبا لعليِّ بن مازن من الأزْد جد سطيح الكاهن، فقيل لبني كنانة: بنو علي، وأحسبه أراد فى هذا البيت بني بكر بن عبد مناة؛ لأنهم قاموا مع خزاعة.
ص -119-      فلما استقر رِزاح بن ربيعة في بلاده، نشره الله ونشر حُنًّا، فهما قبيلا عُذْرَة1 اليوم. ومد كان بين رزاح بن ربيعة، حين قدم بلاده، وبين نَهْد بن زيد وحَوْتَكة بن أسْلُم2، وهما بطنان من قُضاعة شيء، فأخافهم حتى لحقوا باليمن، وأجْلَوْا من بلاد قُضاعة، فهم اليوم باليمن، فقال قُصي بن كلاب، وكان يحب قُضاعة ونماءها واجتماعها ببلادها، لما بينه وبين رزاح من الرحم، ولبلائهم عنده إذا أجابوه إذ دعاهم إلى نصرته، وكره ما صنع بهم رِزاح:
ألا من مُبْلغ عني رِزاحًا       فإني قد لَحَيتك في اثنتين
لحيتُك في بني نَهْد بن زيد                    كما فرقْتَ بينهُمُ وبيْني
وحَوْتكة بنُ أسلمَ إن قومًا     عَنَوْهم بالمَساءة قد عَنَوْني
قال ابن هشام: وتروى هذه الأبيات لزُهير بن جَناب الكلبي.
قصي يفضل عبد الدار على سائر ولده: قال ابن إسحاق: فلما كبر قصي ورق عظمه، وكان عبد الدار بِكْرَه، وكان عبد مناف قد شَرُف في زمان أبيه، وذهب كل مذهَب، وعبد العزى وعبد. قال قصي لعبد الدار: أما والله يا بُنَيَّ لألحقنَّك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك: لا يدخل رجل منهم الكعبة، حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يُعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك، ولا يشرب أحد بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعامًا إلا من طعامك، ولا تقطع قريشٌ أمرًا من أمورها إلا في دارك، فأعطاه دارَه دارَ الندوة، التى لا تُقضي قريش أمرًا من أمورها إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قضاعة: عُذْرَتان: عذرة بن رُفَيدة، وهم من بني كلب بن وبرة. وعُذرة بن سعد بن سوُدِ بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وأسلُم هذا هو بضم اللام من ولد حن بن ربيعة أخي رزاح بن ربيعة.
2 وليس في العرب أسلم بضم اللام إلا ثلاثة اثنان منهم فى قضاعة، وهما: أسلُم بن الحاف هذا، وأسلُم بن تَدُول بن تَيم اللات بن رُفَيدَة بن ثور بن كلب، والثالث فى عك: أسلُم بن القياتة بن غابن بن الشاهد بن عك، وما عدا هؤلاء فأسلَم بفتح اللام، ذكره ابن حبيب في المؤتلف والمختلف. انظر: "الروض الأنف بتحقيقنا ج1 ص153".

ص -120-      الرِّفادة: وكانت الرِّفادة خَرْجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قُصي بن كلاب، فيصنع به طعامًا للحاج، فيأكله من لم يكن له سعةٌ ولا زاد، وذلك أن قُصيًّا فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيرانُ الله، وأهل بيته، وأهل الحرم، وإن الحاج ضَيْفُ الله وزوَّار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج، حتى يَصْدُروا عنكم، فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خَرْجًا، فيدفعونه إليه، فيصنعه طعامًا للناس أيام مِنى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا، فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج.
قال ابن إسحاق: حدثني بهذا من أمر قُصَي بن كلاب، وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه مما كان بيده: أبو إسحاق بن يسار، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم، قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بني عبد الدار يقال له: نُبَيْه بن وهب بن عامر بن عِكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
قال الحسن: فجعل إليه قُصي كل ما كان بيده من أمر قومه، وكان قُصي لا يُخَالفَ، ولا يُردّ عليه شيء صنعه.
ذكر ما جرى من اختلاف قريش بعد قُصي وحلف المطيبين:
النزاع بين بني عبد الدار وبني أعمامهم: قال ابن إسحاق:
ثم إن قصي بن كلاب هلك، فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده. فاختطوا مكة رباعًا -بعد الذي كان قطع لقومه بها فكانوا يقطعونها في قومهم، وفي غيرهم: من حلفائهم ويبيعونها. فأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع، ثم إن بني عبد مناف بن قصي: عبد شمس وهاشِمًا والمطلب ونوفلا، أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عبد الدار بن قُصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار، من الحجابة واللواء والسقاية والرِّفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم؛

ص -122-      يَرَوْن أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم، وكانت طائفة مع بني عبد الدار، يَرَوْن ألا يُنزع منهم ما كان قصي جعل إليهم.
فكان صاحب أمر بني عبد مناف: عبد شمس بن عبد مناف، وذلك أنه كان أسن بني عبد مناف.
وكان صاحب أمر بني عبد الدار: عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
حلفاء بني عبد الدار وحلفاء بني أعمامهم: فكان بنو أسد بن عبد العُزَّى بن قصي وبنو زُهرة بن كلاب، وبنو تَيْم بن مُرة بن كعب، وبنو الحارث بن فِهر بن مالك بن النضر، مع بني عبد مناف.
وكان بنو مخزوم بن يَقَظَة بن مرة، وبنو سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب، وبنو جمَح بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، مع بني عبد الدار، وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فِهر، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.
فعقد كل قوم على أمرهم حلفًا مؤكدًا على أن لا يتخاذلوا، ولا يسْلم بعضهم بعضًا ما بلَّ بحر صوفةً.
فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا، فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف1، أخرجتها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القومُ أيديَهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدًا على أنفسهم فسُمُّوا المطيَّبين.
وتعاقد بنو عبد الدار، وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفًا مؤكدًا، على أن لا يتخاذلوا، ولا يُسلم بعضُهم بعضًا، فسُموا الأحلاف.
تقسيم القبائل في هذه الحرب: ثم سُوند2 بين القبائل، ولُزَّ3 بعضُها ببعض فعُبيّتَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد سماها الزبير في موضعين من كتابه، فقال: هي أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوأمة أبيه.
2 سوند: من السناد، وهى المقابلة في الحرب بين كل فريق، وما يليه من عدوه، ومنه أخذ سناد الشعر، وهو أن يتقابل المصراعان من البيت، فيكون قبل حرف الروي حرف مدّ ولين، ويكون فى آخر البيت الثاني قبل حرف الروي حرف لين، وهى ياء أو واو مفتوح ما قبلها.
3 لُزَّ: شدُ.

ص -123-      جُدْعَان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة بن كعب بن لؤي، لشرفه وسنه، فكان حلفُهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزُهرة بن كلاب، وتَيْم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على مَن ظَلَمَهُ حتى تُردَّ عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفُضول.
حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عَوْف الزُّهرى يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة.
وكان حلف الفضول أكرم حلف سُمع به، وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه: الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلًا من زُبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل، وكان ذا قدر بمكة وشرف، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزومًا وجُمَح وسَهْمًا وعَدِيّ بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاصي بن وائل، فلما رأى الزبيدي الشر، أوفى على أبي قُبَيْس -جبل بمكة- عند طلوع الشمس، وقريش فى أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فِهر لمظلوم بضاعته       ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومُحرم أشعث لم يقض عمرته                   يا لَلرجال وبين الحِجر والحجَر
إن الحرام لمن تمَّت كرامته     ولا حرام لثوب الفاجر الغُدرِ
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا متبرك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتَيم بن مرة في دار ابن جُدعان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في ذى القعدة في شهر حرام قيامًا، فتعاقدوا، وتعاهدوا بالله: ليكونُن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه ما بلَّ بحر صوفة، وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف؛ حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاصي بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
ص -124-      "لقد شهدتُ في دار عبدِ اللهِ بنِ جُدْعان1 حلفًا، ما أحب أن لي به حُمْر النَّعَم، ولو أدعَى به في الإسلام لأجبتُ".
الحسين يهدد الوليد بالدعوة إلى إحياء الحلف: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيدُ بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليْثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيمي حدثه: أنه كان بين الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان -والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمَّره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان- منازعة في مال كان بينهما بذي المرْوَة، فكان الوليدُ تحامل على الحسين في حقّه -لسلطانه- فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم لأدعونَّ بحلف الفُضول قال: فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد حين قال الحسين -رضي الله عنه- ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذنَّ سيفي، ثم لأقومن معه، حتى يُنصَف من حقه أو نموت جميعًا قال: فبلغت المسْوَر بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثلَ ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عُبَيد الله التيمي، فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رَضِيَ.
خروج بني عبد شمس وبني نوفل من الحلف: قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيمي قال: قدم محمد بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعبد الله بن جُدعان هذا تيمي هو: ابن جُدعان بن عمر بن كعب بن سعد بن تَنم، يكنى: أبا زُهير ابن عم عائشة -رضي الله عنها- ولذلك قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن ابن جُدعان كان يسم الطعام، ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال:
"لا إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" أخرجه مسلم.
قال ابن قتيبة: وكانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير، وسقط فيها صبي، فغرق فيها ومدحه أمية بن أبي الصلت فقال:
له داع بمكة مُشمَعِل               وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشيزَى عليها       لُباب البر يلبك بالشهاد

ص -125-      جُبَيْر بن مُطْعِم بن عَدي بن نَوْفل بن عبد مناف -وكان محمد بن جُبَيْر أعلم قريش- فدخل على عبد الملك بن مروان بن الحكم حين قُتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك فلما دخل عليه قال له: يا أبا سعيد، ألم نكن نحن وأنتم، يعني بني عبد شمس بن عبد مناف وبني نوفل بن عبد مناف في حلف الفُضول؟ قال: أنت أعلم، قال عبد الملك: لتخبرني يا أبا سعيد بالحقِّ من ذلك، فقال: لا والله لقد خرجنا نحن وأنتم منه، قال: صدقْتَ.
هاشم يتولى الرفادة والسقاية: قال ابن إسحاق: فوليَ الرفادة والسقاية: هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلًا سفَّارًا قَلَّما يقيم بمكة، وكان مُقِلًا ذا ولد، وكان هاشم مُوسرًا فكان -فيما يزعمون- إذا حضر الحج، قام في قريش فقال: "يا معشر قريش، إنكم جيرانُ الله، وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوارُ الله وحُجاج بيته، وهم ضَيْف الله، وأحق الضيف بالكرامة: ضيفُه، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعامًا أيامَهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها؛ فإنه والله لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه" فيخرجون لذلك خَرْجًا من أموالهم، كل امرئ بقدر ما عنده، فيُصنع به للحجاج طعامٌ، حتى يَصْدُروا منها.
أفضال هاشم على قومه: وكان هاشم -فيما يزعمون- أولَ من سَنَّ الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف، وأول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وإنما كان اسمه: عَمرًا، فما سُمي هاشمًا إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه1، فقال شاعر من قريش أو من العرب2:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سمي هاشمًا لهشمه الثريد لقومه، والمعروف في اللغة أن يقال: ثردت الخبز، فهو ثريد ومثرود، فلم يُسم: ثاردًا وسمي هاشمًا، وكان القياس -كما لا يسمى الثريد هشيمًا، بل يقال فيه: ثريد ومثرود، أن يقال في اسم الفاعل أيضًا كذلك، ولكن سبب هذه التسمية يحتاج إلى زيادة بيان. ذكر أصحاب الأخبار أن هاشمًا كان يستعين على إطعام الحاج بقريش، فيرفدونه بأموالهم، ويعينونه، ثم جاءت أزمة شديدة فكره أن يكلف قريشًا أمر الرفادة، فاحتمل إلى الشام بجميع ماله، واشترى به أجمع كعكًا ودقيقًا، ثم أتى الموسم فهشم ذلك الكعك كله هشيمًا، ودقه دقًا ثم صنع للحجاج طعامًا شبه الثريد، فبذلك سمي هاشِمًا؛ لأن الكعك اليابس لا يثرد، وإنما يهشم هشمًا.
2 هو ابن الزَّبَعْرى وسبب هذا المدح، وهو سهمي -أي من بني سعد بن سهم- لبني عبد مناف -فيما ذكره ابن إسحاق في رواية يونس- أنه كان قد هجا قصيًّا بشعر كتبه في أستار الكعبة، أوله:
ألهى قصيًّا عن المجد الأساطير              ومشية مثل ما تمشى الشقارير
فاستعدوا عليه بني سهم، فأسلموه إليهم، فضربوه وحلقوا شعره، وربطوه إلى صخرة بالحجون، فاستغاث قومه فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيًّا ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف منهم وأكرموه فمدحهم بهذا الشعر، وبأشعار كثيرة.

ص -126-                       عَمْرو الذي هشم الثريدَ لقومِه         قوم بمكة مُسنتين عجاف
سُنَّت إليه الرحلتان كلاهما      سفرُ الشتاء، ورحلةُ الإيلاف
قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز:
قوم بمكة مسنتين عجاف
المطلب يلي الرفادة والسقاية: قال ابن إسحاق: ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرًا، فولي السقاية والرِّفادة من بعده المطلبُ بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم، وكان ذا شرف في قومه وفضل، وكانت قريش إنما تسميه: الفَيْضَ؛ لسماحته وفضله.
زواج هاشم بن عبد مناف: وكان هاشم بن عبد مناف قَدِم المدينة، فتزوج سَلْمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار1، وكانت قبله عند أحَيْحة بن الجُلاح بن الحَرِيش2.
قال ابن هشام: ويقال: الحريس بن جَحْجبيّ بن كُلْفة بن عَوْف بن عمرو بن عَوْف بن مالك بن الأوْس، فولدت له عمرو بن أحَيْحة، وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها، حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلًا فارقته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن أجل هذا النسب قال سيف بن ذي يزن أو ابنه معدي كرب بن سيف ملك اليمن لعبد المطلب حين وفد عليه في ركب من قريش: مرحبًا بابن أختنا؛ لأن سلمى من الخزرج، وهم من اليمن من سبأ، وسيف من حمير بن سبأ.
2 قال الدارقطني عن الزبير بن أبي بكر: إن كل ما في الأنصار فهو: حريس بالسين غير معجمة إلا هذا.
ص -127-      سبب تسمية عبد المطلب باسمه: فولدت لهاشم: عبد المطلب، فسمته شَيْبة، فتركه هاشم عندها حتى كان وَصيفًا1 أو فَوْق ذلك، ثم خرج إليه عمه المطلب؛ ليقبضه، فيُلحقه ببلده وقومه فقالت له سَلْمى: لستُ بمرسلته معك، فقال لها المطلب: إنى غير مُنصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغ، وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا؛ نلي كثيرًا من أمرهم؛ وقومه وبلده وعشيرته خير له من الإقامة في غيرهم، أو كما قال. وقال شَيْبة لعمه المطلب -فيما يزعمون- لست بمفارقها إلا أن تأذنَ لي، فأذنت له، ودفعته إليه، فاحتمله، فدخل به مكة مُرْدِفه معه على بعيره، فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه، فبها سُمي شَيْبة: عبد المطلب. فقال المطلب: ويحكم! إنما هو ابن أخي هاشم، قَدِمْتُ به من المدينة.
وفاة المطلب: ثم هلك المطلب برَدْمان من أرض اليمن، فقال رجل من العرب يبكيه:


قد ظمئ الحجيجُ بعدَ المطلب                  بعدَ الجفانِ والشراب المُنْثَغِبْ
ليت قريشًا بعده على نَصَبْ
مطرود يبكي المطلب وبني عبد مناف: وقال مطرود بن كعب الخزاعي، يبكي المطلب وبني عبد مناف جميعًا حين أتاه نعي نَوْفل بن عبد مناف، وكان نوفل آخرهم هُلكًا:
يا ليلة هَيَّجْتِ ليلاتي              إحدى لياليَّ القَسِيَّاتِ2
وما أقاسي من هموم، وما       عالجتُ من رُزْءِ المنيَّاتِ
إنما تذكرتُ أخي نوفلًا              ذكَّرني بالأوَّليَّاتِ
ذكرني بالأزْرِ الحمر والـ             ـأردية الصُّفر القشيباتِ
أربعةٌ كلهمُ سيد                     أبناءُ ساداتٍ لساداتِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوصيف: الغلام دون المراهقة.
2 القسيات: فعيلات من القسوة: أي: لا لين عندهن، ولا رأفة فيهن، ويجوز أن يكون عندهم من الدرهم القسي، وهو الزائف، وقد قيل في الدرهم القسي: إنه أعجمي معرب، وقيل: هو من القساوة؛ لأن الدرهم الطيب ألين من الزائف، والزائف أصلب منه. ونصب ليلة على التمييز.

ص -128-                    مَيْت برَدْمان ومَيْت بسلْـ        ـمانَ ومَيْت بين غَزَّاتِ1
ومَيْتٌ أسكن لحدًا لدى الـ     ـمَحْجوب شَرْقيّ البنياتِ2
أخلصهُمُ عبدُ منافِ فهم        من لومِ من لامَ بمَنْجاة
إن المُغيراتِ وأبناءَها            من خيرِ أحياءٍ وأمواتِ3
اسم عبد مناف وترتيب أولاده موتًا: وكان اسم عبد مناف: المغيرة، وكان أول بني عبد مناف هُلْكا: هاشم، بغزة من أرض الشام، ثم عبد شمس بمكة، ثم المطلب برَدْمان من أرض اليمن، ثم نوفلًا بسَلمان من ناحية العراق.
شعر آخر لمطرود: فقيل لمطرود -فيما يزعمون- لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل مما قلتَ كان أحسن، فقال: أنظروني لياليَ، فمكث أيامًا، ثم قال:
يا عين جُودي، وأذرِي الدمعَ وانهمري               وابكي على السر من كعبِ المُغيراتِ
يا عين، واسْحَنْفري بالدمعِ واحتفلى               وابكي خبيئةَ نفسي في الملماتِ4
وابكي على كلِّ فيَّاضٍ أخِي ثقة    ضَخْمِ الدَّسيعة وهَّاب الجَزيلاتِ5
محضُ الضَّريبةِ، عالي الهمِّ، مختلق                 جَلْدُ النَّجيزةِ، ناءٍ بالعظيماتِ6

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بغزات. هي: غزة، ولكنهم يجعلون لكل ناحية أو لكل ربض من البلدة اسم البلدة، فيقولون: غزات في غزة، ويقولون في بغداد: بغادين، كما قال بعض المحدثين:
شربنا في بغادين              على تلك الميادين
2 البنيات يعني: البنية، وهي: الكعبة، وهو نحو مما تقدم في غزات.
3 المغيرات: بنو المغيرة، وهو عبد مناف، كما قالوا: المناذرة في المنذر، والأشعرون فى بني أشعر بن أدَد.
4 اسحنفري: أديمي.
5 ضخم الدسيعة: كثير العطاء.
6 الضريبة: الطبيعة أي عظيم الخلق. ناء بالعظيمات. ليس قوله: ناء من النأي، فتكون الهمزة فيه عين الفعل، وإنما هو من ناء ينوء إذا نهض فالهمزة فيه لام الفعل، كما هو في جاء عند الخليل، فإنه عنده مقلوب، ووزنه: فاعل، والياء التي بعد الهمزة هي: عين الفعل في جاء يجيء.
ص -129-                       صعبُ البديهةِ لا نِكْس ولا وَكِلٍ          ماضي العزيمة، متلاف الكريماتِ1
صقر توسط من كعب إذا نُسبوا                   بُحبوحة المجدِ والشُّم الرفيعاتِ
ثم اندبي الفيضَ والفياضَ مُطَّلبا                 واستخرطي بعدَ فيْضاتٍ بجماتِ2
أمسي برَدْمان عنا اليومَ مغتربًا                   يا لهفَ نفسي عليه بينَ أموات
وابكي -لك الويلُ- إمَّا كنتِ باقي                  لعبدِ شمسٍ بشرْقيِّ الثنيَّاتِ
وهاشم في ضريحٍ وَسْط بَلْقَعَةٍ                    تَسْفي الرياح عليه بين غَزَّاتِ
ونَوْفل كان دونَ القومِ خالصتى                    أمسى بسَلمَان في رَمس بمَوْماةِ3
لم ألقَ مثلَهمُ عُجمًا ولا عربًا    إذا استقلَّت بهم أدمُ المطيات4
أمستْ ديارُهُم منهم معطَّلةً    وقد يكونون زَيْنا في السَّريات5
                      
أفناهمُ الدهرُ، أم كلَّتْ سيوفُهمُ                  أم كلَّ من عاش أزوادُ المنيَّات
أصبحتُ أرْضَى من الأقوام بعدَهمُ                بَسْطَ الوجوهِ وإلقاءَ التحياتِ
يا عين فابكي أبا الشُّعْثِ الشَّجيَّاتِ             يَبْكينَه حُسَّرًا مثلَ البليَّاتِ6

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النكس: الدنيء.
2 استخرطي: استكثري.
3 الموماة: القفر.
4 الأدم: الإبل الكرام.
5 السريات: جمع سرية. الجماعة من الجيش.
6 شدد ياء الشجيات، وإن كان أهل اللغة قد قالوا: ياء الشجي مخففة، وياء الخليّ مشددة، وقد اعترض ابن قتيبة على أبي تمام الطائي في قوله:
أيا ويح الشِّجيِّ من الخليِّ    وويح الدمع من إحدى بَليّ
واحتج بقول يعقوب في ذلك، فقال له الطائي: ومن أفصح عندك: ابن الجرمُقانية يعقوب، أم أبو الأسود الدؤلي حيث يقول:
ويل الشجي من الخلي فإنه                     وصب الفؤاد بشجوه مغموم
وبيت مطرود أقوى في الحجة من بيت أبي الأسود الدؤلي، لأنه جاهلي محكك، وأبو الأسود الدؤلي: أول من صنع النحو، فشعره قريب من التوليد، ولا يمتنع فى القياس أيضًا أن يقال: شَجيّ وشَجٍ؛ لأنه في معنى: حزن وحزين، وقد قيل: من شدد الياء، فهو فعيل بمعنى مفعول. والبليَّات مفردها البلية: الناقة التي كانت تُعقل عند قبر صاحبها إذا مات، حتى تموت جرعًا وعطشًا =
ص -130-                     يبكين أكرمَ من يمشي على قدمٍ       يُعْوِلْنَه بدموعٍ بعد عَبْرات
يبكين شخصًا طويلَ الباع ذا فَجَر               آبى الهضيمة، فَرَّاج الجليلاتِ1
يبكين عَمْرَو العُلا إذ حان مصرعُه               سَمح السَّجيةِ، بسَّام العشياتِ2
يبكينه مُستكيناتٍ على حَزنٍ                   يا طولَ ذلك من حزنٍ وعَوْلاتِ
يبكين لما جلاهنَّ الزمانُ له                     خُضْر الخدودِ كأمثالِ الحَمياتِ3
مُحتزمات على أوساطهن لما                   جرَّ الزمانُ مِنَ أحداث المصيبات
أبيت ليلي أراعي النجمَ من ألمٍ               أبكي، وتبكي معي شَجْوى بُنَياتي
ما في القُروم لهم عِدْل ولا خَطَرٌ                ولا لمن تركوا شَرْوَى بقياتِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ويقولون: إنه يحشر راكبًا عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلًا، وهذا على مذهب من كان منهم يقول بالبعث، وهم الأقل، ومنهم زهير فإنه قال:
يؤخر فيوضع في كتاب فيُدَّخَرْ                  ليوم الحساب، أو يُعجل فَيَنقَم
وقال الشاعر في البلية:
والبلايا رءوسها في الولايا    مانحات السَّموم حُر الخُدود
والولايا: هي البراذع، وكانوا يثقبون البرذعة، فيجعلونها في عنق البلية، وهى معقولة، حتى تموت، وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا:
لا تتركن أباك يحشر مرة                     عَدوا يخر على اليدين ويَنكبُ
1 الفجر: الجود، شُبه بانفجار الماء. ويروى ذا فَنَع، والفنع: كثرة المال، وقد قال أبو محجن الثقفي:
وقد أجود وما مالي بذي فنع                    وأكتم السر فيه ضَرْبةُ العنق
2 بَسَام العشيات: يعني: أنه يضحك للأضياف، ويبسم عند لقائهم، كما قال الآخر، وهو حاتم الطائي:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله                     ويَخصب عندي، والْمَحَل جديب
وما الخصب للأضياف أن يَكثُر القرى               ولكنما وجه الكريم خصيب
3 كأمثال الحميات. أي: محترقات الأكباد كالبقر أو الظباء التي حميت الماء وهي عاطشة فحمية بمعنى محمية. لكنها جاءت كذلك؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء كالرمية والضجة والطريدة.
ص -131-          أبناؤهم خيرُ أبناءٍ، وأنفُسهم        خيرُ النفوسِ لدى جَهْد الألِيَّاتِ
كم وهبوا من طِمِر سايح أرِنٍ         ومن طِمِرَّةِ نَهْبٍ في طِمَرَّاتِ1
ومن سيوفٍ من الهِنديِّ مُخْلَصَة     ومن رماح كأشْطانِ الركياتِ2
ومن توابع مما يُفْضِلون بها           عند المسائِل من بذْل العطيّاتِ
فلو حَسنتُ وأحصى الحاسبون معي                لم أقضِ أفعالَهم تلك الهنيَّاتِ
هم المدِلون إمَّا معشر فخروا         عندَ الفخارِ بأنسابٍ نَقِيَّاتِ
زَيْنُ البيوتِ التي حَلُّوا مساكنها     فأصبحت منهمُ وَحْشًا خَليَّاتِ
أقول والعينُ لا ترقا مدامعُها           لا يُبْعد الله أصحابَ الرزيَّاتِ
قال ابن هشام: الفَجر: العطاء. قال أبو خِرَاش الهُذَلي:
عَجَّف أضيافي جميلُ بنُ معمر                     بذي فَجَر تأوى إليه الأراملُ
قال ابن إسحاق: أبو الشُّعث الشجيات: هاشم بن عبد مناف.
عبد المطلب يلي السقاية والرفادة: قال: ثم وَلِيَ عبدُ المطلب ابن هاشم السقاية والرِّفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشَرُف في قومه شرفًا لم يبلغْه أحدٌ من آبائه، وأحبه قومُه وعَظُم خطره فيهم.
ذكر حفر زمزم وما جرى من الخلف فيها:
سبب حفر زمزم: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتي، فأمر بحفر زمزم.
قال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتُدئ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله بن زُرَيْر الغَافِقِي: أنه سمع علي بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه يحدِّث حديثَ زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، قال:
قال عبد المطلب: إني لنائم في الحِجْر إذا أتاني آتٍ فقال: احفر طيبة. قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر بَرَّة. قال: فقلت: وما بَرَّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان. الغد رجعت إلى مضجعي فنمت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطمر: الفرس الخفيف السريع.
2 أشطان الركيات: حبال الآبار.
ص -132-      فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. فقال: فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءنيِ فقال: احفر زَمْزَمَ. قال: قلت: وما زمزم؟ قال لا تَنْزِفُ أبدًا ولا تُذمُّ1، تسقي الحجيج الأعظم، وهى بين الفَرْث والدم، عند نُقْرة الغراب الأعْصم، عند قرية النمل2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا تنزف أبدًا: وهذا برهان عظيم؛ لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط، وقد وقع فيها حبشي فنزحت من أجله، فوجدوا ماءها يثور من ثلاثة أعين، أقواها وأكثرها ماء من ناحية الحجر الأسود، وذكر هذا الحديث الدارقطني. وقوله: ولا تُذم، فيه نظر، وليس هو على ما يبدو من ظاهر اللفظ من أنها لا يذمها أحد ولو كان من الذم لكان ماؤها أعذب المياه، ولتضلع منه كل من يشربه، وقد ورد في الحديث أنه لا يتضلع منها منافق، فماؤها إذا مذموم عندهم، وقد كان خالد بن عبد الله القسري أمير العراق يذمها، ويسميها: أم جعلان، واحتفر بئرًا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك، وجعل يفضلها على زمزم، ويحمل الناس على التبرك بها دون زمزم جرأة منه على الله -عز وجل- وقلة حياء منه، وهو الذي يعلن ويفصح بلعن علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- على المنبر، وإنما ذكرنا هذا، أنها قد ذمت، فقوله إذا: لا نذم، من قول العرب: بئر ذمة أي: قليلة الماء، فهو من أذممت البئر إذا وجدتها ذمة: كما تقول: أجبنتُ الرجل: إذا وجدته جبانًا، وأكذبته إذا وجدته كاذبًا، وفي التنزيل:
{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] وقد فسر أبو عبيد فى غريب الحديث قوله حتى مررنا ببئر ذمة. وأنشد:
مُخَيِّسَةُ خُزْرًا كأن عيونها    ذمام الركايا أنكرتها الموائح
فهذا أولى ما حمل عليه معنى قوله: ولا تذم؛ لأنه نفي مطلق، وخبر صادق –والله أعلم–
2 فسميت طيبة: لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وقيل له: احتفر برة، وهو اسم صادق عليها أيضًا؛ لأنها فاضت للأبرار، وغاضت عن الفجار، وقيل له: احفر المضنونة. وقال وهب بن منبه: سميت زمزم: المضنونة؛ لأنها ضُنَّ بها على غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق، وروى الدارقطني ما يقوي ذلك سندًا عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"من شرب من زمزم فليتضلع" فإنه فرق ما بيننا =

ص -133-      قريش تنازع عبد المطلب في زمزم: قال ابن إسحاق: فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صُدِّقَ، غدا بمعْوَله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فيها فلما بدا لعبد المطلب الطي، كَبَّر.
التحاكم في بئر زمزم: فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًّا فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خُصصتُ به دونَكم، وأعطيته من بينكم، فقالوا له: فأنصفنا، فإنا غيرُ تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجملوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمْكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وبين المنافقين، لا يستطيعون أن يتضلعوا منها، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وفى تسميتها بالمضنونة رواية أخرى، رواها الزبير: أن عبد المطلب قيل له: احفر المضنونة ضننت بها على الناس إلا عليك.
أما الفرث والدم، فإن ماءها طعام طُعم، وشفاء سُقم، وهي لما شُربت له، وقد تقوَت من مائها أبو ذر -رضي الله عنه- ثلاثين بين يوم وليلة، فسمن حتى تكسرت عكنه.
أما الغراب الأعصم، فقال العَتبي: الأعصم من الغربان الذي في جناحيه بياض فالغراب في التأويل: فاسق، وهو أسود، فدلت نقرته عند الكعبة على نقرة الأسود الحبشي بمعوله فى أساس الكعبة يهدمها في آخر الزمان، فكان نقر الغراب في ذلك المكان يؤذن بما يفعله الفاسق الأسود في آخر الزمان بقبلة الرحمن، وسُقيا أهل الإيمان، وذلك عندما يُرفع القران، وتحيا عبادة الأوثان، وفى الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليخربنَّ الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" وفى الصحيح أيضًا من صفته: أنه "أفجج" وهذا أيضًا ينظر إلى كون الغراب أعصم إذ الفجج تباعد في الرجلين، كما أن العَصَم اختلاف فيهما، والاختلاف: تباعد. راجع فتح الباري لابن حجر بتحقيقنا.
وأما قرية النمل؛ ففيها من المشاكلة أيضًا، والمناسبة: أن زمزم هي عين مكة التي يردها الحجيج والعمار من كل جانب، فيحملون إليها البر والشعير، وغير ذلك وهي لا تحرث ولا تزرع كما قال سبحانه خبرًا عن إبراهيم عليه السلام:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] إلى قوله: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] وقرية النمل لا تحرث ولا تبذر، وتجلب الحبوب إلى تربتها من كل جانب، وفى مكة قال الله سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112]

ص -134-      هُذَيْم، قال. نعم قال: وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فَنِيَ ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمِئُوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقَوْا من معهم من قبائل قريش، فأبَوْا عليهم، وقالوا: إنَّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما يتخوَّف على نفسه وأصحابه، قال: ما تَرَوْن؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت، قال: فإنىّ أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضَيْعَةُ رجل واحد أيسر من ضَيْعة رَكْب جميعًا قالوا: نِعْم ما أمرت به فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءَنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، ولا نبتغى لأنفسنا، لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحِلوا، فارتحَلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبَّر عبد المطلب وكبَّر أصحابه، ثم نزل فشرِب، وشرب أصحابه، واستَقَوْا حتى ملئوا أسقيَتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلُمّ إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا. ثم قالوا: قد – والله– قضى لك علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبدًا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفَلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا. فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلَّوْا بينه وبينها.
قال ابن إسحاق: فهذا الذي بلغني من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في زمزم، وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم:
ثم ادعُ بالماء الرَّوِيِّ غيرِ الكَدِرْ                يسقي حجيجَ الله في كل مَبَرْ1
ليس يُخافُ منه شيء ما عَمَر
فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال: تعلَّموا أني قد أمرت أن أحفر لكم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقوله: ماء روى بالكسر والقصر، ورواء بالفتح والمد. وفيه: مبر: هو مفعل من البر يريد: في مناسك الحج ومواضع الطاعة.

ص -135-      زمزم، فقالوا: فهل بُيِّن لك أين هي؟ قال: لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت؟ فإن يك حقًّا من الله يُبيَّن لك، وإن يكن من الشيطان فلن يعودَ إليك. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه، فنام فيه، فأتي فقيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندمْ، وهى تراث من أبيك الأعظم، لا تنزِف أبدًا ولا تُذَم، تسقي الحجيجَ الأعظم، مثل نعام جافل لم يُقْسَم، ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعَقْدًا مُحْكَم؟ ليست كبعضِ ما قد تعلم، وهي بين الفَرْثِ والدم.
قال ابن هشام: هذا الكلام، والكلام الذي قبله، من حديث عَلي في حفر زمزم من قوله: "لا تنزف أبدا ولا تُذَم" إلى قوله: "عند قرية النمل" عندنا سجع وليس شعرًا.
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين قيل له ذلك، قال: وأين هي؟ قيل له عند قرية النمل، حيث ينقر الغرابُ غدًا. والله أعلم أي ذلك كان.
عبد المطلب يحفر زمزم: فغدا عبد المطلب ومعه ابنهُ الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فوجد قريةَ النمل ووجد الغرابَ ينقر عندها بين الوثنين:إساف ونائلة، اللذيْن كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها فجاء بالمِعْوَل وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش حين رأوا جِدَّه، فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثَنَيْنا هذين اللَّذيْن ننحر عندهما، فقال عبد المطلب لابنه الحارث: ذُدْ عني حتى أحفر، فوالله لأمضينَّ لما أمرت به، فلما عرفوا أنه غيرُ نازع خَلَّوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرًا. حتى بدا له الطي، فكبر وعَرِف أنه قد صُدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزاليْن من ذهب، وهما الغزالان اللَّذان دَفنت جُرْهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قَلْعية وأدراعًا فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شِرْك وحقّ، قال: لا، ولكن هَلُمّ إلى أمر نَصَفٍ بيني وبينكم، نضرب عليها بالقِداح، قالوا: وكيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قِدْحَيْن، ولي قِدْحَيْن ولكم قِدْحَيْن فمن خرج له قِدْحاه على شيء كان له، ومن تخلَّف قدحاه فلا شيء له قالوا: أنصَفْت، فجعل قِدْحين أصفرين للكَعبة، وقِدْحَيْن أسودين لعبد المطلب، وقِدْحَيْن أبيضين لقريش، ثم أعطوا القداحَ صاحبَ القداحِ الذي يُضرب بها عند هُبل، وهُبل: صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم، وهو الذي يعني أبو سفيان بن حرب يوم أحد حين قال: أعْلِ هُبَل أي أظهرْ دينك، وقام عبد المطلب

ص -136-      يدعو الله عز وجل، فضرب صاحب القداحِ القداحَ، فخرج الأصْفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان في الأسياف، والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قَدَحَا قريش. فضرب عبد المطلب الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حُلِّيته الكعبة -فيما يزعمون- ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج.
ذكر بئار قبائل قريش:
قال ابن هشام: وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارًا بمكة1، فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق، قال:
عبد شمس يحفر الطَّوِي: حفر عبد شمس بن عبد مناف الطَّوِيَّ، وهى البئر التي بأعلى مكة عند البيضاء، دار محمد بن يوسف.
هاشم يحفر بذَّر2: وحفر هاشم بن عبد مناف بَذَّر2، وهى البئر التي عند المسْتَنْذَر، خَطْم الخَنْدمة على فم شِعْب أبي طالب، وزعموا أنه قال حين حفرها: لأجعلنَّها بلاغًا للناس.
قال ابن هشام: وقال الشاعر:
سقى الله أمواهًا عرفتُ مكانَها                     جُرَابًا ومَلْكوما وبَذَّرَ والغَمْرا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكروا أن قصيًّا كان يسقي الحجيج في حياض من أدم، وكان ينقل الماء إليها من آبار خارجة من مكة منها: بئر ميمون الحضرمي، وكان ينبذ لهم الزبيب. ثم احتفر قصي العَجُول في دار أم هانئ بنت أبي طالب، وهي أول سقاية احتُفرت بمكة، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا، فقالوا:
نُروى على العَجُول، ثم ننطق                     إن قُصيًّا قد وفى وقد صدق
فلم تزل العجول قائمة حياةَ قصي، وبعد موته، حتى كبر عبد مناف بن قصي، فسقط فيها رجل من بني جُعَيل، فعطلوا العجول، واندفنت. انظر: "الروض الأنف، بتحقيقنا ج1 ص172".
2 لفظ بَذَّر مأخوذ من التبذير، وهو التفريق، ولعل ماءها كان يخرج متفرقًا من غير مكان واحد.

ص -137-      سَجْلَة والاختلاف فيمن حفرها: قال ابن إسحاق: وحفر سَجْلَة، وهي بئر المُطْعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف التي يَسْقون عليها اليوم. ويزعم بنو نوفل أن المُطْعِم ابتاعها من أسد بن هاشم، ويزعم بنو هاشم أنه وهبها له حين ظهرت زمزم، فاستغنوا بها عن تلك الآبار1.
أمية بن عبد شمس يحفر الحفر: وحفر أمية بن عبد شمس الحَفْر لنفسه.
بنو أسد تحفر سقية: وحفرت بنو أسد بن عبد العزى: سُقَيَّة، وهي بئر بني أسد2.
بنو عبد الدار تحفر أم أحْرَاد: وحفرت بنو عبد الدار: أمَّ أحْرَاد3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واحتفرت كل قبيلة بئرا، واحتفر قصي سجلة، وقال حين حفرها:
أنا قصي، وحفرتُ سجلهْ     تروي الحجيج زُغْلة فزغْلة
وقيل: بل حفرها هاشم، ووهبها أسد بن هاشم لعدي بن نوفل، وفي ذلك تقول خالدة بنت هاشم:
نحن وهبنا لعدي سجلة     تروي الحجيج زغلةً فزغلة
2 وهذه البئر تسمى أيضًا شفية بئر بني أسد، فقال فيها الحويرث بن أسد:
ماء شفية كماء المزن        وليس ماؤها بطرق أجن
3 وأما أم أحراد، فأحراد: جمع حِرد، وهى قطعة من السنام، فكأنها سميت بهذا؛ لأنها تنبت الشحم، أو تُسَمن الإبل، أو نحو هذا والحُرد: القطا الواردة للماء، فكأنها تردها القطا والطير، فيكون أحراد جمع: حُرد بالضم على هذا. وقالت أمية بنت عُمَيْلة بن السبَاق بن عبد الدار امرأة العوام بن خويلد حين حفرت بنو عبد الدار أم أحراد:
نحن حفرنا البحر أم أحراد      ليست كَبَذَّر البرور الجماد
فأجابتها ضرتها: صفية بنت عبد المطلب أم الزبير بن العوام رضي الله عنه:
نحن حفرنا بذر          نسقي الحجيج الأكبرْ
من مُقبل ومُدبر         وأم أحراد شَرّ

ص -138-      بنو جمح تحفر السُنبُلة: وحفرت بنو جُمَح: السُّنْبُلة، وهي بئر خَلَف بن وَهْب1.
بنو سهم تحفر الغمْر: وحفرت بنو سهم: الغَمْر، وهي بئر بني سَهْم2.
أصحاب رُم وخم والحفْر: وكانت آبار حفائر خارجًا من مكة قديمة من عهد مرة بن كعب، وكلاب بن مُرة، وكبراء قريش الأوائل منها يشربون، وهى رُمّ3، ورُمّ: بئر مرة بن كعب بن لؤيّ. وخُمّ4، وخُمّ: بئر بني كلاب بن مرة، والحَفْر. قال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤيّ:
قال ابن هشام: وهو أبو أبي جَهْم بن حُذَيفة:
وقِدْمًا غَنَينا قبل ذلك حِقْبة                    ولا نستقي إلا بخَم أو الحَفْرِ
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له، وسأذكرها إن شاء الله في موضعها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما سُنْبُلَة: بئر بني جمح، وهى بئر بني خلف بن وهب فقال فيها شاعرهم:
نحن حفرنا للحجيج سنبلة                   صوب سحاب ذو الجلال أنزلهْ
ثم تركناهما برأس القُنْبُلَة                     تصب ماءً مثل ماء المعبلهْ
نحن سقينا الناس قبل المسئله
2 وقال فيها بعضهم:
نحن حفرنا الغمر للحجيج                تثج ماء أيما ثجيج
3 رم بئر بني كلاب بن مرة فهي من رممت الشيء إذا أجمعته وأصلحته، ومنه الحديث: "كنا أهل ثُمة ورُمة"، ومنه: الرمان في قول سيبويه؛ لأنه عنده فعلان، وأما الأخفش فيقول فيه: فعال، فيجعل فيه النون أصلية، ويقول: إن سميت به رجلا صرفته. ومنه قول عبد شمس بن قصي:
حفرت رُمُّا، وحفرت خَما                     حتى ترى المجد بها قد تمَّا
4 وأما خُم، وهي بئر مرة، فهي من خممت البيت إذا كنسته، ويقال: فلان مخموم القلب أى: نقيه، فكأنها سميت بذلك لنقائها.

ص -139-      فضل زمزم على سائر المياه: قال ابن إسحاق: فعفَّت زمزم على المياه التي كانت قبلها يَسْقي عليها الحاجُّ وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام؛ ولفضلها على ما سواها من المياه؛ ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
بنو عبد مناف يفتخرون بزمزم: وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلِّها، وعلى سائر العرب، فقال مسافر بن أبي عمرو1 بن أمية بن عبد مناف، وهو يفخر على قريش بما ولوا عليهم من السِّقاية والرفادة، وما أقاموا للناس من ذلك، وبزمزم حين ظهرت لهم، وإنما كان بنو عبد مناف أهل بيت واحد، شَرَفُ بعضهم لبعض شَرَف وفضْلُ بعضهم لبعضٍ فضل:
ورثنا المجدَ من آبا              ئنا فَنَمَى بنا صعُدَا
ألم نَسْق الحجيجَ وننـ         ـحر الدلافة الرُّفدَا2
ونلقى عندَ تصريف الـ          ـمنايا شُدَّدا رُفُدَا3
فإن نَهْلِكْ، فلم                   نُمْلَك ومن ذا خالد أبدا
وزمزم في أرومتِنا               ونفقأ عينَ من حَسَدَا
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: وقال حذيفة بن غانم أخو بني عَدي بن كعب بن لؤي:
وساقي الحجيج، ثم للخبْز هاشمٌ               وعبد مناف ذلك السيد الفِهْري
طوى زمزمًا عندَ المقام فأصبحتْ                سقايتُه فخرًا على كلِّ ذي فَخْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واسم أبي عمرو: ذكوان، وهو الذي يقول فيه أبو سفيان:
ليت شعري مسافر بن أبي                     عمرو، وليتٌ يقولها المحزون
بورك الميت الغريب كما بو    رك نضح الرمان والزيتون
في شعر يرثيه به، وكان مات من حب صعبة بنت الحضرمي.
2 الرُّفد: جمع رفود من الرفد، وهي التي تملأ إناءين عند الحلب.
3 هو جمع رفود أيضًا من الرفد وهو: العون.

ص -140-      قال ابن هشام: يعني عبدَ المطلب بن هاشم. وهذان البيتان في قصيدة لحذيفة بن غانم سأذكرها في موضعها -إن شاء الله تعالى.
ذكر نذْر عبد المطلب ذبحَ ولده:
قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب بن هاشم -فيما يزعُمون والله أعلم- قد نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم: لئن وُلد له عَشرةُ نَفَر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه؛ لينحرنَّ أحدَهم لله عند الكعبة. فلما توافى بنوه عشرةً، وعرف أنهم سيمنعونه، جَمَعهم. ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قِدْحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني، ففعلوا، ثم أتَوْه، فدخل بهم على هُبل في جوف الكعبة، وكان هبل على بئر في جَوْف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يُجمع فيها ما يُهْدَى للكعبة.
قداح هبلُ السبعة: وكان عند هبل قِداح سبعة، كل قِدْح منها فيه كتاب. قِدْح فيه "العَقْل"، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه "نَعَم" للأمر إذ أرادوه يُضرب به القداح، فإن خرج قدح نعم، عملوا به. وقدح فيه "لا" إذا أرادوا أمرًا ضربوا به القِداح، فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر، وقِدْح فيه "منكم" وقدح فيه "مُلصَق"، وقدح فيه "من غيركم"، وقدح فيه "المياه"، إذا أرادوا أن يحفروا الماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القِدْح، فحيثما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو يُنكحوا مَنْكحا، أو يدفنوا مَيْتًا، أو شَكوا في نسب أحدهم، ذهبوا به إلى هُبَل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يَضْرب بها، ثم قرَّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان ابن فلان قد أردنا به كذا، فأخرج الحقَّ فيه. ثم يقولون لصاحب القِداح: اضرب: فإن خرج عليه: "منكم" كان منهم وسيطًا، وإن خرج عليه: "من غيركم" كان حليفًا، وإن خرج عليه: "مُلْصَق" كان على منزلته فيهم، لا نسب له، ولا حِلف، وإن خرج فيه شيء مما سوى هذا مما يعملون به "نعم" عملوا به، وإن خرج: "لا" أخروه عامه، وذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القِداح.

ص -141-      عبد المطلب يحتكم إلى القداح: فقال عبدُ المطلب لصاحب القِداح: اضرب على بَنيَّ هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذي نذر، فأعطاه كل رجل منهم قِدْحه الذي فيه اسمه، وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغر بني أبيه1، كان هو والزبير وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يَقَظَة بن مُرة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر.
قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم2.
خروج القداح على عبد الله: قال ابن إسحاق: وكان عبد الله فيما يزعمون: أحب ولد عبد المطلب إليه، فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشْوَى. وهو أبو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أخذ صاحب القِداحِ القداحَ، يضرب بها، قام عبد المطلب عند هُبل يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج القِدْح على عبد الله.
عبد المطلب يحاول ذبح ابنه ومنع قريش له: فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشَّفْرة ثم أقبل به إلى إِسَاف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه، فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا، حتى تُعْذر فيه. لئن فعلت هذا لا يزال الرجلُ يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاءُ الناس على هذا؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا غير معروف، ولعل الرواية: أصغر بني أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس: أصغر من حمزة، وروي عن العباس -رضي الله عنه- أنه قال: أذكر مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء بي حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لي: قبل أخاك، قبِّل أخاك، فقبلته، فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر مع هذا؟! ولكن رواه البكائي كما تقدم، ولروايته وجه، وهو أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم وُلد له بعد ذلك حمزة والعباس.
2 والصحيح ما قاله ابن هشام؛ لأن الزبيريين ذكروا أن عبدًا هو أخو عائذ بن عمران، وأن بنت عبد هي: صخرة امرأة عمرو بن عائذ على قول ابن إسحاق؛ لأنها كانت له عمة، لا بنت عم، فقد تكرر هذا النسب في السيرة مرارًا، وفى كل ذلك يقول ابن إسحاق: عائذ بن عبد بن عمران، ويخالفه ابن هشام، وصخرة بنت عبد أم فاطمة أمها تخمر بنت عبد بن قصي، وأم تخمر سلمى بنت عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر.

ص -142-      وقال له المغيرة بن عبد الله بن عَمرو بن مخزوم بن يَقَظة، وكان عبد الله ابن أخت القوم: والله لا تذبحه أبدًا، حتى تُعْذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل، وانطلقْ به إلى الحجاز فإن به عَرَّافة1 لها تابع، فسلْها، ثم أنت على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله في فرج قبلته.
ما أشارت به عَرَّافة الحجاز: فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها -فيما يزعمون- بخيبر. فركبوا حتى جاءوها، فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه، وما أراد به ونذرَه فيه، فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله. فرجعوا من عندها، فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرٌ من الإبل، وكانت كذلك. قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشرًا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقِدَاح، فإن خرجت على صاحبكم، فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجتْ على الإبل فانحروها عنه، فقد رضيَ ربُّكم، ونجا صاحبُكم2.
تنفيذ وصية العرافة ونجاة عبد الله: فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر، قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرًا من الإبل، وعبد المطلب قائم عند هبل يدعو الله عز وجل!! ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل ثلاثين، وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الِإبل، فبلغت الإبل أربعين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل خمسين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل ستين، وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل،.فبلغت الإبل سبعين، وقام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسمها: قُطبة. ذكرها عبد الغني في كتاب الغوامض والمبهمات. وذكر ابن إسحاق في رواية يونس أن اسمها: سَجاح.
2 ومن هنا يعلم أن الدية كانت بعشر من الإبل قبل هذه القصة: وأول من وُدي بالمائة إذن: عبد الله. وقد ذكر الأصبهاني عن أبي اليقظان أن أبا سيارة هو أول من جعل الدية مائة من الإبل، وأما أول من وُدي بالإبل من العرب: زيد بن بكر بن هوازن قتله أخوه معاوية جد بني عامر بن صعصعة.

ص -143-      عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل ثمانين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل تسعين، وقام عبد المطلب يدعو الله ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد الله، فزادوا عشرًا من الإبل، فبلغت الإبل مائة، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربِّك يا عبد المطلب، فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضربَ عليها ثلاثَ مرات، فضربوا على عبد الله، وعلى الإبل، وقام عبد المطلب يدعو الله، فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية، وعبد المطلب قائم يدعو الله، فضربوا، فخرج القِدْح على الإبل، ثم عادوا الثالثة، وعبد المطلب قائم يدعو الله، فضربوا، فخرج القِدْح على الإبل، فنُحرت، ثم تُركت لا يُصَدُّ عنها إنسان ولا يُمْنَع.
قال ابن هشام: ويقال: إنسان ولا سَبُعٌ.
قال ابن هشام: وبين أضعاف هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر.
ذكر المرأة المتعرضة لنكاح عبد الله بن عبد المطلب:
عبد الله يرفضها: قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذًا بيد عبد الله، فمر به -فيما يزعمون- على امرأة من بني أسَد1 بن عبد العزى بن قصي بن كلاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويروى أن عبد الله بن عبد المطلب حين دعته المرأة الأسدية إلى نفسها لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبي، فتكون أمه دون غيرها، فقال عبد الله حينئذ فيما ذكروا:
أما الحرام فالحمِام دونه    والحل لا حِلَّ فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه                     يحمي الكريم عرضه ودينه؟!
واسم هذه المرأة: رقية بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل، تكنى: أم قتال، وبهذه الكنية =

ص -144-      ابن مرة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهر: وهي أخت ورقة بن نَوْفل بن أسد بن عبد العُزَّى، وهى عند الكعبة. فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي. قالت: لك مثلُ الإبل التى نُحرت عنك، وقَعْ عَليَّ الآن. قال: أنا مع أبي، ولا أستطيع خلافه، ولا فراقه.
عبد الله يتزوج آمنة بنت وهب: فخرج به عبدُ المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مَناف بن زُهْرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر -وهو يومئذ سيد بني زُهرة نسبًا وشرفًا– فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ- أفضلُ امرأة في قريش نَسبًا وموضعًا.
أمهات آمنة: وهى لبرَّة بنت عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصيّ بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر. وبَرَّة لأم حبيب بنت أسَد بن عبد العُزّى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر. وأم حبيب: لبرة بنت عَوْف بن عُبيد بن عُوَيْج بن عدي بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهر.
سبب زهد المرأة المعترضة لعبد الله فيه: فزعموا أنه دخل عليها حين أمْلِكها مكانه، فوقع عليها، فحملت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقع ذكرها فى رواية يونس عن ابن إسحاق، وذكر البرقي عن هشام بن الكلبي، قال:
إنما مر على امرأة اسمها: فاطمة بنت مر، كانت من أجمل النساء وأعفهن، وكانت قرأت الكتب، فرأت نور النبوة في وجهه، فدعته إلى نكاحها، فأبى، فلما أبى قالت:
إني رأيت مُخِيلهً نشأت                    فتلألأت بحناتم القطر
فَلَمَأتهُا نورًا يضيء به     ما حوله كإضاءة الفجر
ورأيت سُقياها حيا بلد                     وَقَعَت به وعِمارة القفر
ورأيته شرفا أبوء به        ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهرية سلبت       منك الذي استَلَبَتْ وما تدري
وفي غريب ابن قتيبة: أن التي عرضت نفسها عليه هي: ليلى العدوية.

ص -145-      قالت له: فارقك النورُ الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة. وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل -وكان قد تنصَّر واتبع الكتب: أنه كائن في هذه الأمة نبي.
قصة حمل آمنة برسول الله -صلى الله عليه وسلم: قال ابن إسحاق: وحدثني أبي: إسحاقُ بن يسار: أنه حُدِّث، أن عبد الله إنما دخل على امرأة. كانت له مع آمنة بنت وهب، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به أثر الطين، فخرج من عندها فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك الطين، ثم خرج عامدًا إلى آمنة، فمرَّ بها، فدعته إلى نفسها، فأبى عليها، وعمد إلى آمنة، فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ثم مر بامرأته تلك: فقال لها: هل لك؟ قالت: لا، مررتَ بي وبين عينيك غُرةٌ بيضاء، فدعوتُك فأبيْت علي، ودخلت على آمنة فذهَبَتْ بها.
قال ابن إسحاق: فزعموا أن امرأته تلك كانت تُحدث: أنه مر بها وبين عينيه غرة مثل غرة الفرس، قالت: فدعوتُه رجاءَ أن تكون تلك بي، فأبى عليّ، ودخل على آمنة، فأصابها، فحملت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أوسطَ قومه نسبًا، وأعظمهم شرفًا من قِبل أبيه وأمِّه -صلى الله عليه وسلم.
ذكر ما قيل لآمنة عند حملها برسول الله -صلى الله عليه وسلم
رؤيا آمنة: ويزعمون -فيما يتحدث الناسُ -والله أعلم- أن آمنة ابنة وهب أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تُحدِّثُ:
أنها أتيت حين حَملت برسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض، فقولي: أعيذه بالواحد، من شرّ كل حاسد، ثم سميه: محمدًا1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله -صلى الله عليه وسلم- إلا ثلاثة طمع آباؤهم -حين سمعوا بذكر محمد -صلى الله عليه وسلم- وبقرب زمانه، وأنه يُبعث في الحجاز، أن يكون ولدًا لهم. وذكرهم ابن فورك فى كتاب الفصول، وهم محمد بن سفيان بن مجاشع جد جد الفرزدق الشاعر. والآخر: محمد بن أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جمحي بن كُلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، والآخر: محمد بن حمران بن ربيعة وكان آباء هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملًا، فنذر كل واحد منهم: إن وُلد له ذكر أن يسميه محمدًا، ففعلوا ذلك.
وهذا الاسم منقول من الصفة، فالمحمد فى اللغة هو الذي يحمد حمدًا بعد حمد، ولا يكون مفعل مثل: مضرب وممدح إلا لمن تكرر فيه الفعل مرة بعد مرة.

ص -146-      ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بُصْرَى، من أرض الشام.
وفاة عبد الله: ثم لم يلبثْ عبدُ الله بن عبد المطلب، أبو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن هلك، وأمُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حامل به1.
ولادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
ابن إسحاق يحدد الميلاد: قال حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكَّائي عن محمد بن إسحاق قال: وُلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، لاثنتيْ عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، عامَ الفيل2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أكثر العلماء على أنه كان في المهد. ذكره الدولابي وغيره، وقيل: ابن شهرين ذكره ابن أبي خيثمة، وقيل: أكثر من ذلك، ومات أبوه عند أخواله بني النجار، ذهب ليمتار لأهله تمرًا، وقد قيل، مات أبوه، وهو ابن ثمانٍ وعشرين شهرًا.
2 ذكر أن مولده عليه السلام كان في ربيع الأول، وهو المعروف وقال الزبير: كان مولده في رمضان، وهذا القول موافق لقول من قال: إن أمه حملت به فى أيام التشريق، والله أعلم.
وذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم، وأنه -صلى الله عليه وسلم- وُلد بعد مجيء الفيل بخمسين يومًا. وهو الأكثر والأشهر، وأهل الحساب يقولون: وافق مولده من الشهور الشمسية نيسان "أبريل"، فكانت لعشرين مضت منه، وولد بالغَفْر من المنازل؛ وهو مولد النبيين، ولذلك قيل: خير منزلتين فى الأبد بين الزنابا، والأسد؛ لأن النفر يليه من العقرب ذناباها، ولا ضرر في الذنابا إنما تضر العقرب بذنبها، ويليه من الأسد أليته، وهو السماك، والأسد لا يضر بأليته إنما يضر بمخلبه ونابه.
وولد بالشعب، وقيل بالدار التي عند الصفا، وكانت بعدُ لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ثم بنتها زبيدة مسجدًا حين حجت.

ص -147-      قال ابن إسحاق: وحدثني المطَّلب بن عبد الله بن قيس بن مَخْرَمة عن أبيه عن جَده قَيْس بن مَخْرمة. قال:
وُلدت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفيل: فنحن لِدَتَانِ.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالحُ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرَارة الأنصاري. قال: حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت، قال: والله إني لغلام يفعَة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًّا يصرخ بأعلى صوته على أطَمَة بيثْرب: يا معشرَ يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له: ويلك ما لك؟! قال: طلع الليلةُ نَجمُ أحمد الذي وُلد به.
قال ابن إسحاق: فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فقلت: ابن كم كان حسان بن ثابت مَقْدَم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المدينة؟ فقال: ابن ستين، وقدمها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع، وهو ابن سبع سنين.
إعلام جده لولادته وما فعله به: قال ابن إسحاق: فلما وضعته أمه -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى جَدِّه عبد المطلب: أنه قد وُلد لك غلام، فأته فانظرْ إليه، فأتاه فنظر إليه، وحَدَّثَتْه بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت به أن تسمِّيَه.
فيزعمون أن عبد المطلب أخذه، فدخل به الكعبة فقام يدعو الله، ويشكر له ما أعطاه1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فى غير رواية ابن هشام أن عبد المطلب قال وهو يعوذه:
الحمد للّه الذي أعطاني             هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد فى المهد على الغلمان                     أعيذه بالبيت ذي الأركان
حين يكون بلغة الفتيان              حين أراه بالغ البنيان
أعيذه من كل ذي شنآن             من حاسد مضطرب العِنان
ذي همة ليس له عينان             حتى أراه رافع اللسان
أنت الذي سُميت في القرآن        في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوب على البيان

ص -148-      ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، والتُمس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرُّضعاءُ1.
قال ابن هشام: المراضع. وفي كتاب الله تبارك وتعالى في قصة موسى عليه السلام:
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}2 [القصص: 12].
مرضعته حليمة: قال ابن إسحاق: فاسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر. يقال لها: حليمة ابنة أبي ذُؤيْب.
نسب مرضعته: وأبو ذُؤيْب: عبد الله بن الحارث بن شِجْنَة بن جابر بن رِزام بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وسبب دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع، فقد يكون ذلك لوجوه. أحدها: تفريغ النساء إلى الأزواج، كما قال عمار بن ياسر لأم سلمة -رضي الله عنها- وكان أخاها من الرضاعة، حين انتزع من حجرها زينب بنت أبي سلمة، فقال: "دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي آذيت بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، وقد يكون ذلك منهم أيضًا لينشأ الطفل في الأعراب، فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسمه، وأجدر ألا يفارق الهيئة المعدية، كما قال عمر رضي الله عنه: تمعددوا وتمعززوا واخشوشنوا. وقد قال عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه حين قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله، فقال: "وما يمنعني، وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد؟" فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات.
وقد ذُكر أن عبد الملك بن مروان كان يقول: أضرَ بنا حب الوليد؛ لأن الوليد كان لحَّانًا وكان سليمان فصيحًا؛ لأن الوليد أقام مع أمه، وسليمان وغيره من إخوته سكنوا البادية، فتعربوا، ثم أدبوا فتأدبوا. وكان من قريش أعراب، ومنهم حفر، فالأعراب منهم: بنو الأدرم وبنو محارب، وأحسب بني عامر بن لؤيّ كذلك؛ لأنهم من أهل الظواهر؛ وليسوا من أهل البطاح.
2 الذي قاله ابن هشام ظاهر؛ لأن المراضع جمع مُرْضِع، والرضعاء: جمع رضيع؛ ولكن لرواية ابن إسحاق مخرج من وجهين: أحدهما حذف المضاف كأنه قال، ذوات الرضعاء والثانى: أن يكون أراد بالرضعاء: الأطفال على حقيقة اللفظ؛ لأنهم إذا وجدوا له مرضعة ترضعه، فقد وجدوا له رضيعًا، يرضع معه، فلا يبعد أن يقال: التمسوا له رضيعًا علمًا بأن الرضيع لا بد له من المرضع.

ص -149-      ناصرة بن فُصَيَّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عِكرمة بن خَصَفة بن قَيْس بن عَيْلان.
زوج حليمة ونسبه: واسم أبيه الذي أرضعه -صلى الله عليه وسلم– الحارث بن عبد العُزَّى بن رفاعة بن مَلان بن ناصرة بن فُصَيَّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن1.
قال ابن هشام ويقال: هلال بن ناصرة.
أولاد حليمة: قال ابن إسحاق: وإخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنَيْسة بنت الحارث، وخِذامة2 بنت الحارث، وهي الشيماء، غلب ذلك على اسمها فلا تُعرف في قومها إلا به. وهم لحليمة بنت أبي ذؤيب، عبد الله بن الحارث، أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويذكرون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذْ كان عندهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني جَهْم بن أبي جَهْم مولى الحارث بن حاطب الجُمحي، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أو عمن حدثه عنه قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم يذكر له إسلامًا، ولا ذكره كثير ممن ألف في الصحابة، وقد ذكره يونس بن بُكير فى روايته، فقال: حدثنا ابن إسحاق قال: حدثني والدي: إسحاق بن يسار، عن رجال من بني سعد بن بكر قال: قدم الحارث بن عبد العُزَّى، أبو رسول اللَه -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة حين أنزل عليه القرآن، فقالت له قريش: ألا تسمع يا حارِ -ترخيم لحارث- ما يقول ابنك هذا؟ فقال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يَبعث بعد الموت، وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه، ويكرم فيهما من أطاعه، فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا. فأتاه، فقال: أي بني ما لك، ولقومك يشكونك، ويزعمون أنك تقول: إن الناس يُبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: نعم أنا أزعم ذلك ولو قد كان ذلك يا أبت، لقد أخذت بيدك، حتى أعرِّفك حديثَك اليوم، فأسلم الحارث بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو قد أخذ ابني بيدي، فعرفني ما قال، لم يرسلني إن شاء الله حتى يُدخلني الجنة.
2 خذامة بكسر الخاء المنقوطة، وتال غيره: حُذافة بالحاء المضمومة وبالفاء مكان الميم، وذكره يونس في روايته عن ابن إسحاق، وكذلك ذكره عمر بن عبد البر في كتاب النساء.
Share to:

معجبين برنامج تحفيظ القران الكريم على الفايسبوك